مدخل إلى التحليل البنيوي للمحكيات – رولان بارث (1)
– مستويات المعنى
تقدم اللسانيات إلى التحليل البنيوي للمحكي، منذ البداية، تصوراً حاسماً، لأنها تهتم مباشرة بكل ما هو أساسي في أي نظام للمعنى، أي طريقة تنظيمه، وتسمح، في وقت واحد، بالتعبير عن كيفية أن المحكي ليس مجموعة بسيطة من العبارات، وبتصنيف الكمية الكبيرة من العناصر التي تدخل في تركيب المحكي.
هذا التصور هو تصور مستوى الوصف12. إننا نعرف أن الجملة يمكن أن توصف على مستويات عديدة (صوتية، من حيث العناية بالأصوات الإنسانية شرحاً وتحليلاً، والقيام بالتجارب عليها دون نظر خاص إلى ما تنتمي إليه من لغات، وإلى أثر تلك الأصوات في اللغة من الناحية العملية، أو من حيث البحث في الأصوات ذات الوظيفة الدلالية في إحدى اللغات كالبحث في السين والصاد مثل سبر وصبر، ونحوية وسياقية)، تقع هذه المستويات ضمن علاقة تراتبية، لأنه إذا كان لكل مستوى وحداته وعلاقاته الخاصة به، مما يجبر كل مستوى من هذه المستويات على وصف مستقل، فإن أياً منها لا يستطيع لوحده أن ينتج معنى: كل وحدة تنتمي إلى مستوى معين لا تمتلك معنى إلا إذا استطاعت الاندماج بمستوى أعلى: الظاهرة في ذاتها، لا تدل على شيء على الرغم من أنها قابلة للوصف بصورة كاملة؛ وهي لا تشارك في المعنى المندمج في كلمة، وعلى الكلمة نفسها أن تندمج في الجملة13.
تقدم نظرية المستويات (مثلما عبر عنها بينفنست) نموذجين من العلاقات: العلاقات التوزيعية (إذا كانت العلاقات متموضعة على مستوى واحد)، والعلاقات الاندماجية (إذا كانت منقولة من مستوى إلى مستوى آخر). ينتج عن ذلك، أن العلاقات التوزيعية لا تكفي لإدراك المعنى. من أجل القيام بتحليل بنيوي، يجب أولاً، تمييز أحكام عديدة للوصف، ووضع هذه الأحكام ضمن منظور تراتبي (اندماجي). المستويات هي عمليات14. من الطبيعي، إذن، أن تحاول اللسانيات الإكثار منها، خلال عملية تطورها. ما زال تحليل الخطاب غير قادر على العمل إلا على مستويات أولية كانت البلاغة قد حددت للخطاب، بطريقتها، خطتي وصف: هما التنظيم والبيان.
قرر كلود ليفي شتراوس، في تحليله لبنية الأسطورة، أن الوحدات المكونة للخطاب الأسطوري لا تحمل دلالة إلا لأنها مجموعة ضمن مجموعات، وهذه المجموعات نفسها تتحد فيما بينها16، ويقترح تودوروف، وهو يعيد أخذ فكرة الشكلانيين الروس، العمل على مستويين كبيرين، ينقسمان بدورهما إلى أقسام صغرى: القصة (البرهان) المتضمنة لمنطق الأفعال، و “علم تركيب كلام” الشخصيات، والخطاب المشتمل على أزمنة الحكي، وصيغه،ونماذجه17.
مهما يكن عدد المستويات الذي نقترحه، والتعريفات التي نعطيها عنها، لا يمكن أن نثق إلا بأن المحكي هو ترتيب للأحكام. إن فهم حكاية معينة، لا يعني فقط متابعة فك خيط القصة، ولكنه يعني أيضاً التعرف على “الطبقات” فيها، وإسقاط العلاقات الأفقية “للخيط” السردي على محور عامودي ضمني، إن قراءة حكاية (أو الاستماع إليها) لا تعني فقط الانتقال من كلمة إلى كلمة أخرى، ولكنها تعني أيضاً الانتقال من مستوى إلى مستوى آخر.
سأسمح لنفسي هنا بانتهاج نوع من الدفاع: في “الرسالة المسروقة” يحلل الشاعر الأمريكي “بو” بدقة فشل مدير الشرطة العاجز عن إيجاد الرسالة: كانت حملاته التفتيشية دقيقة وكاملة، مثلما يقول، “ضمن دائرة اختصاصه”: لم يهمل ضابط الشرطة أي مكان، و”أشبع بصورة كاملة مستوى التفتيش”، ولكن من أجل العثور على الرسالة التي يحميها بيقظته؛ كان يجب الانتقال إلى مستوى آخر، واستبدال حصافة رجل البوليس بحصافة مخفي الرسالة.
وبالطريقة نفسها، إن “التفتيش” الذي تم على مجموعة أفقية من العلاقات السردية، لم يكتمل، ولكي يكون فعالاً، يجب أن يتوجه أيضاً، “عمودياً”: لا يتموضع المعنى في “نهاية الحكاية”، إنه يتجاوزها؛ وهو واضح أيضاً كالرسالة المسروقة، ولا يمكن أن يضيع إلا في البحث وحيد الجانب.
وهناك دراسات ما زالت ضرورية لكي يمكننا التأكد من مستويات المحكي. وما سنقترحه هنا يشكل صيغة مؤقتةً، وأهميتها تعليمية حصراً: إنها تسمح بتحديد المشكلات وتجميعها، من دون أن نختلف، كما نعتقد، مع بعض التحليلات السابقة. إننا نقترح التمييز بين ثلاثة مستويات للوصف ضمن العمل السردي: مستوى الوظائف (بالمعنى الذي تحمله هذه الكلمة عند بروب وعند بريمون)، ومستوى الأفعال (بالمعنى الذي تحمله هذه الكلمة عند غريماس عندما يتحدث عن الشخصيات كشخصيات فاعلة)، ومستوى “السرد” (الذي هو، بوضوح، مستوى الخطاب عند تودوروف).
نريد أن نذكر أن هذه المستويات الثلاثة ترتبط فيما بينها وفق نموذج الاندماج التدريجي: لا معنى للوظيفة في ذاتها إلا إذا أخذت موقعها ضمن العمل العام لفاعل معين؛ وهذا العمل نفسه يأخذ معناه الأخير من حقيقة أنه مسرود، ومعهود به إلى خطاب له قانونه الخاص به.
ـ ترجمة : غسان السيد