أدب الرحلة العربي الحديث ؟
عندما ظهرت الرواية نوعا سرديا في الغرب لم تنل حظها من الاهتمام الأكاديمي والاهتمام النقدي في بداية عهدها. لكن مع الزمن تكرست لها منجزات عُدت كلاسيكيات، وعرفت بعد ذلك تطورا كبيرا جعلها تتربع على العرش الأدبي، مزيحة كل الأجناس والأنواع التقليدية من دائرة الاهتمام، بل إن كثرة التنظيرات التي أحاطت بها في مختلف الدراسات الأدبية والتطبيقات النقدية بوأتها مكانة خاصة، منحتها خصوصية القدرة على استيعاب كل أجناس الخطابات وأنواعها التي ينتجها الإنسان، بهدف التواصل والتفاعل. صارت الرواية تبعا لذلك ليس فقط نوعا من الأنواع السردية، بل أضحت جنس الأجناس. هذا التصور العام هو ما انتهى إلينا مما حققته الرواية الغربية منذ القرن التاسع عشر إلى الآن.
لقد حجب هذا التصور الطابع النوعي السردي للرواية، في النظر والعمل العربيين، وأدى إلى اعتبار أي نص سردي بمواصفات الرواية رواية على وجه الإطلاق. ولعل من العوامل التي ساهمت في ذلك عربيا، بروز مفهوم السرد بالمعنى الحديث في الأدبيات العربية. إن كل تعريفات السرد، منذ الحقبة البنيوية إلى الآن، تعاملت معه باعتباره جنسا يتعالى على كل الأجناس، لكونه موجودا ومتضمنا في كل شيء. وقولة رولان بارث في هذا الصدد صارت حقيقة لا يجادل فيها أحد.
كان من نتائج هذا التعريف أن صارت الرواية هي المستفيد الأكبر منه، سواء على المستوى المعرفي أو الأدبي، نظرا لما راكمته في صيرورتها، وللدور الذي ساهمت به في تطوير النظريات السردية المختلفة. لكن تطور أنواع سردية، من داخل الرواية، أو بموازاة معها جعل بالإمكان عدم المغالاة في إحلال الرواية محل السرد على وجه الإجمال، ودفع في اتجاه تأكيد أن شروطا خاصة أعطت للرواية هذه الخصوصية في العصر الحديث، وأنها باعتبارها نوعا سرديا يمكنها أن تتواجد إلى جانب أنواع سردية أخرى، حتى إن كانت تحتل مكانة متميزة عنها.
يؤكد هذا المنحى أن الرواية راكمت في تاريخها إمكانيات جعلتها، من جهة، تستوعب تقنيات ومواد حكائية من أنواع سردية تقليدية متعددة، كان لها حضورها السردي حتى قبل ظهورها (التاريخ، السيرة، الرحلة، الجغرافيا) ومن جهة ثانية كان لهيمنة بعض تلك التقنيات والمواد أن تطورت في أنواع روائية فرعية خاصة. وبات كل نوع منها يراكم له تاريخه الخاص، سواء من خلال الرواية ذاتها، أو باستقلال عنها. وقد ساهم هذا في تطور نظرية الأنواع السردية، بصفة عامة، والروائية بصورة خاصة، كما يمكن أن نلاحظ ذلك في الأدبيات الغربية المعاصرة التي أولتها ما تستحق من العناية عكس ما عرفته الدراسات العربية التي انشغلت بالرواية.
الرحلة نوع سردي عربي عريق. قدم فيه العرب تراثا مهما في فترات ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وانحسارها.
من الأنواع السردية التقليدية، ما قبل الروائية، نجد الرحلة. إن الرحلة نوع سردي عربي عريق. قدم فيه العرب تراثا مهما في فترات ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وانحسارها. وليست الرواية، كما تحققت نوعا سرديا في العصر الحديث سوى «رحلة» بحث واستكشاف ليس كما كان يفعل الرحالة قديما، وهو يجوب الفضاءات، ويصف الممالك والمسالك ويعدد المهالك، أو يلتقي الرجال ويأخذ عنهم، من تاريخ خروجه من موطنه إلى أن يعود إليه. الرواية رحلة استكشاف للواقع والذات والتاريخ والإنسان، بكيفية مختلفة عن الطريقة التي سلكها الرحالة مؤسسا لنوع سردي له خصوصيته ومقاصده. إن الأحداث والأزمنة والأمكنة وطرق السرد التي نجدها في الرواية لا تختلف في مدى تجليها عن نظيرتها في الرحلة، إلا بحسب ما تفرضه قواعد النوع في أي منهما. لقد استوعبت الرواية بعض ثيمات وموضوعات وتقنيات الرحلة، بمعناها التقليدي، ولكنها وظفتها بما يتلاءم مع قواعد الشكل الروائي الحديث والمتطور مع الزمن، لذلك يمكننا أن نجد الكثير من الروايات تنبني على أساس الرحلة ولكنها تقدم بطريقة مختلفة عن الرحلة بمعناها القديم.
تؤكد نظرية الأجناس أن بروز الأنواع وتطورها، وانحسارها واختفاءها رهين بجملة من الشروط التي تتحكم في واقعها ومآلها، لذلك نجد أدب الرحلة العربي قد تجدد في العصر الحديث، بسبب عوامل كثيرة لعل أهمها تطور وسائل النقل، وانفتاح العوالم، وازدهار السياحة. وصارت الوسائط المتعددة والمتفاعلة تسهم في التعرف على العوالم المختلفة، وتدفع في اتجاه «المغامرة» بهدف الاستكشاف، أو فقط إلى «السياحة» لتحقيق متعة عابرة. ساهمت التحقيقات، والأفلام الوثائقية والموسوعات المختلفة في تقديم مواد هائلة حول ما يزخر به العالم، في التحفيز على تحصيل المعرفة والمتعة. وكان من آثار كل ذلك أن صار من يقدم على الرحلة، ولو لمقاصد لا علاقة لها بالرحلة في ذاتها (المشاركة في مؤتمر)، من جهة، أو للسياحة (إلى بلد أجنبي)، من جهة ثانية، أو بهدف الرحلة (من أجل الرحلة)، من جهة ثالثة، أن يكتب مشاهداته وتأملاته وما تحصل له من خلالها، محاولا إشراك القارئ معه في التعرف على معايناته وما طرأ له أثناء سفره.
كان من نتائج ذلك بروز كتابات كثيرة في الأدب العربي الحديث. فمتى يكتسب هذا النوع شرعيته السردية ضمن الأنواع السردية الأخرى؟
مشكورين جدا مجهود يذكر فيشكر
هل مناك دراسات في الحضارة والادب العربي حول رحلات ابن بطوطة وابن جبير والمضليات وعن عبد الرحمان الكواكبي .مشكورين
سيتم تغذية هذا الحقل المهم بمزيد من الدراسات والمقالات المهمة .. تابعنا رجاءً