جيرار جُنيت عالِم السرديات
في يوم 11 مايو/أيار 2018 غادرنا جيرار جنيت. في الواقع غادر المشتغلين بالسرد والسرديات على المستوى العالمي. وحين أقول السرد والسرديات أقصد بذلك كل المشتغلين بالأدب والخطاب والعلامة أيا كانت اتجاهاتهم والتخصصات التي يشتغلون في نطاقها من العلوم اللسانية والأدبية والاجتماعية والإنسانية مرورا بالعلوم السياسية والاقتصادية والعلوم المعرفية ونظريات الذهن والرقميات، أي منذ أن بدأ «العقل السردي» يحتل مكانة أوسع من الأدب في الوقت الراهن باحتلاله مناطق جديدة من البحث والدراسة.
وحين يغادر أمثال جيرار جنيت العالم يكون لذلك أبلغ الأثر على الدراسات السردية. لقد ساهم في تأسيسها وتطويرها بمهارة البلاغي وصرامة العالم، وحذاقة الكاتب. وفي الوقت نفسه، وقد امتد به العمر ليطورها فاتحا منافذ عديدة يقصر عن إيفائها حقها كل المشتغلين بالسرد في اليابان والصين وأستراليا، ناهيك عن ألمانيا وإسبانيا وأمريكا وفرنسا.
في حصة الاثنين 14 مايو أبى بعض طلبة «ماستر الأدب العربي والمثاقفة» إلا تذكيري بيوم وفاته، ربما أملا في فتح قوس لا ينتهي إلا بانتهاء الحصة. لكنني بدل أن أفتح بابا للحديث عن الرجل ومزاياه في تأسيس السرديات وتطويرها، إلى حد أن امتداد عمره جعله يسابق كل الذين عملوا على تجاوزه، بالانتقال إلى السرديات ما بعد الكلاسيكية، التي صار يوسم بكونه واضع ركيزتها الأساسية من لدن كل السرديين المعاصرين، وأغلبهم من خارج فرنسا، واصلنا تطوير أسئلتنا حول «الأدب العربي» من خلال صياغة فرضيات جديدة للتفكير فيه من الزاوية الأجناسية والتاريخية والوسائطية، منطلقين في ذلك من الروح التي انتهجها جنيت في التفكير السردي بدون الإعلان عن ذلك بكيفية مباشرة.
تعرف المشتغلون بالأدب العربي الحديث والمعاصر على جيرار جنيت، في الحقبة البنيوية، من خلال الترجمة المغربية لكتابه، الذي انبثقت منه السرديات: «خطاب الحكاية: مقال في المنهج» التي شارك فيها محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي.
وتفرغ محمد معتصم، بعد ذلك، لترجمة ذيله «خطاب الحكاية الجديد» الذي رد فيه جنيت على منتقديه ومحللي كتابه. ومن تونس جاءت ترجمة كتابه «معمارية النص» التي اعتبرته «جامعا» للنص، في حين أنه في الواقع «مفرق» له لأنه كان بحثا في أجناسه وأنواعه. واهتم المغربي عبد الفتاح الحجمري بعتباته وكذلك الجزائري عبد الحق بلعابد. أما مصطفى المنصوري الجزائري أيضا، فرام معاينة أثر جيرار جنيت في النقد العربي.
لا شك أن لعامل اللغة دورا في اهتمام المغاربة بسرديات جنيت ونظرياته حول الأجناس والعتبات والألواح. أما في المشرق العربي فقد كان التعامل معه لا يتعدى الترجمات المغربية باستثناء الترجمة السورية لكتاب «ميتاليبس» (الانتقال المجازي) التي أنجزتها زبيدة بشار القاضي، التي لم تجد لها صدى يذكر رغم أهمية الكتاب.
ماذا بقي من جنيت عربيا؟ إذا استثنينا ما تم تداوله عن العتبات والمتعاليات النصية، لا نجد الاعتماد سوى على وجهة النظر عند تودوروف وبعض الاقتطاعات من نظريته عن الراوي وصيغ الخطاب؟ ما خلا ذلك يمكننا القول بأنه لم يبق منه شيء. وأنى لنا أن نبقي شيئا من حقبة نزعم أنها انتهت. فالبنيوية ماتت، والسرديات أفل نجمها، ولم يبق لنا سوى التطويح والمتاهة والضياع.
إن التصور الذي اشتغلنا به مع النظريات التي تأسست في ستينيات القرن الماضي قطعنا معها لأن فكرنا مبني على الانقطاع. أما في العالم الآخر، وضمنه أمريكا التي اختزلت «النظرية الفرنسية» في ستروس، ولاكان وفوكو واهتمت بشكل مفرط بديريدا، فإن الدارسين هناك يعودون الآن إلى جنيت معترفين بدوره الأساس في تأسيس السرديات، وصارت «السرديات الكلاسيكية» مختزلة فيه، بعد أن بات الحديث عن تطويراتها تحت مسمى «السرديات ما بعد الكلاسيكية» رهان مستقبل دراسة السرد حاليا، من خلال الاختصاصات المتداخلة والمتعددة.
مارسنا الاختزال مع البنيوية، ولم ننتبه إلى المشروع العلمي الذي مثّل نسغها. فلم نقدر المجهودات المركزية التي تأسست فيها على المستوى الأدبي، عموما والسردي خصوصا، خاصة مع ثلاثة أعلام كان لهم الدور المهم في إعطاء البنيوية ألقها وانبناءها على مشروع جديد للبحث في الخطاب والنص والعلامة. هؤلاء الأعلام الثلاثة هم: رولان بارث من جهة، وغريماس وجنيت من جهة ثانية. أما بارث فكان واضع الأحجار الأساسية في مختلف المجالات التي فكر فيها البنيويون.
إنه العقل المدبر والشمولي الذي لم يترك موضوعا لم يلامسه بموسوعية المفكر، ورهافة العالم العاشق. وهو بذلك ترك المجال لغريماس وجنيت، ليتفرغ كل منهما لتأسيس العلمين الأدبيين: السيميوطيقا والبويطيقا. فكان على غريماس أن ينشغل بالسيميائيات الأدبية عامة، والسيميائيات الحكائية خاصة. بينما عمل جنيت على تأسيس السرديات. لم تترجم إلا أعمال قليلة جدا لجنيت. أما غريماس فلم يترجم له أي كتاب كامل.
تم التعرف عربيا على الرجلين من خلال جوسيف كورتيس، وتودروف، فغطى كل منهما على العالم المؤسس. فكان الاختزال، بحيث لم نفرق بينهما، وبقيا في تصورنا بنيويين فقط.
أعمال جنيت تجاوزت المرحلة البنيوية، لكننا دفناه قبل وفاته، ولا تهمنا ذكراه.