في الفترة التاريخية التي كان يصوغ فيها سوسير تصوره الجديد للسانيات ويداعبه حلم في تأسيس علم جديد أطلق عليه السميولوجيا، كان الفيلسوف والسميائي الأمريكي شارل سندرس بورس ( 1839 – 1914) ينحت من جهته، انطلاقا من أسس إبستمولوجية مغايرة، تصورا آخر لهذا العلم سيسميه السميائيات.
والسميائيات عنده لا تنفصل من جهة عن المنطق باعتباره القواعد الأساسية للتفكير والحصول على الدلالات المتنوعة. ولا تنفصل من جهة ثانية عن الفينومينولوجيا باعتبارها منطلقا صلبا لتحديد الإدراك وسيروراته ولحظاته.
فهي باعتبارها تبحث في الأصول الأولية لانبثاق المعنى من الفعل الإنساني تقتضي، في تصوره، النظر إليها باعتبارها طرقا استدلالية يتم بموجبها الحصول على الدلالات وتداولها. وهذا ما دفع بورس إلى تعريف السميائيات باعتبارها منطقا، ف> المنطق في معناه العام، ليس سوى تسمية أخرى للسميائيات، تلك النظرية شبه الضرورية والشكلية للعلامات < (1).
وبهذا المعنى يمكن تصنيف الدلالات -التي تشكل غاية من غايات التأويل – إما باعتبارها حصيلة سيرورة قياسية ( induction) أو حصيلة لسيرورة استدلالية ( déduction) أو هي نتاج سيرورة افتراضية ( abduction). فالمؤول النهائي، باعتباره ما يغلق سلسلة التأويلات ويضع لها حدا، لا يمكن أن يخرج عن هذه الحالات الثلاث.
ومن جهة ثانية، فإن السميائيات مرتبطة ارتباطا وثيقا بعمليات الإدراك التي تقود الكائن البشري إلى الخروج من ذاته لينتشي بها داخل عالم مصنوع من ماديات يجهل عنها كل شيء. وفي هذا المجال يقترح بورس رؤية فينومينولوجية للإدراك ترى في كل الأفعال الصادرة عن الإنسان سيرورة بالغة التركيب والتداخل. فكل ما يفعله الإنسان وكل ما يجربه وكل ما يحيط به يمكن النظر إليه باعتباره تداخلا لمستويات ثلاثة.
فالعالم يمْثُل أمامنا في مرحلة أولى على شكل أحاسيس ونوعيات مفصولة عن أي سياق زماني أو مكاني، وهذا ما يشكل مقولة الأولانية. وتشير هذه المقولة إلى الإمكان فقط، فلا شيء يوحي بأن معطياتها قد تتحقق في واقعة ما. فالسعادة مثلا، قبل أن يكون هناك إنسان سعيد، لم تكن سوى حالة شعورية محتملة.
ويمْثُل في مرحلة ثانية باعتباره وجودا فعليا يأخذ على عاتقه تجسيد الأحاسيس والنوعيات في وقائع مخصوصة وهو ما يشكل مقولة الثانيانية، وتشير هذه المقولة إلى التحقق الفعلي، ( رجل سعيد مثلا ). ثم يمْثُل أمامنا، في مرحلة ثالثة، باعتباره قانونا، أى باعتباره مفاهيم تجرد المعطى من بعده المحسوس لكي تكسوه بغطاء مفهومي، وفي هذه الحالة نكون أمام القانون الذي سيمكننا من التعرف استقبالا على هذه الوقائع، وهو ما يتطابق مع مقولة الثالثانية، وهي التي تجعلنا نؤول سلوكا ما باعتباره دالا على السعادة لا التعاسة. ويصوغ بورس هذه السيرورة على الشكل التالي : أول يحيل على ثان عبر ثالث.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن فهم التصور البورسي للعلامة إلا من خلال استيعاب الميكانيزمات الإدراكية كما تصفها هذه السيرورة. إذ لا يشكل التعريف الذي يقدمه بورس للعلامة سوى الوجه المرئي الإجرائي لرؤية فلسفية ترى في التجربة الإنسانية كلها كيانا منظما من خلال هذه المقولات الثلاث التي تشير إلى سيرورة إدراكية غير مرئية، وهي مقولات تعد أصل ومنطلق إدراك الكون وإدراك الذات وإنتاج المعرفة وتداولها. فلا حدود تفصل في وجود الظواهر بين المرئي والمستتر، بين الممكن والمتحقق، فكل ما يؤثث هذا الكون يشكل وحدة تامة. ومع ذلك، فإن التنظيم المفهومي المجرد للتجربة الإنسانية يقتضي منا الفصل بين المستويات والمظاهر والمجالات.
وعلى هذا الأساس، فإن كلا من العلامة والمقولات الفينومينولوجية، تعودان إلى نفس المبدأ : الرغبة في التخلص من المعطيات الموجودة خارج الذات المدركة – وهي معطيات جوفاء لا تنتج دلالة ولا توفر حالات إدراك – في أفق صبها داخل قوالب الوجود أولا ثم المفاهيم ثانيا. فنحن لا ندرك العالم بشكل مباشر، ولا يمكن أن نقول عنه أي شيء في غياب علامات هي أداة التوسط المثلى ( شكل من الأشكال الرمزية )، أي في غياب المقولة الثالثة، إحدى المقولات الرئيسة في فينومينولوجيا الإدراك في مصطلحية بورس. فلا وجود لفكر بدون علامات، ولا يمكن أن نفكر خارج ما تقدمه هذه العلامات.
وتلك كانت التربة التي سيستنبت فيها بورس تصوره الفينومينولوجي. فالسميائيات حقل شاسع وثري وهو بذلك قادر على استيعاب كل معطيات التجربة الإنسانية وتحليلها وتصنيفها وتحديد مناطق التدليل داخلها. من هنا لن نقوم، في الميدان السيمائي، سوى باستعادة التقسيم الثلاثي الخاص بالإدراك في أفق تشييد سيرورات السميوز المتنوعة، وهي الأخرى سيرورة ثلاثية تتوزع على تفريعات ثلاثية.
فمن خلال المقولات الفينومينولوجية يمكن التعرف على العلامة باعتبارها صيغة تنظيمية للوقائع الإنسانية. فإذا كان الأول يحيل على الثاني عبر الثالث ( النوعيات أو الأحاسيس تتجسد في وقائع عبر قانون أو قاعدة تسمح بذلك )، فإن العلامة عند بورس تشتغل وفق نفس المبدأ : مبدأ الثلاثية ومبدأ الاحالة.
- مفهوم العلامة
إن العلامة في تصور بورس هي الوجه الآخر لإواليات الإدراك، لذا لا يمكن تصور سميائيات مفصولة عن عملية إدراك الذات وإدراك الآخر، إدراك “الأنا “وإدراك العالم الذي تتحرك داخله هذه ” الأنا “. فالتجربة الإنسانية، كما سبقت الإشارة، تشتغل بكافة أبعادها كمهد للعلامات : لحياتها ولنموها ولموتها أيضا. فلا شيء يفلت من سلطان العلامة، ولا شيء يمكن أن يشتغل خارج نسق يحدد له سمكه وطرق إنتاجه لمعانيه، ولا وجود لشيء يحلق حرا طليقا لا تحكمه حدود ولا يحد من نزواته نسق.
وهكذا فإن الكون في تصور بورس يمثل أمامنا باعتباره شبكة غير محدودة من العلامات، فكل شيء يشتغل كعلامة، ويدل باعتباره علامة ويدرك بصفته علامة أيضا. ولإدراك هذا الترابط الوثيق بين فعل الإدراك كما تصفه المقولات وبين الشكل الوجودي للعلامة، لا بد من تحديد عناصر العلامة والكشف عن أشكال وجودها.
فالعلامة هي ماثول ( représentamen) يحيل على موضوع (objet ) عبر مؤول ( interprétant ). وهذه الحركة ( سلسلة الإحالات ) هي ما يشكل في نظرية بورس ما يطلق عليه السميوز، أي النشاط الترميزي الذي يقود إلى إنتاج الدلالة وتداولها. وبعبارة أخرى، إن السميوز هي المسوؤلة على إقامة العلاقة السميائية الرابطة بين الماثول والموضوع عبر فعل التوسط الإلزامي الذي يقوم به المؤول.
وعلى هذا الأساس، فإن السميوز تتحدد باعتبارها سيرورة يشتغل من خلالها شيء ما كعلامة، وتستدعي استيعاب الكون من خلال ثلاثة مستويات : ما يحضر في العيان وما يحضر في الأذهان وما يتجلى من خلال اللسان.
استنادا إلى هذا وجب النظر إلى العلامة باعتبارها وحدة ثلاثية المبنى غير قابلة للاختزال في عنصرين. فإذا كان سوسير يصر على استبعاد المرجع من تعريفه للعلامة ويعتبره معطى غير لساني، فإن بورس ينظر إلى المسألة من زاوية أخرى. فبناء العلامة يرتكز، في تصوره، على فكرة الامتداد التي تجعل من الكون بكل مكوناته وحدة لا تنفصم عراها. فما يؤثث الكون ليس أشياء مادية، بل علامات، ونحن لا نتحاور مع واقع مصنوع من ماديات، بل نتداول هذا الواقع من خلال وجهه السميائي، إننا” نحيى داخل كون رمزي، ( …) وبقدر ما يزداد النشاط الرمزي يتراجع الواقع “.(2)
ولهذا السبب، فإن الثلاثية هنا ليست مجرد إضافة عنصر ثالث يعتبر غائبا في تصورسوسير، كما لا تتعلق بالإحالة على مرجع، أي على سلسلة من الموضوعات التي تشتغل في استقلال عن الذات المدركة، أي خارج سيرورة السميوز كما قد يوحي بذلك وجود شيء يطلق عليه بورس الموضوع. إن الأمر على العكس من ذلك يعود من جهة إلى تصور نظري يجعل العالم بكافة أبعاده مهدا للعلامات، وهذا ما أكده بورس مرارا.
فالتجربة الإنسانية تجربة كلية، إنها جسم عام يغطيه غلاف سميك من العلامات يتحدد داخله الإنسان بأفعاله ومعتقداته وشكوكه ويقينه كعلامات يحيل بعضها على بعض داخل نسق شاسع يوضح نفسه بنفسه. إن هذه التجربة بأشكالها وعمقها وغناها هي المنطلق لمعرفة كُنْه العلامة وتحديد مجمل التعريفات والتصنيفات المصاحبة لها.
ويعود من جهة ثانية إلى كون كل عنصر داخل العلامة قادر على الاشتغال كعلامة أي قابل للتحول إلى ماثول يسقط خارجه موضوعا عبر مؤول وهكذا دواليك. فالموضوع ليس شيئا، إنه علامة لها نفس مقومات العلامة الأولى. ويمكن تفسير هذا التصور من خلال خاصيتين تعتبران أساسيتين في التصور البورسي لاشتغال ووجود العلامة :
-الخاصية الأولى تعود إلى كون السميائيات عند بورس ليست مرتبطة باللسانيات، فموضوع دراستها لا يختصر في اللسان. ذلك أن التجربة الإنسانية ( واللسان جزء منها ) هي موضوع السميائيات البورسية.
– الخاصية الثانية تعود إلى نمط التصور الذي يحكم العلاقة الرابطة بين الإنسان ومحيطه. فهذه العلاقة تتميز بكونها غير مباشرة ويحكمها مبدأ التوسط ( ما يطلق عليه كاسيرير الأشكال الرمزية ). فالأشياء لا تدرك إلا رمزيا أي باعتبارها جزءا من نسق من العلامات.
ويتخذ الترابط بين العناصرالثلاثة المشكلة للعلامة الشكل التالي : أداة للتمثيل، تستدعي موضوعا كشيء للتمثيل، وتستدعي مؤولا كرابط بين العنصرين، أي ما يوفر للماثول إمكانية تمثيل الموضوع بشكل تام داخل الواقعة الإبلاغية:
مؤول
ماثول ===================== موضوع
“الخط المتقطع يشير إلى أن العلاقة بين الماثول والموضع ليست مباشرة بل تمر عبر المؤوِّل” .
وفي جميع الحالات، يمكن القول، استنادا إلى التحديدات السابقة، إننا أمام معرفة تنتشر في جميع الاتجاهات، ووجود العلامة هو وجود العنصر المنظم والمعد لهذه المعرفة. إن العلامة تقوم بمهمتها تلك في مرحلة أولى عبر إعداد موضوعات قابلة لاستيعاب وتنظيم هذه المعرفة ( وهذا دليل آخر على أن الموضوع يتجاوز العلامة ). وتقوم بذلك في مرحلة ثانية من خلال إدراج فعل للتأويل (مؤول) يقوم بالكشف عن هذه المعرفة ويحدد مستوياتها. وهذا معناه أن الدلالة، باعتبارها سيرورة في الوجود وفي الاشتغال وفي التلقي، لا يمكن أن تدرك إلا عبر مستوياتها، أي أنماطها في التدليل وفي معرفة العالم وهو ما يحدد نمط إدراك الذات لعالم الأشياء.
وهذا أمر بالغ الأهمية، فـ “المعارف” المتولدة عن الإحالة ” الصافية ” ( ماثول يحيل على موضوع خارج أي قانون أو فكر )، هي معارف تتميز بالهشاشة والغموض والتسيب، فهي بلا “ذاكرة” وغير قادرة على التحول إلى معرفة عامة. إنها مرتبطة بواقعة بعينها، وستختفي باختفاء الشروط التي أنتجتها. أما في الحالة الثانية، فإن الإحالة تتم وفق قانون أو فكر يجعل من الواقعة ذاكرة قابلة للتعميم.
مثال ذلك أنك إذا نطقت أمام شخص ما بكلمة ” شجرة ” ولم يكن هذا الشخص قد سمع بهذه الكلمة أو رأى الشجرة، فإنه لن يدرك من هذه الواقعة سوى مجموعة من الأصوات التي قد تثير لديه بعض الانفعالات أو الأحاسيس ولكنها لن تقوده قطعا إلى إدراك أي شيء. لحظتها سيكون بإمكانك أن تأخذ بيديه لتريه شجرة على الورق أو شجرة في الواقع. وفي هذه الحالة فإنك لا تقوم إلا بربط ماثول ( صورة أو شجرة فعلية ) بموضوع ( ما تتضمنه الصورة أو الواقع ) لأن هذا الربط هو ربط “محلي” و”مؤقت”.
فما دام هذا الرجل لا “يمتلك الشجرة فكريا”، فإنه لن ينظر إلى الواقعة إلا باعتبارها تجربة صافية خالية من الفكر. ولكن إذا ” بررت” هذه العلاقة من خلال “تجريد ” الواقعة وتحويلها إلى مضمون معرفي يتجاوز الواقعة العينية ( النسخة بتعبير بورس )، فإنك تكون قد مددت هذا الشخص بـ ” فكر” ( أو قانون في لغة بورس) يسمح له باستحضار كل ما يشبه هذه الواقعة، أي أن الشجرة التي رآها منذ قليل تتحول عنده إلى نموذج عام، يستطيع من خلاله استحضار كل ” الأشجار الممكنة” كيفما كانت الصور التي تحضر بها إلى الواقع.
وهذا ما يقوم به المؤول، وتلك وظيفته داخل العلامة. وعلى هذا الأساس، فإن “التدليل” لا يمكن أن يستقيم من خلال إحالة ثنائية التكوين، إن التدليل فعل ثلاثي يستدعي وجود ثلاثة عناصر مرتبطة فيما بينها : ماثول وموضوع ومؤول. وهذا هو الشرط الأولي للحديث عن تجربة فكرية ( تجربة إدراكية(.
إن نمط البناء هذا هو تأكيد للطابع المركب للفعل الإدراكي الذي يقود الذات المدركة إلى التخلص من العالم الخارجي عبر استيعابه كقوانين، أي تمثله كسلسلة من النماذج المؤدية إلى استحضار التجربة عبر وجهها المجرد. وبعبارة أخرى، فإن المؤول يقوم – من خلال موقعه كأداة للتوسط الإلزامي- بخلق حالة إدراك تسمح للذات بالانفلات من ربقة كل الإرغامات التي يفرضها الزمان والمكان عبر الامتلاك الرمزي للكون ( أو الامتلاك الفكري للكون كما كان يقول كاسيرير ). فلقد > استطاع الإنسان، من خلال الرمز وداخله، أن ينظم تجربته في انفصال عن العالم.
وهذا ما جنبه التيه في اللحظة، وحماه من الانغماس في مباشرية الـ “الهنا” والـ” الآن” داخل عالم بلا أفق ولا ماضي ولا مستقبل. فكما أن الأداة ( outil) هي انفصال عن الموضوع، فإن الرمز هو انفصال عن الواقع <. (3) وليست الدلالة وطرق إنتاجها وسبل تداولها سوى حصيلة حركة ” ترميزية” قادت الإنسان إلى التخلص من عبء الأشياء والتجارب والزمان والفضاء، ليخلق أشكالا هي أداته في إدراك الكون.
ذاك هو البناء العام للعلامة، وذاك هو موقعها داخل التجربة الإنسانية، وتلك هي وظيفتها في الإبلاغ والإدراك وإنتاج الدلالات. وعلينا الآن أن نعرف كل عنصر على حده لنكشف عن موقع ودور كل عنصر داخل هذا البناء الثلاثي.
- الماثول
يعرف بورس الماثول بقوله > إن العلامة ( أو الماثول) هي شيء يعوض بالنسبة لشخص ما شيئا ما بأية صفة وبأية طريقة. إنه يخلق عنده علامة موازية أو علامة أكثر تطورا. إن العلامة التي يخلقها أطلق عليها مؤولا للعلامة الأولى، وهذه العلامة تحل محل شيء : موضوعها < (4).
وبناء عليه، يشتغل الماثول كأداة نستعملها في التمثيل لشيء آخر. إنه لا يقوم إلا بالتمثيل، فهو لا يعرفنا على الشيء ولا يزيدنا معرفة به. ذلك أن موضوع العلامة هو ما يجعلها شيئا قابلا للتعرف، وهو، في الوقت نفسه، المعرفة المفترضة من خلال وجود باث ومتلقي. (5)ويستفاد من هذا التعريف أن الماثول:
– يحل محل شيء آخر.
– أداة للتمثيل.
– لا يوجد إلا من خلال تحيينه داخل موضوع ما.
– لا يستطيع الإحالة على موضوعه إلا من خلال وجود مؤول يمنح للعلامة صحتها ( توفير شروط التمثيل (.
وللمزيد من التوضيح، يمكن القول إن الماثول يقوم بنفس الدورالذي يقوم به الدال في التصور السوسيري، حتى وإن كانت هناك اختلافات بين الأداتين. فمهمة الماثول كما هي مهمة الدال تكمن في التمثيل لشيء ما في أفق منحه وضعا تجريديا أي مفهوميا، وبدون الماثول لا يمكن أبدا أن يتحول الشيء إلى علامة. مثال ذلك المتوالية الصوتية : ش/ج/ر/ة ، فهذه المتوالية هي ماثول يحيل على المؤول /شجرة/، أي على مفهوم الشجرة.
الموضوع
إن الموضوع هو ما يقوم الماثول بتمثيله، سواء كان هذا الشيء الممثل واقعيا، أو متخيلا أو قابلا للتخيل أو لا يمكن تخيله على الإطلاق. ويلخص بورس هذه الملاحظة بقوله > إن موضوع العلامة هو المعرفة التي تفترضها العلامة لكي تأتي بمعلومات إضافية تخص هذا الموضوع (6). ويوضح بورس هذا التعريف بقوله : ” إذا كان هناك شيء يحدد معلومات دون أن تكون لهذه المعلومات أدنى علاقة بما يعرفه الشخص الذي يستقبلها لحظة بثها ( وستكون معلومة غريبة حقا )، فإن الأداة الحاملة لهذه المعلومات لا تسمى – في هذا الكتاب – علامة”. (7)
فإذا كان الموضوع، كما هو واضح من هذا التعريف، ومن التصور البورسي للعلامة بصفة عامة، لا يعين مرجعا منفصلا عن فعل العلامة ذاتها، فإنه لا يمكن أن يشتغل إلا كعلامة. وبعبارة أخرى، فإن الأمر لا يتعلق بموضوعات تتحرك خارج دائرة فعل السميوز، بل يتعلق الأمر بعنصر يعد جزءا من العلامة وقابلا للاشتغال كعلامة.
وبناء عليه، فإن الحديث عن موضوع ما داخل إحالات السميوز لا يمكن أن ينفصل عن عملية الإبلاغ نفسها. فالباث والمتلقي يجب أن يمتلكا معرفة سابقة عن موضوع ما لكي يكون هناك حوار. وهذه المعرفة السابقة ( في علاقتها بالمعرفة الإضافية ) تتحدد من خلال سلسلة من العلامات السابقة، أي العلامات غير المتحققة داخل السياق الخاص للابلاغ. والسياق الخاص هو الذي يحدد الموضوع الخاص للعلامة. وبتعبير آخر، من أجل رد هذا الموضوع إلى هذه العلامة وليس إلى تلك، يجب استحضار السياق الخاص الذي تندرج وتؤول ضمنه العلامة، > ذلك أن العلامة لا توفر معرفة ما فحسب، بل نستطيع عبرها التعرف على شيء جديد < (8) .
وفي ضوء هذا التعريف، يمكن التمييز بين معرفة مباشرة ومعرفة غير مباشرة ( أي التمييز بين ما تفترضه العلامة وبين ما تحققه). فالمعرفة المباشرة هي تلك المعرفة المعطاة من خلال الفعل المباشر للعلامة. أما المعرفة غير المباشرة فهي تلك التي تدرك من خلال ما هو مفترض من خلال التحقق الخاص لهذه العلامة، أي من خلال سياقها البعيد.
وبطلق بورس على المعرفة الأولى : الموضوع المباشر، أما المعرفة الثانية فيسميها الموضوع الديناميكي. الموضوع الأول معطى من خلال العلامة بشكل مباشر، أما الثاني فهو حصيلة لسيرورة سميائية سابقة يطلق عليها بورس التجربة الضمنية ( experience collatéralle). مثال ذلك الجملة التالية: ” شجرة طويلة”. فالموضوع المباشر هو إسناد صفة الطول إلى الشجرة، وهو أمر يدركه كل من له معرفة باللغة العربية، أما أن تكون الشجرة دالة على الخصوبة أو الجنس أو الوطن أو الدين أو أي مضمون أسطوري آخر، فذاك أمر يتطلب معرفة بالثقافة التي تُصاغ ضمنها هذه الجملة.
ولهذا التمييز أهمية كبيرة. فهو يشير إلى أن الموضوع أعم وأشمل من العلامة، فلا يمكن لفعل الإحالة الواحدة أن يستوعب كل معطيات الموضوع، وهذا أمر له نتائج هامة، فما يطورالفعل التمثيلي هو غنى الموضوع لا أداة التمثيل.
ويمكن من جهة ثانية استثمار هذا التمييز في قراءة النصوص. فالنص يحتوى على معارف أو طبقات متراكبة، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مستتر ومتواري عن أعين القارئ. والفعل التأويلي الأصيل هو الذي يبحث في الوجوه التي لا ترى بالعين المجردة من خلال الكشف عن الروابط الخفية بين “الطبقات النصية” على حد تعبير سعيد يقطين. فما يسمى بالمعرفة الخارج نصية ( أو المسكوت عنه ) ليس سوى طريقة أخرى للقول إن النص يسقط خارجه – لحظة تشكله – سلسلة من النصوص القابلة للتحيين مع أدنى تنشيط للذاكرة المؤوِّلة. وفي جميع الحالات، فإننا أمام موضوعين : أحدهما مباشر وهو ما يشكل معطيات النص الظاهرة. وآخر ديناميكي، أي المعرفة المفترضة التي تؤسس ،عبر وجودها، فعل التأويل.
- المُؤوِّل
يعتبر المؤول ثالث عنصر داخل نسيج السميوز، وهو عمادها وبؤرتها الرئيسة. فهو يشكل التوسط الإلزامي الذي يسمح للماثول بالإحالة على موضوعه وفق شروط معينة. فلا يمكن الحديث عن العلامة إلا من خلال وجود المؤول باعتباره العنصر الذي يجعل الانتقال من الماثول إلى الموضوع أمرا ممكنا. إنه هو الذي يحدد للعلامة صحتها ويضعها للتداول كواقعة إبلاغية. وإذا رمنا التبسيط قلنا إنه شبيه بالمدلول السوسيري في صورته البسيطة، فهو الفكرة التي بموجبها يحيل ماثول ما على موضوع، أو هو التصورالذهني العام الذي نملكه عن الشيء الموجود في العالم الخارجي.
وبعبارة أخرى، يمكن القول إن الماثول يحيل على موضوعه وفق قانون. ووجود القانون معناه الحد من اعتباطية الإحالة. فالمؤول يحيل على الموضوع وفق قانون، وإذا انتفى هذا القانون، فإننا سنعود إلى نقطة البدء : أي نعود إلى معطيات ( أحاسيس ونوعيات ) مجسدة في وقائع ولا حد لهذه الوقائع ولا ضابط.
وبناء عليه، إذا كانت عملية الإحالة ليست اعتباطية – فكل تأويل يتم داخل دائرة ثقافية محددة – فإن المؤول يقوم بإرساء قاعدة للتأويل. وبهذا المعنى، فإن” المؤول ليس حرا في تأويله، إنه يترجم إلى لغة ما ما قيل في لغة أخرى”. ( 8) إن محدودية التأويل هاته تقرأ بلغة أخرى كتحديد لحقل ثقافي يسمح للذات المؤولة بتفضيل هذا التأويل على ذاك. من هنا، فإن انتقاء مؤول ما هو في نفس الوقت إقصاء لآخر، ما دام الانتقاء يحدد الدائرة التأويلية التي يتبناها الشخص المؤول.
إن هذه الملاحظات ستحيلنا على تحديد آخر للمؤول. فإذا كان المؤول عنصرا توسطيا، فإن التوسط معناه إلغاء للطابع المباشر للعلاقة بين الإنسان ومحيطه الخارجي. ذلك أن أي تأويل ( وأي سلوك ) إنما يتم استنادا إلى معرفة مسبقة تحدد للشيء موضوع التأويل موقعه داخل سنن معين ( قسم من الأشياء (.
وبناء عليه، يمكن تحديد المؤول بأنه مجموع الدلالات المسننة من خلال سيرورة سميائية سابقة ومثبتة داخل هذا النسق أو ذاك. وبعبارة أخرى، إنه تكثيف للممارسات الإنسانية في أشكال سميائية يتم تحيينها من خلال فعل العلامة ( أي لحظة تصور إحالة تشترط وجود قانون)، سواء كانت هذه العلامة لسانية أو طبيعية أو اجتماعية.
وبما أن الممارسة الإنسانية تتسم بالغنى والتحول وتحيل على الضمني والكامن والمستتر، فإن الدلالة تتميز بالتعدد والغنى، ولا يمكن للواقعة أن تدل من خلال مستوى واحد. ولهذا السبب عمد بورس إلى التمييز بين مستويات في التأويل : ما تقترحه العلامة في صيغتها البدئية، وما يأتي من الثقافة كمعان متوارية عن الأنظار، وما ينظر إليه باعتباره جنوحا للذات المؤولة إلى الاستقرار على مدلول بعينه.
استنادا إلى هذا ميز بورس بين المستويات الدلالية التالية :
– مستوى دلالي أول ويطلق عليه المؤول المباشر، والمؤول المباشر في مصطلحية بورس يعين المستوى المعنوي الذي تقترحه العلامة بشكل مباشر، و> يتم الكشف عنه من خلال إدراك العلامة نفسها. وهو ما نسميه عادة بمعنى العلامة (…) إنه يتحدد باعتباره مُمَثلا ومُعبرا عنه داخل العلامة. (9) إن حدود تأويله مرتبطة بمعطيات الموضوع المباشر.
وعناصر تأويله ليست سوى ما هو معطى داخل العلامة بشكل مباشر. وما ينتجه من معنى لا يتجاوز حدود التجربة المباشرة التي يتطلبها الإدراك المشترك. إن وظيفته الأساسية هي إعطاء نقطة الانطلاق للدلالة، أي إدخال الماثول داخل سيرورة السميوز. فالجملة السابقة : ” شجرة طويلة” تدرك باعتبارها إحالة على نبات له جذور عميقة وأغصان تشق السماء وهو موصوف بالطول.
– مستوى دلالي ثان، ويتشكل هذا المستوى من خلال استحضاره لمعطيات معرفية ليست معطاة بشكل مباشر مع العلامة. إنها ذاكرة أخرى يقوم المؤول الدينامي، وهو المستوى الثاني، بتنشيطها لكي تسلم العلامة مجمل أسرارها. وبعبارة أخرى، فإن المؤول الديناميكي هو كل تأويل يعطيه الذهن فعليا للعلامة. (10)
انطلاقا من هذا التصور، فإن المؤول الديناميكي يُؤسس على أنقاض المؤول المباشر ولا يمكن أن يوجد إلا من خلال وجود الأول. فعندما يتخلص المؤول الديناميكي من مقتضيات المؤول المباشر، فإنه ينطلق نحو آفاق جديدة تضع الدلالة داخل سيرورة اللامتناهي. إننا مع المؤول الديناميكي نخرج من دائرة التعيين لندخل دائرة التأويل بمفهومه الواسع. وبتعبير رولان بارث لا يمكن تصور إيحاءات دون تقرير. فما يضمن الإحالات الجديدة استقبالا هو هذه المادة المعرفية الثابتة، وهي النواة الدائمة الضرورية لكل تواصل.
ومن جهة ثانية، فإن استحضار المؤول الديناميكي سيحول السميوز إلى سلسلة لا تنتهي من الإحالات : من علامة إلى علامة ضمن سيرورة تأويلية لا تتوقف عند نقطة بعينها. فمن ” أجل تحديد مؤول علامة يجب فعل ذلك من خلال علامة أخرى وهكذا دواليك. والنتيجة أننا أمام سيرورة سميوزية لامتناهية تعد – وبشكل مفارق – الضمانة الوحيدة لتأسيس نسق سميولوجي يوضح نفسه بنفسه، من خلال إمكاناته الذاتية ومن خلال أنساق قلب متتالية يشرح بعضها بعضا” (11).
إن سلسلة الإحالات هاته تجد تفسيرها في التصور الذي يعطيه بورس لفعل السميوز. فالعالم عند بورس بكل موجوداته “الواقعية ” و” المخيالية ” يشتغل كعلامات. إنه لا يدرك إلا باعتباره سلسلة من الأنساق المتداخلة فيما بينها، ومن ثم فإن > النظر إلى السميوز كفعل لا ينتهي، يعد مساهمة هامة في نظرية اللغة. فمن خلال هذه النظرية ستبدو اللغة، من خلال خصائصها الذاتية، كممارسة إنسانية يشكل التاريخ، باعتباره زمنية إنسانية، أفق تحيينها.
فحقيقة اللغة لا تكمن في الكشف عن كون مرجعي أو ذهني معطى بشكل نهائي. فاللغة ليست خزانا ولكنها إنتاج، والمعنى لا يوجد خارج اللغة، بل يوجد في فعل الإبلاغ نفسه، في الكلام وفي الإنتاج. وغياب مؤول نهائي، عوض أن يشكل إحباطا دائما، فإنه يشكل الشرط الأساس لإمكان نهائي على وجود لغة تشتغل باعتبارها واقعة إنسانية. (12)
– المستوى الدلالي الثالث، وهذا المستوى من طبيعة خاصة، فهو لا يشكل مستوى دلاليا بالمعنى الحرفي للكلمة، لأنه ليس مستقلا عن حركية المؤول الديناميكي وعما يقترحه من إحالات. إلا أنه يعد قوة مضادة تكبح جماح هذا المؤول وتضع قاطرة التأويل فوق سكة بعينها. إنه يقترح على الذات المؤولة خانة تأويلية تمنحها الراحة والاطمئنان. ويطلق بورس على هذا المستوى المؤول النهائي. إن وظيفته الرئيسة هي الوقوف في وجه القوة التأويلية المدمرة التي يطلق عنانها المؤول الديناميكي.
وعلى هذا الأساس، إذا كان المؤول الديناميكي هو المسؤول عن الدلالة لأنه هو الذي يوفر المعلومات الضرورية لعملية التأويل بحصر المعنى، فإنه يقوم في نفس الوقت بإدخال الدلالة داخل سيرورة اللامتناهي. فالسيرورة السميائية هي سلسلة من الإحالات اللامتناهية التي لا يمكن، نظريا على الأقل، أن تتوقف في نقطة بعينها. فكل تعيين هو في الوقت نفسه تكثيف للفعل في أشكال تحمل في داخلها إمكان تحققها جزئيا أو كليا. ” إلا أنها تعد في الممارسة سيرورة محدودة ونهائية. فالعادة التأويلية تقوم بشل حركتها، تلك العادة التي نملكها في إسناد هذه الدلالة إلى تلك العلامة داخل سياق مألوف لدينا “. (13)
إن الفوضى التي قد يحدثها المؤول الديناميكي ( من حيث إنه مرتبط بمعرفة واسعة وغير محدودة)، لا يمكن أن تتوقف من تلقاء نفسها، ولا يوجد داخل هذا المؤول ما يوحي بإمكانية التوقف عند دلالة بعينها. إن إيقاف هذه الحركة لا يتم إلا من خلال الاستعانة بمنطق آخر للتدليل، أو إن شئنا القول، يجب إرساء دعائم سياق خاص يستدعي الانتقاء والحذف والتحجيم.
وتلك هي مهمة المؤول النهائي كما يرى ذلك بورس. فهو” الوقع الذي تولده العلامة في الذهن بعد تطور كاف للفكر “. (14) فما كان يبدو لا محدودا يتحول من خلال المؤول النهائي إلى حركة محكومة بقوانين محددة تجعل كل إحالة مندرجة ضمن منطق خاص للإحالة. فداخل سيرورة تأويلية معينة يجنح الفعل التأويلي إلى تثبيت هذه السيرورة داخل نقطة معينة يمكن النظر إليها باعتبارها أفقا نهائيا داخل مسار تأويلي ما يقود من تحديد معطيات دلالية أولية ( مؤول مباشر )، إلى إثارة سلسلة من الدلالات المتنوعة ( مؤول ديناميكي )، ليصل في نهاية الأمر إلى تحديد نقطة إرساء دلالية ( مؤول نهائي ). ويعد هذا الأفق شكلا نهائيا ستستقر عليه السيرورة التأويلية.
إن الأمر يتعلق بما يسميه بورس بالعادة. ” فالعادة تجمد مؤقتا الإحالة اللامتناهية من علامة إلى علامة أخرى لكي يتسنى للمتكلمين الاتفاق على واقع سياق إبلاغي معين، إن العادة تشل السيرورة السميائية، فهي عالم “الأفكار الجاهزة “. ولكن العادة هي وليدة علامات سابقة، ولهذا فإن العلامات هي التي تؤدي إلى تدعيم أو تغيير العادات “. (15)
ولعل هذا ما لا يجعل من “النهائية” مضمونا زمنيا يتحدد داخله المؤول النهائي باعتباره مصدرا لإنتاج دلالات لا سلطة للزمان عليها. إن “النهائية” هنا تتعلق ببداية ونهاية مسار تدليلي ما، وما يبدو كنهاية منطقية لمسار، سيتحول إلى نقطة استهلالية داخل مسار آخر. إنه الرغبة الدفينة واللاشعورية التي تستشعرها الذات المؤولة في الوصول إلى دلالة بعينها انطلاقا من سيرورة تدليلية بعينها. أو هو محاولة الذات لخلق ” محميات دلالية ” تريحها من عبء المتسيب واللامحدود واللاقار من خلال الرسو على موقف دلالي بعينه.
وربما سيكون من السهل جدا القول إن الغاية من وجود مؤول من هذا النوع هي تحديد معنى كخلاصة لمجهود تدليلي، أي استقرار ماثول على موضوع. إلا أن الأمر أعقد بكثير من ذلك. فهذه السيرورة هي سيرورة افتراضية أملتها غايات منهجية فحسب. فالتدليل ومراحله وخاناته ليست شيئا شفافا يمكن المسك به بسهولة. إنه مركب ومتنوع ومتعدد التجليات، وليس من السهل الفصل داخله بين نقطة بدئية وأخرى نهائية وثالثة تتوسطهما.
فهو، إلى جانب استناده إلى العناصر الأساس التي توفرها العلامة كمادة للتأويل، يفترض ذاتا خاصة تقوم بإنجازه، وهذا يعني استحضار مخزون ثقافي آخر تأتي به هذه الذات في أفق تحقيق تأويلها الخاص. ولهذا فإن النصوص الفنية عادة ما لا تتحدد باعتبارها حاملة لهذه السيرورة التأويلية أوتلك، بل تشتغل باعتبارها ذاكرة مفتوحة على آفاق متعددة لا يحينها سوى القارئ الذي يدرج معطيات النص ضمن مسارات تأويلية هي من انتقائه وافتراضاته.
ولقد فتح هذا التصور الدينامي للتأويل آفاقا جديدة أمام السميائيات. فقد تحولت من مجرد أداة تعيين للعلامات وتحديد لنمط اشتغالها إلى نظرية تأويلية قائمة الذات ( انظر الفصل الأول من هذا الكتاب ). وربما يكون تصور بورس للتأويل ولسميائيات تأويلية هو أكثر العناصر أصالة وعمقا في نظريته السميائية. في حين لم تعد تصنيفاته المتعددة للعلامات والتصنيفات الفرعية المنبثقة عن التصنيفات الأولى تقنع أحدا، فهي لا تتميز بأية مردودية على مستوى مقاربة الوقائع الإنسانية. (16)
وبطبيعة الحال لم نقدم في هذا العرض العام سوى الأسس المركزية للسميائيات كما تتجلى من خلال بناءالعلامة واشتغالها. فهناك الكثير من العناصرالنظرية التي تركناها جانبا، منها على سبيل المثال توزويعاته الثلاثية الخاصة بكل عنصر من عناصرالعلامة، ولعل أهم هذه التوزيعات ما يعود إلى الموضوع، حيث يتم النظر إليه باعتباره أيقونا، والأيقون هو علامة تتأسس على وجود نوع من التشابه بين الماثول والموضوع الذي يحيل عليه.
وينظر إليه باعتباره أمارة، ويتعلق الأمر في هذه الحالة بعلاقة بين الماثول الموضوع يحكمها التجاور، أما الحالة الثالثة فينظر فيها إلى الموضوع باعتباره رمزا، والعلامة في هذه الحالة مبنية على العرف والتواضع. ولقد وفر هذا التوزيع إطارا عاما لدراسة الأنساق البصرية، وخاصة ما يتعلق بالصورة وإواليات إنتاجها للدلالات.
وسنكتفي بهذه العناصر، راجين أن تقوم الفصول التطبيقية التي نقدمها في هذا الكتاب بتوضيح الجوانب النظرية التي قد تستعصي على الاستيعاب في نظر قارئ غير متخصص. ففي دراستنا لنمط اشتغال الصورة لم نقم سوى بصياغة هذه الحدود النظرية صياغة مخصوصة تستقي هويتها من الموضوع المدروس لا من النظرية لتي تستند إليها في القراءة لكي لا يتحول التحليل إلى تمرينات جافة الهدف منها إثبات صحة النظرية لا إنتاج معرفة تخص الموضوع المدروس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- هوامش
1- C S Peirce : Ecrits sur le signe, éd Seuil , 1978, p 120
2- Ernest Cassirer : Essai sur l’homme , éd Minuit , 1975 , p. 43
3- Jean Molino : Intrerpréter, in L’interprétation des textes, éd Minuit , 1989, p 32
4- بورس ، نفسه ص 121
5- بورس نفسه ص 123
5- بورس نفسه ص 123
6- بورس نفسه ص 124
7- بورس نفسه ص 123
8- G Deledalle : Commentaire, in Ecrits sur le signe, p p 218 -219 -220
9- Theresa Calvet de Maghlhaes : Signe ou symbole, Introduction àla sémiotique de C S Peirce,éd Louvain-la-neuve et Madrid, 1981, p 174
10- Theresa Calvet de Maghlhaes : Signe ou symbole, p 174 Peirce C P 8. 343 , in
11-Umberto Eco : La structure absente, Introduction à la recherche sémiotique, éd Mercure de France , 1972, p. 66
12- Enrico Carentini : L’action du signe, éd Louvain-la-neuve, Bruxelles 1984, p27
13-Nicole Everaert-Desmedt : Le processus interprétatif, Introduction à la sémiotique de C S Peirce, éd Mardaga , Bruxelles , 1990, p 42
14- Theresa Calvet de Maghlhaes : Signe ou symbole, p 174 Peirce C P 8. 343 , in
15- Nicole Everaert-Desmedt : Le processus interprétatif, op cit pp 42-43
16- انظر مثلا دراسة دولودال لقصيدة أبولينيار signe في كتابه Théorie et pratique du signe ص 168 وما يليها.