الهرمنيوطيقاسيميائيات

“السيلفي والبحث عن الهوية”

التحليل النفسي (Psychanalyse) هو نظرية حول النفس البشرية، أسسه فرويد (Sigmund Freud) بين عامي 1885و1939، ولا يزال قيد التطور من طرف المحللين النفسانيين في مختلف أنحاء العالم، ويمكن تطبيق التحليل النفسي على أربع مجالات رئيسية:

-باعتباره نظرية حول طريقة عمل النفس

-باعتباره نهجا علاجيا للمشاكل النفسية

-باعتباره نهجا للبحث

-باعتباره طريقة للنظر في الظواهر الثقافية والاجتماعية؛ مثل الأدب، الفن، الأفلام، العروض الفنية، السياسة، والجماعات.

إن فهم التحليل النفسي للنفس يضمن فهما أعمق للثقافة والمجتمع، وقد اعتمد فرويد في تفسير العملية الإبداعية على التحليل النفسي، الذي ينظر إلى الفن على أنه شكل من أشكال التعبير عن الكبت (Suppression).

نسعى من خلال هذا المقال إلى مقاربة ظاهرة التصوير، باعتبارها صنفا من الفنون التي تعنى بالتعبير عن انفعال أو موضوع، داخل قالب منظور يدرك من خلال الرؤية، وتحديدا الصورة الملتقطة ذاتيا.

سنلحق التصوير الذاتي “السيلفي” بالتحليل النفسي بصفته أحد الأنشطة النفسية التي تحمل الكثير من المعلومات التي تفيد في تشخيص العلل والتعرف على الداء، على اعتبار أن التصوير فن من الفنون البصرية، التي يبدع فيها الفنان بتثبيت لحظة من الزمن، وأن من خصائص التصوير الذاتي، أنه سند لتقاسم الانفعالات، وإن بطريقة أقل جمالية.


  • 1-الوعي بالذات

إن العوامل الكامنة وراء أي حدث نفسي أو نمط سلوكي، إما أن تكون شعورية أو لاشعورية، لذا فإن الأحداث.

1

التي تجري داخل الفرد كالمشاعر والأفكار والأنشطة العقلية، يمكن الاستدلال عليها عن طريق واحد هو الأسلوب الذي سلكه الشخص، سواء عبر عنه بالأقوال أو بالأفعال، وبذلك تصبح الظواهر النفسية أحداثا موضوعية خارجية، حيث لا يمكن فصل ما هو جسمي عما هو نفسي فمصدر الظاهرة النفسية هو الإنسان بأكمله.

سعى فرويد إلى الكشف عن اللاوعي من خلال تحليل ما يصدر عن الإنسان من إبداع فني، حيث يرى أن الرغبات الدفينة في اللاشعور تؤول إلى قناة من القنوات التالية:

-إما أن تلبى هذه الغرائز بصورة طبيعية

-وإما أن تخضع لسلطان العقل، فيلغي الإنسان التفكير في مثل تلك الرغبات

-وإما أن يحرف هذه الرغبات نحو مجرى آخر عن طريق ما يسميه “التسامي” أو “التصعيد” (Sublimation) 

فيحل محل الغريزة الجنسية هدف آخر له قيمة في المجتمع(1).

الحل الثالث هو الذي يهمنا في إطار تفسير عملية الإبداع من وجهة نظر نظرية التحليل النفسي، إذن فالتسامي له علاقة بالدافع الشبقي، بمعنى أن الإنسان إذا استطاع أن يستبدل بأهدافه القريبة أهدافا أخرى تمتاز –أولا- بأنها أرفع قيمة من الناحية الاجتماعية، وثانيا بأنها غير جنسية.

فقد قام بعملية “تسام”، لذلك يخلص فرويد إلى القول بأن “الفنان كالمريض العصابي ينسحب من ذلك الواقع الذي لا يبعث على الرضا إلى ذلك العالم الخيالي، لكنه يبقى وطيد العزم، بخلاف المريض العصابي، على سلوك طريق العودة، ليرسخ قدميه في الواقع”(2).


  • 2-فن التصوير

هل تمثل الصورة حقا موضوعها، وكيف تعبر عن الحدث الأكبر أو السياق الأكثر شمولا؟

يعرف التصوير الفوتوغرافي على أنه فن الرسم بالضوء، وفقا لترجمة الكلمة اليونانية المركبة “فوتوغراف”، فكلمة Photo تعني الضوء، أما كلمة Graph فتعني الرسم أو الكتابة، والتصوير من الفنون البصريةArts visuels

التي تهتم أساسا بإنتاج أعمال فنية يتطلب تذوقها رؤية بصرية محسوسة، كما أنها تعد انعكاسا لوجهة نظر المصور 

2

الذي التقطها، ولها أهمية في توثيق الأحداث والمشاعر والأفكار، إذ تكمن أهمية الصورة في التقاط المصور المشاعر الإنسانية المختلفة، وإلهام المتلقي لإحداث تغيير، إضافة إلى التواصل العاطفي البصري الذي يمثل أكثر طرق التواصل صدقا وتعبيرا.

تناول بارت (Roland Barthes) الصورة الفوتوغرافية من منظور تحليلي وبرؤية فلسفية خاصة، إذ اعتبر أن الصورة كانت دائما عصية على التصنيف، فمعظم التصنيفات التي خضعت لها الصورة منذ ظهورها هي خارج الموضوع من دون علاقة بماهيته، فيقول:” إن ما تعيد الصورة الفوتوغرافية إنتاجه إلى ما لا نهاية لم يحصل إلا مرة واحدة، إنها تكرر آليا ما لا يمكن تكراره وجوديا البتة، فالحدث فيها لا يتجاوز قط نفسه نحو شيء آخر، إنها ترد دائما المتن الذي أحتاجه إلى الجسد الذي أراه، إنها الخاص والمطلق، العرضية والسائدة، الخامدة وشبه البليدة”(3).


  • 3- التصوير الذاتي “السيلفي”

كيف تأسس هذا الفن المتأصل في التاريخ البشري، وما دلالاته في عمق النفس الإنسانية؟

هل صورة السيلفي بنية دالة، وكيف تشتغل الدلالة داخل السيلفي؟

هل ممارسة السيلفي هي نرجسية مريضة، أم هي خوف من المجهول؟

استخدمت نفرتيتي عصا النفوذ لجعل النحاتين يصورونها بالشكل الذي تطمح إليه، وقد أسس تمثالها لمدرسة عريقة من (التصوير الذاتي السلطوي) لحكام العالم القديم، حيث قاموا بصك صورهم على العملات ونقشها على جدران المعابد، ونصب التماثيل في الساحات العامة، هذا الاكتساح البصري للسلطة وبسط النفوذ، كان له شروط نمطية مدروسة، وجه غاية في الدقة والتوازن بين عناصره، يتسم بالرصانة دون المبالغة في إظهار التعالي، فيه حزم لكنه رؤوف برعاياه، تجسيدا لصورة الحاكم الأمثل.


ظهر التصوير الذاتي في الغرب كجنس فني مهم في القرن السادس عشر، وقد تميز به الرسامون ألبريشت دورر ورامبرانت، حيث استخدماه لتكريس أنفسهم كفنانين، وللكشف عن الأعماق الداخلية لشخصيتهم.

تخبرنا الشابكة أن الظاهرة رأت النور سنة 2002 في منتدى أسترالي (ABC on line)، وكانت كلمة مشتقة

3

من الإنجليزية « Self » التي تعني النفس، وتعني أحيانا أخرى “أنا وحدي”، وفي سنة 2013 اختيرت “السيلفي” كلمة السنة في قواميس أوكسفورد.

احتلت مسألة الهوية الشخصية حيزا واسعا وأساسيا من حياة الإنسان، ولعل أحد أهم عناصر الصورة الذاتية هو البحث عن الهوية، فكيف تغير السؤال الحاسم عن الوجود الإنساني ل”من نحن” تحت تأثير الوسائط الرقمية؟

يرتبط سلوك السيلفي بحب الظهور، وتلبي هذه الصور حاجة صاحبها وملتقطها من الاهتمام، تبنيا لمبدأ أن تكون هو أن تكون مرئيا، فمنطق الإغواء هو الذي يؤطر فعل الرؤية نفسها، فالعين ترى “ما تود أن تراه، لا ما يمثل أمامها”(4)، فحين نلتقط السيلفي لا نفكر فقط في تخزين الصورة بوصفها شهادة على حدث جدير بأن لا ينسى، ولكن أيضا نفكر في أن وجهنا الشخصي سيكون موضوع نظر وإعجاب، وقد تساءل دولوز (Gilles Deleuze) مستقصيا أبعاد الوجه الإنساني وملامحه الدالة عبر تاريخ تجربة الأداء السينمائي:” ولكن أليس وجه شخص ما، هو الشيء نفسه؟”(5).


لا يمكن أن نفكر في السيلفي دون أن نثير قضية صورة الأنا، وبشكل أوسع صورة الذات، إذ كانت الأنا ما قبل فرويد ترد إلى الوعي باعتباره “ذاتا تفكر” ولها ارتباط بالبرهنة العقلية، كما أنها تحيل على الهوية أيضا، ثم جعل فرويد من الأنا محفلا نفسيا يتميز عن الاشتغال اللاواعي الذي بدأ يستدعي القول بأن “الأنا ليست في ميدانها”، “لقد شكك اللاوعي في الكثير من خاصيات الأنا، ذلك أن جزءا من ذاتها يوجد خارج مراقبتها، وسيصبح من الصعب عليها تحديد هويتها التي تناقضها الكثير من الأفعال”(6).

يرى سعيد بنكراد أن الإقدام على قراءة السيلفي ذهاب نحو تعرية الضحالة والبؤس اللذين يؤطران الحضور داخل المشهد التقني بواجهاته الرقمية الآخذة في اجتياح أكثر المناطق عتامة في النفس البشرية، إذ يقترح السيلفي نفسه بوصفه صورة تحادثية تستهدف إنجاز عملية تواصلية مع سلسلة من المتلقين، لكنه يغفل عن كون الأحاسيس والانفعالات مشروطة بالتعامل الحي مع “الغير”، فهو يسوق استيهامات مريحة، تخلص الأنا من عبء الانخراط الحي في السياق الاجتماعي للزمن والتاريخ، هكذا تتحلل الأنا من مسؤولية العلاقات الاجتماعية، داخل غموض الصلات العابرة.


إن السيلفي حامل للصورة “النموذج” التي تسعى الأنا إلى ترويجها وتسويقها، صرخة استغاثة تدعو إلى تحقيق فعل

4

الاعتراف ب”أنا”، يسعى ملتقط السيلفي جاهدا إلى تصوير اللحظة من خلال إسقاط صورة عنه، لن تكون “أناه” داخلها هي ذاتها في اللحظة الموالية، يرجح أن صاحب السيلفي يعيش قلقا كلما وعى وقع الزمن عليه، وقد تكون الصورة وسيلته الوحيدة للانتصار على الموت.

ليس هناك عين تأتي إلى الجسد من خارجه، “بل هو يتأمل نفسه فيما يشبه “الاستمناء الذاتي”(7)، أما عن الذات فإن من يسائلها ليس هي نفسها، وليس الآخر، بل الآلة، “من الآن وصاعدا سيكون هناك وسيط بين الذات ونفسها هو: الموضوع/شاشة”(8).

إن هذا الانقلاب الرقمي يدعونا إلى إعادة التفكير في الذاتية، بدءا من بناء الذات، إننا نكتشف وجود تناظر هام مع “مرحلة المرآة” كما يحددها لاكان (Jacques Lacan)، حيث ستحل محل المرآة شاشة “سمارتفون”.

إن الصورة الآن هي التي تحدد كينونة الذات، مثلها في ذلك مثل مرحلة المرآة، ففي مرحلة المرآة يكون وعي الذات لنفسها، وعيا انعكاسيا وانفصالا عن ذات الآخر، أما في السيلفي حسب غودار (Elsa Godart) “فإذا كان البحث عن الهوية يبدو شبيها بذلك، فإنه لا يتحقق بالوعي، وتلعب الشاشة دورا مركزيا، وتسجن الذات في خانة هجينة مستلبة داخل الصورة وفي نظر الآخرين، إذ تجد صعوبة في إثبات نفسها، وبما أن الذات ليست مطمئنة في وجودها الخاص، فإنها ستظل تنتظر تأكيدها لنفسها من خلال البحث عن التقدير”(9).

تعلن مرحلة المرآة عن ميلاد الذات الواقعية، وتكشف مرحلة السيلفي عن الذات الافتراضية، وفي قلب هذا التحول الذي لا يتوقف عن رد الأنا إلى تساؤل حول ذاتها، تدخل الأنا في دوامة وهمية وهي تبحث عن الإحاطة بنفسها دون أن تصل إلى ذلك، فيغدو التقاط السيلفي فعلا مرضيا، لكونه استخداما للآخر باعتباره وسيلة وليس غاية، وسيلة للبحث عن إشباع رغبة نرجسية.

ظهرت تحذيرات من أن السيلفي يعد ظاهرة لها أبعاد نفسية سلبية، قد يؤدي الهوس به إلى الإصابة باضطراب “ديسموفوبيا” (Dysmorphobia)، وهو عدم رضا الشخص عن نفسه.

أوضحت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين يرتبطون بصور السيلفي، ويقضون وقتا طويلا في تعديل الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، يركزون اهتمامهم على ذاتهم بشكل أكبر، ويعتقدون أنهم الأكثر ذكاء.

5

وجاذبية، إضافة إلى وجود مشاكل لديهم في الشعور بالأمان، والميل إلى تضخيم الذات، وجانبا من السلوك المتهور وعدم التعاطف ومراعاة الآخرين، كما يصنف الإدمان على السيلفي كمرض نفسي نابع من فراغ، وتشير عدد من الدراسات إلى الآثار السلبية المترتبة عن هذا الإدمان، وكشفت دراسة بعنوان: 

« Science Links Selfies to Narcissism Addiction and Low Self Esteem »   أن الأشخاص الذين يداومون على التقاط السيلفي لأنفسهم يعكس إصاباتهم بالاكتئاب، وقد يؤدي تطور الحالة إلى حدوث الإدمان الذي يصعب التخلص منه، ارتباطا بعدد مرات التقاط السيلفي، مع زيادة التفاعل معها في مواقع التواصل الاجتماعي، فيبدأ ما يسمى بالهوس.

تظل صورة السيلفي قاصرة عن أن تحمل المعنى، فهي لا تقول شيئا عدا ما تظهره، لذا فهي هشة وعرضية، تسطر سيادة اللحظية، وتراهن على تبئير اللعب على العاطفي، وقد ترغب الصورة الفوتوغرافية حسب بارت بشدة في نفس ضخامة الدليل اللساني، وهو ما سيسمح لها بأن تحظى بكرامة ككرامة اللغة، لكن لابد لوجود الدليل من وجود علامة، مهما كانت نوعية الشيء الذي تمنحه الصورة الفوتوغرافية للرؤية، ومهما كانت كيفيتها في ذلك، فإنها غير مرئية دائما، فليست هي ما يُرى.

وقد اختبر بارت الوضعية المفارقة التي تبنين وجود الذات في الصورة الفوتوغرافية، فال”أنا” أمام العدسة هي في الواقع ذاته: الشخص الذي أعتقد أنه أنا، والشخص الذي أريد للآخرين أن يعتقدوا أنه أنا.


الهوامش:

1-سيجموند فرويد، خمسة دروس في التحليل النفسي، ت جورج طرابيشي، دار الطليعة للنشر، بيروت1979، ط1، ص64-65.

2-سيجموند فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ت مصطفى زيور وعبد المنعم المليجي، دار المعارف مصر، ص87.

3-رولان بارت، العلبة النيرة مذكرة حول الفوتوغرافيا، ت ادريس القري، فالية للنشر والطبع والتوزيع، 2018، ط2، ص12.

4-غي غوتيي، الصورة المكونات والتأويل، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، البيضاء2012، ط1، ص8.

5-جيل دولوز، الصورة-الحركة أو فلسفة الصورة، ت حسن عودة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق1997، ص124.

6-إلزا غودار، أنا أوسيلفي إذن أنا موجود تحولات الأنا في العصر الافتراضي، ت سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب 2019، ط1، ص76.

7-سعيد بنكراد، السيلفي أقصى درجات العزلة، موقع الدكتور سعيد بنكراد.

8-إلزا غودار، أنا أوسيلفي إدن أنا موجود، مرجع سابق، ص84.

9-نفسه، ص86-87.

مريم الجنيوي

مريم الجنيوي: طالبة باحثة - جامعة محمد الخامس؛ كلية الآداب الرباط - المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى