سيميائيات النّسق الإيمائي – الجسدُ ولغاته –
سنحاول في هذا الفصل تقديم قراءة لنسق إيمائي يتسم بالتعقيد والتركيب. وسنحاول فعل ذلك استنادا إلى المعرفة السميولوجية التي تبيح لنا التعامل مع الجسد باعتباره نسقا تواصليا له امتدادات في كل مناحي الحياة العاطفية والعقلية والمخيالية.
فالجسد ليس كتلة كلية، والروح ليست طاقة مبهمة توجد خارج الأجهزة التي تكشف عن مناحيها. إن الأمر يتعلق بجهاز يشتغل كسند للعيش والتواصل وإنتاج الدلالات، إنه لغة أو هو لغات لها قوانينها ومنطقها وأسرارها أيضا.
وتلك حقيقة بديهية، فالجسد يحتل مكانة هامة في حياتنا اليومية، إنه المبدأ المنظم للفعل، وهو الهوية التي بها نُعرف ونُدرك ونُصنف، وهو أيضا الواجهة التي تخون نوايانا الأكثر سرا. ” وليس غريبا أن نلح في الحديث عنه ونتغنى بجماله ونربت عليه وننصت إليه في قوله وفعله، وفي جده وهزله وفي سكناته وحركاته، و نهتم به] حين يصحو ويغفو وينشط ويكسل ويتألم وينتشي ويذبل وينتهي”. (1)
إننا نشدد على شيء هام : ما نقدمه هنا هو قراءة خاصة، الغاية منها الكشف عن الطريقة التي ينتج بها الجسد دلالاته، والدلالات هنا هي مجمل الطاقات التعبيرية الكامنة في الجسد، ولذلك سنتجاوز بسرعة البعد النفعي المباشر للجسد، لكي نوجه اهتمامنا إلى استعمالاته الاستعارية المتنوعة. وكما هو الحال في تعاملنا مع اللسان، فإن ما يستهوينا في أي نسق ليس حدوده المرئية، بل تأليفاته المضمرة التي تستعصي على الضبط وتنفلت من بين أيدي المحلل باستمرار، وذاك هو السر الذي يمنح اللعبة لذتها.
1 – الجسد : الشيء والحجم الإنساني
يوجد الجسد داخل عالم الأشياء، فهو جزء منها ولا يتميز عنها في شيء. إنه موضوع ضمن موضوعات لا تعد ولا تحصى، إنه كالأشجار والأحجار، وكجميع الأشياءالاخرى، يشكل نسقا ضمن أنساق أخرى تلوذ، جميعها، بالكون بحثا عن معنى وعن دلالة. فإذا كانت كل الأشياء لا تدرك إلا من خلال ارتباطها بهذا الكون اللامتناهي الامتداد، ” فإن كينونة الجسد تكمن أيضا] في ارتباطه بكون ما، وجسدنا لا يوجد في الفضاء، إنه الفضاء”(2).
ويوجد الجسد أيضا خارج الأشياء من حيث إن هناك “حجما إنسانيا” -بتعبير گريماص-(3) يقوم بملء الجسد /الشيء بأبعاد تنأى به عن الطبيعة كعنصر منفعل يستوعب القيم ولكنه لا يستطيع إنتاجها. فإدراك الأشياء يمر عبر وعي مركزي يفصل بين الأشياء ويقوم بتهذيبها وترتيبها وتشكيلها وليتشكل عبرها كلحظة وعي تفصل بين الجسد/ الشيء وبين الجسد/الحجم الإنساني.
إن تشكل الجسد كدال متكامل ومكتف بذاته وقادر على توليد سلسلة لا متناهية من الدلالات انطلاقا من تنوع الأنماط الصانعة لكينونته، هو الخطوة الأولى نحو انفصاله عن الأشياء والغوص عميقا في الحقل الثقافي. فالجسد ليس معطى سابقا على العين التي تدركه وتصفه كجغرافيا ممتدة في الزمنية الإنسانية.
فما قلناه عن “الحجم الإنساني” باعتباره ما يميز الجسد عن الأشياء الأخرى، لا يعني أن الجسد روح سابقة في الوجود على مجموع النسخ التي يتحدد عبرها هذا الدال. فإذا كانت لحظة الفصل بين الفعل الغريزي والفعل المدرَك كعنصر ضمن نسق (أو أنساق) يقتضي الانتقال من الإدراك الغريزي أو اللحظي- إذا جاز التعبير- إلى ما يشكل حالة ممكنة للأشياء، فإن الحديث عن الحجم الإنساني يقتضي وعي الشيء لذاته ( وفي حالتنا وعي الجسد لنفسه).
وفي هذه الحالة نكون قد تجاوزنا حدود الشيء الموضوع، إلى ما يشكل العالم الإنساني : الإنسان بصفته محفلا متجاوزا لنفسه من خلال إنتاجه لحركاته وتنقله في الفضاء.
إن هذا التقابل بين عنصرين ينتميان إلى نفس الكون يقودنا إلى الكشف عن تقابل ثاني يعود هذه المرة إلى الجسد نفسه. فإذا كان الإنسان ينتج -عبر جسده – حركات، وينتج حالات وجدانية معبرا عنها إما من خلال إجراء (فعل)، وإما من خلال حالة (إسم)، فإن هذا يفترض، من جهة، وجود برامج مسبقة تستوعب داخلها هذه الحركات، ويفترض من جهة ثانية وجود سنن يفسر هذه الحركات ويرسم لها دلالتها (دلالاتها(.
فإذا كانت الحركة، أية حركة ( حركة جسم أو حركة نص، أوحركة رسم …)، تفترض وضعية سابقة عليها تشتغل إما كنقطة صفر لأية سيرورة مقبلة ( تفسرها وتشكل نقطة عودتها )، وإما كسند، أي ما يشكل الحزام الأمني لفعل يتحدد في الفضاء، >فإن المحورالأفقي يشكل المساحة الصلبة ( أوالسائلة في حالة السباحة مثلا)، أي مكان التنقل “الطبيعي” الذي يقابل الوضعية “الطبيعية” مجسدة في حالة الوقوف. ورغم أن هذه المفصلة ليست مبررة بالشكل الكافي، فإن التمفصل الأصلي : الأرض أفقية (م) الإنسان عمودي ينظر إليه، عموما، كوضعية بدئية سابقة على الحركة” (4) .
ومعنى هذا أننا ننطلق من وضعية نقول عنها ( أوربما هي كذلك فعلا ) أصلية محددة لما سيأتي وتشتغل كمستوى الصفر بين سيرورتين. وبعبارة أخرى، فإن النص الجسدي- على غرارالنص اللساني حيث يتم البناء انطلاقا من وجود بياضين- يتشكل هوالآخر إما مما يفصل بين نقطتي صمت، وإما مما يشكل لحظة فعل بين سكونين.
وفي الحالتين معا، فإن الوضع البدئي لا يدخل ضمن التشكل النصي إلا في حدود اشتغاله كنقطة بداية حيث يتم خرق الصمت ( لأننا نعتبرالصراخ وكذا مجرد التلفظ بكلمات انزياحا عن الوضع البدئي كما تم تحديده في الفقرة السابقة) وإنتاج سلسلة من الملفوظات الإيمائية، وإما كنقطة نهاية داخل سيرورة تلفظية حيث إن السكون يلي إنجاز سلسلة من البرامج الإيمائية التي تدرك باعتبارها إرساء لدعائم دلالة متولدة عن التأليف بين مجموعة من الحركات.
ونكون في الحالة الأولى كما في الحالة الثانية أمام مرحلة تدشن انفصال الشيء عن الحجم الإنساني، انفصال العالم الطبيعي عن العالم الإنساني. و>هكذا عوض أن يمثل هذا العالم أمامنا باعتباره شاشة منسجمة من الأشكال، سيظهر بصفته كيانا] مصنوعا من مجموعة من الدوال المتراكبة والمترابطة فيما بينها<.(5) انطلاقا من هذا، يمكن القول إن الجسد يلغي نفسه كموضوع من موضوعات العالم ليقدم نفسه باعتباره ما يخبر عن هذه الموضوعات وما يدركها. وسيكف أيضا عن أن يكون منبعا للغايات العملية والحركات النفعية الناتجة عنها، ليتحول إلى شاهد تُشَكل مظاهره البناء الثقافي الذي يؤسس ابستيمي مرحلة ما.
2- الدال الجسدي : تداخل العملي والثقافي
إن ما أشرنا إليه سابقا باعتباره تمييزا بين البرنامج (مجموع الحركات الدالة على طقس معين: الأكل، الشرب…) وبين السنن (المضامين المسننة بشكل سابق والمحتاجة، لكي تفهم، إلى معرفة سابقة) يعد في واقع الأمر تمييزا بين الحركات العملية والحركات الثقافية. فإذا كان الجسد يخلق، عبر تنقله في الفضاء، سلسلة من الوحدات الإيمائية، فإن هذه الوحدات تخلق سلسلة من الانزياحات تقود إلى نوعين من النصوص الجسدية :
– إما نصوص “طبيعية” وهي كذلك لزنها تدرك وفق النص الثقافي العادي، أي ما يعود إلى التجربة المشتركة ( إنه يمشي، إنه يأكل، إنه يشرب (،
– وإما نصوص ثقافية تدرك باعتبارها خروجا عن المعيار المحدد للفعل الحركي العملي. وفي هذه الحالة، فإن الانزياح لا يتم انطلاقا من الوضع البدئي، بل يتم انطلاقا من الفعل الحركي العملي، ما دامت كل الحركات الثقافية متولدة عن الحركات العملية أوتدرك وفق قوانينها. فكل الملفوظات المنجزة من طرف الذات/الجسد، عبرالتنوع الايمائي، لا تفهم إلا من خلال تحديد مسبق للسياق الثقافي الذي تنجز داخله هذه الوحدات الإيمائية.
وعلى هذا الأساس، فإن ” التمفصل المورفولوجي للجسم الإنساني، رغم كونه يعد أساس كل وصف للجهاز الايمائي، ليس معطى مباشرا وبديهيا، شأنه في ذلك شأن كل تقطيع للجسم إلى أعضاء، إنه خاضع للتنويعات الأنتروبولوجية”(6).
وهذا ما يجعل الحدود الفاصلة بين ما ينتمي إلى البعد العملي وما ينتمي إلى البعد الأسطوري/الثقافي حدودا هشة وغير منيعة. فعناصر هذا المستوى قابلة لأن تشتغل داخل ذاك المستوى انطلاقا من قوانين وقواعد جديدة. ولن يحد من فوضى هذا التداخل بين المستويات (الأمر يتعلق أيضا بتداخل بين مستويات القراءة ومستويات التدليل) سوى استحضار النص الثقافي العام الذي يؤطر مجموع هذه المستويات.
إن الأمر يعود في نهاية المطاف إلى الرغبة في التخلص من مقتضيات الأبعاد الوظيفية والغايات العملية المسبقة لتحقيق فعل الرغبة في أعلى مستوياته. فكلما تخلص الإنسان من الغايات العملية المباشرة تفتحت أمامه إمكانات التأويل والقراءة.
ومع ذلك، إذا كانت الوظيفية هي أساسا ارتباط العضو بنسق معين(7)، فإن الطابع الثقافي لا يؤدي بالضرورة إلى التخلص الكلي والنهائي من إرغامات الغايات العملية. وعلى هذا الأساس يمكن تناول تداخل هذين المستويين انطلاقا من ثلاث زوايا، وكل زاوية تجسد إمكانية توليد سلسلة من النصوص التي تدرك وفق قوانين وقواعد هذه الزاوية أو تلك.
الأمر يتعلق في مرحلة أولى بتداخل الثقافي والعملي ضمن تشكل كينونة العضو الواحد، أي محاولة تحديد نصيب كل عضو من الأعضاء من الثقافي والعملي/الطبيعي. ويتعلق في مرحلة ثانية بامتدادات الجسد خارج نفسه، وتشكل أبعاده العملية والثقافية ضمن بنية الفضاء باعتباره نصا ثقافيا يعمل على تحديد التشكيل الثقافي للجسد. ويتعلق الأمر في المرحلة الثالثة بالجسد بين حالة السكون وحالة الحركة، وبين الرغبة وسلطة الأشكال والبناء القصصي.
وبعبارة أخرى الإجابة عن السؤال التالي : هل يمكن تصور جسد خارج إطار الأشكال التي تخبر عنه؟.
3- العضو بين الحجم الثقافي والبعد العملي
عندما يستعصي العثور على معنى للكل، بإمكان المحلل أن يعود إلى الأجزاء. فقد لا يدل الكل إلا من خلال أجزائه، أو قد تختلف دلالة الكل عن دلالة الأجزاء المكونة له. تلك حالة الجسد وتلك حالة دلالاته وأشكاله ومعانيه. إنه متحرك ومتغير ومتبدل. إنه يخلق من نفسه أشكالا ويخلق من الأشكال أشكالا. وهو في كل هذا لا يصل إلى غاياته إلا من خلال عناصره وأشكال تحققها.
فهل بإمكاننا أن نقرأ الجسد دون أن نقرأ أطرافه؟ هل بإمكاننا أن نكتب عن الرغبة دون أن نتحدث عن أدوات تحققها؟ في واقع الأمر نحن لا نكتب عن الرغبة، فالرغبة تستعصي على الإدراك المجرد، إنها طاقة ذاتية يعيشها الفرد كسر مطلق، فأقصى ما يمكن أن نفعله هو أن نصف تجلياتها. نصف العيون الشبقة ونصف الخصر الضامر، ونصف الصدر المكتنز، ونصف تناسق الأطراف وتناثر الشعر.
إن هذه العناصر مجتمعة لا تشكل الرغبة ولكنها تشكل الوجود الرمزي للرغبة، إنها ” مجموعة من الممثلين الكنائيين الذين يتحركون نيابة عن عامل واحد ووحيد” (8). ورغم ذلك سنقول عن كل عضو إنه الرغبة.
من هنا كان الجسد كلا وأجزاء في الوقت نفسه، إنه يُولِّد معطى انفعاليا وغريزيا وثقافيا عاما، ولكن هذا المعطى لا يدرك إلا من خلال الأجزاء، ولا يستقيم وجود هذه الأجزاء إلا من خلال اندراجها ضمن هذا الكل الذي هو الجسد. وبالعودة إلى الأجزاء ندرك تفاوتها في القيمة والموقع والحجم. إنها محكومة بالاستعمالات : الاستعمالات العملية (النفعية)، والاستعمالات الغريزية، والاستعمالات الثقافية/الاسطورية. فالجسد، باعتباره بؤرة لتجلي العملي والغريزي والوظيفي والأسطوري/الثقافي يعيش،بشكل دائم،تحت التهديدات المستمرة للاستعمالات الإيحائية (الاستعارية ).
إننا من خلال هذه الاستعمالات لا نقرأ الحركة ولا نقرأ الإيماءة، ولا نقرأ ترابط هذه الحركات وهذه الإيماءات، ولكننا نقرأ فقط النصوص التي تولدها هذه الحركات.
إن كل حركة هي في واقع الأمر إنجاز لمشروع ثقافي. إنها تشكل مشروعا لأن هذه النصوص هي نصوص مليئة بالبياضات، والأجزاء غيرالمكتملة، ولكنها تمثل، من حيث البعد الإيحائي، الامتلاء الدلالي في أبهى صوره. إن الجسد في هذه الحالات شبيه بالوحدات المعجمية لا يملك معنى، إنه يعيش على وقع الاستعمالات، الأمرالذي يجعل من إيماءة واحدة منبعا لسلسلة كبيرة من التأويلات. إن أية حركة معزولة قد تولد نصا متكاملا يقود من الأجزاء البسيطة إلى ما ينظر إليه كتركيب لسلسلة من الإيماءات الدالة على ممارسة معينة (لنتذكر الاستعمالات المتنوعة لليد. فهي هنا لكي تدل على التهديد وعلى المنع وعلى العناق، كما تدل على الإشارات الرامزة للفعل الجنسي). وعلى هذا الأساس، فإن الانتقال من هذا النص إلى ذاك، ضمن النسق الواحد، أوضمن الأنساق المتنوعة والمختلفة، أمر وارد في كل لحظة.
ويكفي، لإدراك ذلك، أن نغير من سياق حركة ما، أو أن يكون المتلقي جاهلا بالنص الثقافي الذي تنجز داخله هذه الحركة لكي نجد أنفسنا أمام نصوص اللامعقول أو أمام ما يخدش “الحياء”. ويزداد الأمر تعقيدا كلما أمعنا في عملية التجزيء وحاولنا أن نحدد لكل عضو سياقه واستعماله ودائرة اشتغاله، وكذا الوحدات الإيمائية القابلة للإنجاز انطلاقا منه. سندرك لحظتها أن هناك وحدات تشتغل، على الصعيد الثقافي، كمستوى الصفر؛ فهي محايدة وبريئة وحياتها محكومة بالوظيفة التي تدرك من خلالها، أي أن وجودها وجود تقريري لا يقوم إلا بتنفيذ مشاريع الحس العملي. وهناك من الأعضاء من يعتبر بؤرة لتجلي الثقافي والعملي (العين واليد مثلا(.
وفي هذا الاتجاه يمكن القول إن الرِجل محايدة، وأن النصوص المتولدة عنها نصوص ضعيفة ومحدودة. وعلى العكس من ذلك اليد. فاليد عضو زئبقي ومتحرك، ينتقل من هذا النص إلى ذاك بسهولة. إنها حاضرة في كل النصوص : نصوص المنح والحمل والمداعبة، وحاضرة أيضا في نصوص القمع والمنع والمصادرة. إن الثقافة حاضرة في اليد بشكل لا يوازيه إلا حضورها في العين. وما بين العين واليد تواطؤ ثقافي لا يظهر إلا من خلال تحديد النصوص المتولدة عنهما. إنها، مثلها، تشير وتلمح، تفتح وتغلق ( إنها في نفس الآن للعناق والصد) يتداخل فيها العملي والثقافي بشكل مفزع. إن اليد تحجب الضوء عن العين والعين هي التي توجه اليد.
وهناك من الأعضاء ما يتأرجح بين الطبيعي والثقافي. فهو أحيانا عضو مشدود إلى الوظائف، ومهمته هي الاستجابة للغايات العملية. وهو أحيانا مرتبط بغايات غريزية/جنسية، وهو أحيانا أخرى مرتبط بعوالم جمالية يتحدد عبرها العضو كعنصر رئيسي في بناء المعمار الجسدي (جسد المرأة مثلا ). ولعل أحسن ما يمثل هذا صدر المرأة. فالثدي مرتبط في أغلب الاستعمالات بالرضاعة (حليب الأم) ولعل هذا ما دفع صاحب لسان العرب إلى عدم التخصيص فقال بثدي المرأة وثدي الرجل مما ينفي عن هذا العضو، من خلال التسمية على الاقل، أي طابع جنسي مباشر.
أما النهد فلصيق، في الاستعمال كما في الوجود بالجانب الجنسي. وهو في الاستعمال العربي القديم يدل على البلوغ والنضج الجنسي، فـ>نَهد الثدي يَنهُد، بالضم، نُهودا إذا كعب وانتبر وأشرف<(9) أي برز وكشف عن أنوثة صاحبته. (إن هذا التعريف لا يحيلنا في واقع الأمر على مجموعة من الخصائص الذاتية للعضو بقدر ما يحدد الشكل الوجودي له وذلك من حيث إنه يتضمن حضور الرائي الذي يرى، ويبصر ويتأمل) أما الصدر فهو واجهة البناء ورونقه ووجهه وما يخبر عن جماله (ا لفرنسيون يستعملون، للتعبير عن هذه القضية، العبارة التالية:une belle poitrine .
إن التسمية في هذه الحالة ( وفي جميع الحالات أيضا) ليست مجرد أداة لتمييز هذا الشيء عن ذاك، ولا تحديد شيء ضمن أشياء أخرى فقط.إن التسمية تحديد للتنويع الثقافي والأنتروبولوجي الخاصين بوجود الأشياء والكائنات وبنمط اشتغالها. فإذا كان العضو الواحد قابل لأن يتلقى سلسلة من التسميات، فإن ذلك يعود إلى النمذجة الثقافيةالمسبقة التي تثبت العضو ضمن دوائرمتعددة : دائرة الوظيفة ودائرة النسق الجمالي ودائرة الفعل الغريزي. إن التسمية تمييز، ولكنها تعد أيضا إفرازا لردود الفعل النفسية والغريزية عند الآخر.
لقد اعتبرنا سابقا “الرِجل” عضوا محايدا ونفعيا، وهي كذلك من خلال التسمية أي من خلال اختيار متوالية صوتية لتثبيت قيمة ثقافية محددة لعضو. وهي ليست كذلك عندما تحدد من خلال متوالية صوتية أخرى. فالساق جنسية : الرجل للوقوف والمشي والجري والسند، والساق واجهة جمالية، وتثبيت لخطاب وقراءة وتأويل. الرِجل، رِجل المرأة والرجل على السواء، والساق ساق المرأة وحدها (أنظر لائحة الأسماء التي يوردها التيفاشي(10) للذكر وللفرج، إنها أسماء قد تثير سخريتنا لكنها تحدد هذه الأعضاء ضمن حالات وجودها المتنوعة). وكذلك الشأن مع الجسم والجسد والجثة والبدن، حيث إن النواة الدلالية الدائمة لا تغتني بإيراد سياق جديد يخلق تنويعاانطلاقا من أصل ثابت، ولكنها تغتني انطلاقا من إثارة حالة أوحالات تولد سلوكا وتخلق خطابا.
وهكذا، إذا كانت الأعضاء (وكذا الحركات الصادرة عنها) توزع تقريريا (أي حسب موقعها على المستوى العملي) حسب وظائفها، فإن الانتقال من النص التقريري إلى ما يشكل انفتاحا على نص الثقافة، سيؤدي إلى إعادة توزيع لهذه الأعضاء، ويتم الأمر هذه المرة حسب موقعها من الرغبة : الأعضاء الجنسية، الأعضاء شبه الجنسية، الأعضاء القريبة من الفعل الجنسي، وحسب موقعها من إنتاج الدلالات الإيحائية : أعضاء الإشارات الرمزية كالعين واليدين والرأس، وحسب موقعها من إنتاج النصوص الفنية : الأرجل في البالي، الكتفين والأرجل والخصر في الرقص الشعبي.
وليس معنى هذا أن هناك حدودا فاصلة في الاستعمال الخاص بهذه الأعضاء، وأن كل نص لا يستعمل إلا أعضاء محددة دون غيرها. إن الأمر يتعلق فقط باستعمال الأعضاء الأكثر تمثيلية. فكل نص يعبأ من الطاقات ما يخدم ويحدد هويته الخاصة. إن هذا التداخل بين المستويات هو الذي يولد تنوع النصوص وأصالتها. ولقد بين كلود بريمون في دراسة قيمة (11) كيف أن الرسوم المتحركة تستخدم الأيادي والأرجل أكثر من أي عضو آخر، لأن هذه الأعضاء مرتبطة بالإيماءات وبالفعل. ولما كانت الرسوم المتحركة نصوصا سردية في المقام الأول، فإنها تستخدم بكثرة هذه الأعضاء للتعبير عن الطابع الحركي المميز للفعل السردي.
4-امتدادات الجسد خارج نفسه.
ومن الجسد في ذاته، عبر تضاريسه وسهوله، ننتقل إلى الجسد في علاقته بكونه : كونه القريب أولا، أي الأشياء التي تؤثثه وتمنحه واجهته، وكونه البعيد ثانيا، أي موضوعات العالم التي يتحرك ضمنها، يتم الانتقال من التركيز على الجسد كمُولد مباشرلتنوع إيماءاته : تداخل الثقافي والعملي ضمن ما يشكل كونية الجسد، إلى ما يصنع هوية الجسد كعنصر يخبر عن انتماء جغرافي أوفئوي أوطبقي. إن الانتقال من المدن إلى البوادي، ومن السهول إلى الجبال، ومن الأحياء “الراقية” إلى “مدن الصفيح”، يؤدي إلى استشراف تصور جديد للإيماءات وللحركات.
فإذا كان الفضاء يتشكل في ذاته كبنية دالة داخل دائرة الفعل الإبلاغي، أي بصفته فضاء إنسانيا، فإنه يقوم بتأسيس دلالات الأشياء التي تتحرك داخله، ومن ضمنها حركات الإنسان وأفعاله؛ سواء كانت هذه الحركات مصاحبة للفعل اللغوي أوكانت نصا إيمائيا مكتفيا بنفسه. تأسيسا على هذا، فإن الإيماءة تتشكل وفق القوانين التي تجعل من الكون هندسة فضائية تخفي في ثناياها الأشكال الثقافية المالكة لمفاتيح الإنتاج والتأويل.
تشكل امتدادات الجسد خارج نفسه ( في ما ليس هو) : امتدادته في أشيائه : في الملابس والعصا والسيجارة وقضبان الحافلة وجسد الآخر، وامتداداته في الفأس والمذراة والمنجل وأدوات الصباغة، وامتداداته في الصوت : الهمس والصراخ والعويل، وكذا الابتسامة والضحك والوجه المقطب، دلالات أصيلة تعد المدخل الرئىس إلى الكشف عن الهوية الثقافية للجسد. إنها دلالات أصيلة لأنها تتجاوز المضامين اللسانية القابلة لاحتوائها.
فالإيماءات ليست مرادفا لأصل لساني: الإيماءة جزء من نسق، واللسان نسق من طبيعة أخرى. إن الإيماءة الدالة على الدعوة للمجيء”تعال”، ليست مجرد عنصر إضافي ومكمل للعنصراللفظي، إننا لا نستطيع اختصارها في معادل لفظي يعوضها ويُبلغ، بنفس القوة، نفس المضمون. إن الأمر على خلاف ذلك ( لا وجود لإبلاغ لساني بحت، تلك قناعة كل اللسانيين)، فإذا كان بإمكاننا أن نرسم حدودا، داخل الجسد، بين الوحدات ( أوبين أجزائها ) الدالة ( أي القصدية ) وبين الوحدات غيرالدالة ( لا تملك قصدية )، فمعنى هذا أن الوحدات الإيمائية تنتج وتدرك وتؤول داخل سنن معين.
ومعنى هذا أيضا أنها تشكل لغة، ويجب التعامل معها باعتبارها نسقا يملك قواعده وقوانينه ونمط اشتغاله. ومن ثم ستكون للجسد لغته الإيمائية التي تملك خصوصيتها : خصوصيتها في نمط الوجود وفي قواعد الاشتغال. بل يمكن القول إن اللسان نفسه ليس بريئا منها. فامتداداته الكتابية والصوتية ( نقصد الصراخ بالأساس)، هي الظل الآخر للغة الإيمائية : الإيماءات رمز، وكذلك الكتابة والصوت المدوي.
وهكذا إذا كانت كل إىماءة تملك- شأنها في ذلك شأن الوحدات اللسانية- مستوى للتقرير وآخر للإيحاء، فإن الوحدات المنتمية للمستوى الثاني قابلة للتنويع انطلاقا من طبيعة الامتدادات الصادرة عن الجسد وعمقها الثقافي. فإذا كان رفع اليد إلى أعلى ثم مدها إلى الأمام ثم جذبها إلى الجسد تدرك تقريريا كدعوة “تعال”، فإن هذه الحركة خاضعة لتنويعات متعددة. فإذا كانت القاعدة اللسانية تدلنا على أن كل تغيير يلحق الفيمات ( الوحدات المميزة على المستوى الصوتي)(12) يؤدي، بالضرورة، إلى تغيير على مستوى المعانم (الوحدات المميزة على المستوى الدلالي) (13)، فإن الأمر لا يختلف مع الوحدات الإيمائية في نمط إنتاجها لمدلولها. فكلما تغيرت الوحدات المنتمية إلى مستوى التعبير (الدال)، تغيرت المضامين التي يعد هذا التعبير سندها وأساس وجودها.
وهكذا، وكما هوالشأن مع الصوت في الإرساليات اللغوية حيث إن رقة الصوت أو خشونته، الصراخ أوالهمس، يدل على حالة نفسية معينة ( دلالة مثبتة داخل سنن)، فإن الوحدات الإيمائية تُولد، انطلاقا من طرق تنفيذها أولا، ثم انطلاقا من نمط تشكلها ثانيا، تنويعات دلالية تعد تنويعات ثقافية نطلق عليها مفهوم : الدلالات الإيحائية.
فإذا كان البعد الكوني داخل الجسد يتحدد من خلال وضعيات محدودة، لعل أهمها الوضعية التي اعتبرناها أصلية : الأرض أفقية (م) الإنسان عمودي، ” فإن أغلب المواقف والإيماءات تعود إما إلى أحاسيس أولية ( الخوف، الغضب، التحدي الخ) وإما إلى سلوكات بيفردية مشتركة بين الجميع (الاعتداء، التفاوض، الغش، النجدة)، وإما لأفعال عادية (المشي، السباحة، القراءة)، وإما إلى عمليات معقدة ولكنها قابلة لأن ترد بسهولة إلى نماذج محدودة ( لا توجد، بدون شك، اختلافات جوهرية بين موقف ذاك الذي يقود طائرة للركاب وذاك الذي يقود سيارة في مباراة للسباق) “(14) .
انطلاقا من هذا العدد المحدود من الوضعيات، يمكن توليد سلسلة من الإيماءات الخاضعة في تنفيذها للبرامج الثقافية المسبقة التي تجعلنا نصف هذا بالبدوي “المتخلف” وذاك بالمديني “المتحضر” وآخر بانتمائه إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط،.
وهكذا، انطلاقا من المثال السابق (الوحدة الإيمائية الدالة على الدعوة للمجيء “تعال”)، يمكن إيراد التنويعات التالية:
أ-سرعة إنجاز هذه الإيماءة تحيلنا على السيميمات ( الآثارالمعنوية ) التالية :
– الحالة النفسية للباث (غضب، قلق، …)
– طبيعة العلاقة بين الباث والمتلقي (رئيس-مرؤوس، أب -أبن مثلا(
– الأمر
ب- بطء إنجاز هذه الإيماءة (أو إنجازها وفق المعاييرالعادية) تحيلنا علي السميمات التالية:
– تكافؤ قيمة المشير مع قيمة المشار إليه، أو على الأقل انتماؤهما لنفس المرتبة الاجتماعية.
– وجود معرفة سابقة بين المشير والمشار إليه.
ج-مرفقة أو غير مرفقة بإرسالية لغوية. ففي حالة وجود إرسالية لغوية، فإننا نكون أمام مضمون يختلف عن مضمون الحالة التي تغيب فيها هذه الإرسالية.
إن هذه التنويعات مجتمعة ( وغيرها كثير) تنجز داخل نفس الدائرة الدلالية. وبعبارة أخرى، فإن هذه الإيماءات محكومة بنفس السنن الذي يشير إلى سلسلة من المضامين المثبتة في حركات درج الناس على تأويلها باعتبارها حاملة لمضامين معينة. إلا أن الأمر يزداد تعقيدا إذا نحن حاولنا الخروج من هذه الدائرة لنخلق تنويعات جديدة تخرج بنا عن “المعيار” الذي تنتج وفقه هذه الإيماءات، لندخل ضمن دائرة ثقافية أخرى تضع الباث وحده موضوعا للإيماءة، أي ما يقوم بتحديد شكل وجود هذه الإيماءة.
لقد سبقت الإشارة إلى أن الفضاء يتشكل -داخل الوضعيات الإنسانية، إبلاغية كانت أم دلالية- كعنصر دال في علاقته بممثلي الفعل الإنساني. إن هذا الفضاء نفسه يقوم، بنفس الطريقة، بمنح الأشياء والحركات وكذلك اللسان ( لنتذكر حالة الصمت وربطها بالصحراء، وربط الهدير بالبحر، وربط الصوت بالصدى…) دلالات جديدة.
وبناء عليه، فإن علاقة الفرد بالفضاء (بالأشياء) تمنح لحركاته معنى خاصا “يفضح” أصوله وجذوره. ولا تدرك حركات الفلاحين وإيماءاتهم ،مثلا، إلا من هذه الزاوية. فإذا كان هؤلاء يتميزون بإيماءاتهم الواسعة والعريضة، فإن ذلك يعود إلى وجود نوع من الامتداد بين اليد والأداة التي تحتضن الأرض، وبين الصوت والفضاءالذي لا تحده العين. فالمذراة والمنجل والفأس والعصا كلها أدوات توسع من دائرة اليد. فالتواصل مع الأرض ( الفضاء) يفترض وجود امتدادات لليد في أدوات التواصل.
لقد أشرنا في ما سبق إلى امتدادات الإنسان في الأشياء، وإلى رغبته في الخروج من دائرة الذات/الجسد، لخلق المعادل المحدد للكينونة ضمن دائرة الفضاء الواسع. ويمكن الآن القول : إذا كانت نوعية الامتدادات تحدد طبيعة الذات المنتجة للإيماءة، فإن نوعية الأشياء-النقطة النهائية للامتداد-تحدد أيضا طبيعة وحجم ونوعية الإيماءة. إننا أمام توافق -جزئي أوكلي- بين الأشياء وبين حجم الإيماءة : تختلف إيماءات النساء عن إيماءات الرجال أولا، وتختلف إيماءات أهل الحضر عن إيماءات البدو ثانيا، وتختلف إيماءات أهل الشمال عن إيماءات أهل الجنوب ثالثا.
أَلا يعود هذا إلى “أسلبة الأشياء” ( منحها أسلوبا في الوجود ) كما يعتقد ذلك بودريار؟. إن الأمر كذلك حقا، “فأسلبة الأشياء] مرتبطة بأسلبة الإيماءة الإنسانية التابعة لها. وهذا يعني دائما تغييب الطاقة العضلية وطاقة العمل، إنه تغييب للوظائف الأولية لصالح الوظائف الثانوية الخاصة بالعلاقات وبالحساب؛ إنه تغييب للفعل الغريزي لصالح الفعل الثقافي؛ والوسائط العملية والتاريخية لكل هاته السيرورات، على مستوى الأشياء، هي التغييب الأساسي لإيماءة المجهود العضلي، أي المرور من إيماءة كونية للعمل إلى إيماءة كونية للمراقبة.”(15).يجب البحث عن ذاكرة الإيماءة في تاريخ الأشياء، وتاريخ الأشياء يلخصه حجم الإيماءة.
وكذلك الأمر مع الصوت. فكما تختلف الإيماءات “الرقيقة” عن الإيماءات “الخشنة”، يختلف الصوت الرقيق عن الصوت الخشن، ويختلف الهمس عن النداءات المسترسلة. إن الصوت -كشكل من أشكال وجود النص الجسدي- يتشكل وفق أشكال وجود الفضاء نفسه : الوجود الممتد عبر النظرة التي لا تحد، وعبر الوجود الماثل أمامنا كأسوار وجدران وعمارات تحجب الصوت عن الصوت، تماما كما تحجب الجسد عن الجسد. فليست تلك “النداءات الطويلة ” التي تسمع في البوادي مجرد “دعوة للمجىء” أو “لتبليغ أمر ما ” أو “رسالة ما”، إنه يتحدد ضمن الفضاء كعنصر ثقافي : “يا ابراهيم” يبتلعها الفضاء المفتوح، وهذا الفضاء في حاجة الى هذا النداء ليؤنس وحشته. وهكذا كان اختفاء حرف النداء “يا” كما كان اختفاء حرف النداء “أيا” قبله، إيذانا باختفاء قيم وعلاقات وأشكال وأشياء كثيرة.
5- الجسد : السكون والرغبة وسلطة الأشكال
إن الجسد لسان، أي نسق يحتوي على سلسلة لامتناهية من الوضعيات المحتملة ( حركات معزولة، حركات يضمها التأليف البسيط والمركب، أوضاع مبهمة وأخرى صريحة، همس وصراخ، حكايات، أفراح ومآسي…)، إنه الكلام في حالة الكمون : إن وجود الجسد مرتبط بما سيصدر عنه. إن حالة السكون هي بؤرة التوقعية : منها سينبثق الفعل ومنها ستنبثق الأشكال.
إن الجسد خزان للدلالات، فهو يدل من خلال حركته ويدل من خلال سكونه. إن سكون الجسد ليس سكونا ماديا. إن السكون وضع أصلي في الجسد. إنه الكوة التي تطل منها الذات الفاعلة في السكون على ما سيصدر عنها ( الذات المنتجة للأفعال انطلاقا من حالة السكون). فالسكون هو أصل الدلالات المتولدة عن الإيماءات. ” فإذا كان الصمت هو الحيز المليء بالإمكانات الفاصلة بين كلمتين، إنه الانتظار الذي يشكل الحالة الأكثر هشاشة والأكثر غنى”(16)، فإن السكون ليس شيئا آخر سوى اللحظة المبهمة الفاصلة بين إيماءتين، إنه يشتغل بنفس طريقة الصمت، إنه ما يجعل من الإيماءات والأوضاع والأشكال أمرا معقولا ومفهوما وذا معنى.
إن السكون في الجسد لحظة انتظار : انتظار المعنى واللامعني، وانتظار الشكل واللاشكل وانتظاراللامعنى الذي يملك معنى ( ألا تدل حركات المختل عقليا على شيء معقول : الاختلال العقلي)، انتظارالموت والحياة ( حالة السكون المرتبطة بالنوم )، انتظارالفعل واللافعل.
إن محاولة تجاهل السكون في الجسد واعتباره حالة غير دالة معناه الحلم بخلق حالة قصوى للامتلاء الدلالي(17). إن الكثير من المعنى قد يقود إلى اللامعنى، كما قد يقود إلى العبث والتفاهة واللاجدوى. فكما لا يمكن الحديث عن حالة صمت مطلق ( ليس هناك سوى حالات التدليل المتواصل) (18)، لا يمكن الحديث إلا عن سكون واعد، سكون يشكل أفقا للمعنى، وأفقا للفعل، ولن يكون السكون حالة من حالات الفعل المنتج للمعنى إلا لحظة إنتاج الفعل، وما دام الفعل لا يدرك إلا كتكسير لسكون سابق، فإن السكون هو الوجه الآخر للفعل.
إن السكون في الجسد لا يوجد إلا متمفصلا في الإيماءات. إنه كالصمت في النص اللساني، لا يدرك كاحتمال دال إلا من خلال انبثاقه عن القول وفي القول(19). إننا لا نتحدث عن سكون النوم أو سكون الموت، فالأول تأجيل للمعنى والثاني غياب مطلق له(20)، إن سكون الجسد جزء من إيماءاته. وكما في النص الأول، فإن الجسد، في أنماط وجوده المتعددة والمتنوعة، في حاجة إلى طاقة سكونية محتملة. إن الرغبات وليدة الأشكال، والأشكال لا تتحقق إلا انطلاقا من لحظة سكون سابق ( ولا تدرك إلا باعتبارها ما يفصل بين سكونين).
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن هوية الجسد ليست شيئا آخر سوى مجموع أشكال تجلياته. ولن يدرك الجسد، لحظة تكسيره لحالة السكون، إلا باعتباره تنويعا للأشكال، والأشكال هي الوجود المحتمل للإيماءات والأوضاع والرغبة. و” الرغبة هي هذه الحالة النفسية الديناميكية، هي هذه الحركة أو الحاثة الداخلية، هذه الكثافة الشعورية المشحونة بالصور والأشكال والاستيهامات والمشاريع”.(21)
إن الجسد يعلن عن رغباته من خلال الإعلان عن أشكاله. وتاريخ الجسد هو تاريخ الأشكال وتاريخ البحث عن الأشكال؛ والتاريخ المأساوي للرغبة في إلغاء وإقصاء وتغييب الأشكال. ألا يعد الحجاب، بصفته شكلا من أشكال التواصل الثقافي، محاولة للإفلات من سلطة الأشكال ودلالاتها؟ إنه كذلك، فوجوده وجود تمييزي واختلافي ورمزي في نفس الآن. إنه يرمي إلى إلغاء الجسد كشكل والقذف به إلى “مرحلة” ما قبل الأشكال ( أوهو الشكل الذي يلغي الأشكال). ولا يمكننا تأويل الرغبة في إلغاء الأشكال سوى بالرغبة في إلغاء الرغبات (كبحها، وتقنينها) أي إلغاء أشكال وجودها وكل ما يخبر عنها أو يشير اليها ( الأمر يتعلق في الواقع بإلغاء الرغبات التي تحقق نفسها خارج أسوار المؤسسات كالزواج مثلا (.
وبعد هذا وذاك، فإن اللهاث وراء إلغاء الأشكال والعودة بالجسد إلى حالة اللاشكل (الكتلة غيرالمحددة المعالم) هو محاولة للوصول إلى خلق حالة اللامعنى. فاللاشكل يرادف اللامعنى. فإذا كان وجود كل نسق يتحقق وفق وجود الأشكال الدالة عليه، فلا وجود لأنساق تتحقق خارج أسوارالأشكال، فولادة معنى ما هو تكسير لطولية الكتل الفاقدة للأشكال. إن وجود علامة ما رهين بقيام الذات بخلق نتوءات وشروخ في المتواصل ( كان بورس يتحدث عن العلامة باعتبارها تدميرا للمتواصل.
فمع المتواصل لا يمكن تصورممارسة سميائية كيفما كان نوعها وكيفما كان شكلها). ومع ذلك، ورغم كل هذا، فإن الرغبة في تقديم الجسد بعيدا عن كل الأشكال لن يؤدي إلا إلى توليد الرغبة -عند الرائي- في تحيين كل الأشكال. ذلك ” أن “فراغ المضمون” المتميز بغياب التمفصلات، لا يمكن أن يملأ الا عبر تفجير الامتلاء المتوتر”. (22)
ومقابل هذا، تأتي الرغبة في إظهار الجسد عبر أقصى حد يمكن أن تعرفه الأشكال. وأقصى حد للأشكال حالة عري مشبوهة. وما بين الحد الأول والحد الثاني تتراوح حالات المعنى بين الفقر وبين الإشباع. فالحالة الأولى تضعنا أمام مخاض وآلام ولادة معنى لا تستقيم له الأشكال : كيف يولد المعنى من اللامعنى؟ وكيف يولد الشكل من اللاشكل؟. وتضعنا الحالة الثانية أمام فائض في المعنى وفي التدليل : يمتلك الجسد/الشكل مفاتيح كل قراءاته. وليس غريبا أن تطلق العامة على الجسد في حالته الاولى تعبير”الكفن “، وتطلق عليه في حالته الثانية تعبير” التصريح بالممتلكات “.
إن التعبيرين معا يحيلان على المعنى في أحجام محددة. فإذا كان” الكفن ” يمثل درجة الصفر أو ما تحتها في حالات المعنى، فإن ” التصريح ” هو الكشف عن كل الاوراق. إن “الكفن ” هو حالة موت : موت للجسد، وموت للذات، وموت للمعنى، و” التصريح ” حالة تدليل متسارع وشغوف بملء كل مساحات النص الجسدي.إن الحالتين معا تمتلكان تأويلا مسبقا.
وتماما، كما كان الشأن مع الحالة الاولى ( حيث إن غياب الأشكال يؤدي – عند الناظر- إلى الرغبة في تحيين كل الأشكال )، فإن الشكل المفضي، باستمرار، إلى توليد المزيد من المعنى، لن يؤدي- في كل الاوضاع – الا إلى خلق نوع من امتلاء العلامات ( حالات التشبع).
وسيؤدي هذا، بالضرورة، إلى التقليص في حجم التأويل. فالجسد النصي يملأ بياضاته من خلال تحديد أقصى لمعاني أشكاله، ويسد فراغاته من خلال خلق المزيد من الأشكال وتنويع الأشكال. إن فائض المعنى تعبير عن تأويل مسبق للأشياء.
ويتعلق الأمر في الحالتين معا بـ “حالات للجسد” وحالات لأشكال وجوده ( حالات طبيعية، وحالات ثقافية، وحالات تتراوح بين المظهرين : حالة العري في إفريقيا وحالة العري في أوروبا ). فإذا كانت الحالة الثقافية للجسد ( حالة الجسد المكسو بلباس كيفما كان شكل ونوع هذا اللباس) هي حالة حكي وأقاصيص لأشياء توجد خارج من يسندها (أي الجسد)، فإن حالة الجسد العاري (لحظة ميلاده ولحظة موته وأيضا وأساسا لحظة عودته إلى غرائزه وقد تخلص من كل قيود حالته الحضارية) تشكل حالة وجود خارج مقتضيات الحكي وخارج مقتضيات القص.
إن الجسد العاري يدرك جوهره بعيدا عن فعل السرد، إنه يتخلص من كل حكايات الكون ليحكي قصته : تتقلص داخله كل الأشياء إلا أشياؤه، وتموت كل الرغبات لديه الا رغباته : زمان واحد وفضاء واحد ولا ذات سوى اللحظة المُدرَكة خارج أسوارالزمن العادي.
أما الجسد المكسو بلباس ما، فيحكي عن كل جزئيات الحياة، عن برامجها وأسنُنها ونماذجها: يحكي قصة خياط ويحكي قصة حلاق وقصة عطار: عبرتفاصيل الموضة يوضع الرائي (القارئ) أمام معطيات تخبر عن زمن ( لباس ما يخبر عن فترة تاريخية ) وعن فضاء ( لباس ما يخبر عن أصل صاحبه أو صاحبته ). إننا نودع الجسد قيما ومفاهيم وبرامج للفعل. إن النص الجسدي، في مظاهره وأشكاله تكتبه الموضة و “النگافة”والخياط.
والخلاصة إن الجسد واقعة اجتماعية؛ ومن ثم فهو واقعة دالة. فهو يدل باعتباره موضوعا، ويدل باعتباره حجما إنسانيا، ويدل باعتباره شكلا. إنه علامة، وككل العلامات لا يدرك الا من خلال استعمالاته. وكل استعمال يحيل على نسق، وكل نسق يحيل على دلالة مثبتة في سجل الذات وسجل الجسد وسجل الأشياء. إن أي محاولة لفهم هذه الدلالات والامساك؛ بها يمر عبر تحديد مسبق لمجموع النصوص التي يتحرك ضمنها ومعها وضدها.
- الهوامش
1- تجليات الجسد، تجليات الإنسان: افتتاحية مجلة إبداع، العدد التاسع دسبتمبر 1997، ص 4
2) Merleau-Ponty ( Maurice): Phenoménologie de la perception Ed Gallimard1945 p 173
3) Greimas, Du Sens , p. 57
4) Greimas, Du Sens, p. 58
5) ,op cit,p. 52 Greimas
6) ,op cit ,p. 59 Greimas
7) يعرف بودريار الوظيفية بقوله : > إن الوظيفية لا تعود إلى ما هو مرتبط بهدف، بل تعود إلى ما هو مرتبط بنظام أو بنسق. إن الوظيفية هي القدرة على الانضواء ضمن مجموع < أنظر:Baudrillard ( Jean ) : Le Système des objets ,ed. Gallimard ,Paris,1968 ,p. 89
8) ,op cit ,p. 59 Greimas
9)ابن منظور، لسان العرب، مواد: نهد وثدي وجسد وجسم وبدن
10)انظر التيفاشي : نزهة الألباب في لم يذكر في كتاب ، دار نجيب الريس 1992
11) أنظر : Brémond( C): Pour un gestuaire des bandes dessinées, in Langages 10, Paris, 1968
12) إن الفيم ( phème) هو السمة المميزة على مستوى التعبير. وقد اقترحه برنار بوتيي ليعين به الوحدات التي نستعملها كأداة تمييزية للوحدات الصوتية.
13) إن المعنم ( sème) هو أصغر وحدة دالةو وهو سمة مميزة على مستوى المضمون .مثال ذلك :رجل = انسان + عاقل +مذكر… فكل وحدة من هذه الوحدات تشكل معنما.
14) Brémond,op. cit .,p.96
15)Baudrillard , op , cit. p . 66
16) Pulcinelli Orlandi Eni : silence,Sujet, Histoire, in L’esprit de société, vers une anthropologie sociale du sens, ed. Mardaga, Bruxelles,1993 ,p. 228.
17) يقول بولسينيلي ( Pulcinelli) في المرجع السابق عن الصمت :>إن الصمت هو سيرورة اختلافية ضرورية لاشتغال اللغة وعنصر مساهم في التداول العام للمعنى <ص228
18)>إن السابق، الحالة السابقة لا تعتبر “عدما”، إنها تشكل المزيد من الصمت< Henry, P : Sens, Sujet et Origine; أنظر بولسينيلي Pulcinelli المرجع السابق ص 229
19) يرى بولسينيلي Pulcinelli أن الصمت ضروري لإنجاز أي فعل لغوي > فالذات ، لكي تتكلم ، في حاجة دائما إلى احتمالية الصمت الذي تعيد تشكيله من خلال كلامها < نفسه ص 229
20) يقول بولسينيلي Pulcinelli> إذا كان الضجيج باعتباره مادة فيزيقية، لا يشكل عند اللساني موضوعا للدراسة، فإن الصمت الفيزيقي وحده لا يهمنا<ص 228
21) روجيه دادون : الرغبة والجسد، ترجمة محمد أسليم مجلة “علامات” العدد الرابع 1995 ص 71 ( التشديد من عندنا )
22) Greimas.A., J. Fontanille, Jacques : Sémiotique des passions, des états de choses aux états d’ame, Ed, seuil, Paris, 1991 , p. 24.
شكرا للدكتور سعيد بنكراد المقاربة سيميائيا للجسد الانساني في علاقته بالنص اللغوي ، والنسق الثقافي ن والفضاء الكونين و البعد الاستعاري والاشاري .. لكن هل عملية التدليل أو السميأة somiotisation ان صح الاصطلاح تبقى نسبية مرهونة بثقافة ما أو كونية مطلقة ؟