السيميائيات
لنذكر بالظرف الذي ساد حوالي 1970، حيث اعتبرت السيميائيات إما رديفا للسيميولوجيا وإما اختصاصا لواجهة أخرى. ولم تكن المقدمات التمهيدية التي بلورها كتاب الدلالة البنيوية لغريماس (الذي لم يكن يستعمل المصطلح) وأعمال يلمسلف (الذي كان يستعمل المصطلح) قد تم تداولها بعد، مثلما كان من غير الممكن تداولها في سياق سيرورة التطور المستقبلي[i].
من ثم أمكن، بناء على المقاييس الاختلافية المعتمدة سابقا، إعداد تعريف متميز. ذلك أن المرجعيات/الخلفيات الإبستمولوجية أساسا ليست هي ذاتها في جميع الأزمنة، فضلا عن ذلك إنها تمتد إلى اللسانيات وتتعداها لتطال غيرها، كالمنطق الأنجلوسكسوني واللغات الصورية (الشكلية).
وفيما يرجع للسانيات، فإن الاهتمام الكبير يعود إلى يلمسلف لا إلى سوسير الذي لم يتخل عن أعماله ولكن تمت إعادة أنسقتها وصوغ جوهرها.
فضلا عن ذلك، هناك مرجعيات أخرى نعثر عليها، إن بجهد جهيد، في مجال السيميولوجيا: شومسكي بالنسبة للإشكالية التوليدية وتسنيير Tesnière بالنسبة للعوامل.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن هناك لائحة أخرى من الاختلافات تتعلق بالموضوعات. إذ أقصيت الوحدة الأصلية التي هي الدليل لفائدة وحدات صغرى فيما هي متغيرة (وحدة معنوية صغرى/مقوم sème) أو وحدات أكثر تعقيدا (الدلالة بالنسبة للخطاب). ومن جهة أخرى، فقد أقصي الدليل لفائدة تعميم خصب. حيث سعى يلمسلف إلى استبدال التقسيم الثنائي (للدليل) بتقسيم رباعي (يتجاوز الدليل)، ينقسم بموجبه التعبير والمحتوى ذاتهما إلى شكل وجوهر[2].
ولعل الدافع إلى مثل هذا التبنين الجديد Restructuration، في واقع الأمر، هو إبراز هذه الاختلافات: إن السيميائيات تشتغل أساسا على شكل المحتوى كما تدل على ذلك، فضلا عما سبق، صفتها الأولى: “الدلالة البنيوية”[3].
ينضاف إلى هذا الفرق، فرق آخر حاسم أيضا فيما هو يهم إجراءات التحليل. فحسب بارث إن شكل التعبير قابل للوصف لسانيا. وحسب السيميائيات إن شكل المحتوى يستدعي أدوات خارج لسانية ذات قدرة عالية على التجريب. وأخيرا، يعتبر التركيز على الممثلين وعلى بعض المباحث تأكيدا إضافيا لهذه الاختلافات.
وإذا كان يكفي أن نذكر بأن بارث شكل لزمن معين رائدا لسيميولوجيا معينة، انتشرت وراجت فيما بعد، فإن غريماس يمتلك كل الرهانات لأن يكون في المستقبل المتخصص الوحيد في سيميائيات دقيقة ومتماسكة[4]، علما أنه كون مدرسة ويمتلك، بالأحرى من ذلك، مراجعها الأساسية.
لقد أصبح هذا التمييز واردا. ومن ثم، فإن ما ينبغي القيام به، هو إبراز مسألة التعريف من الداخل. وهي مسألة مرتبطة بوضوح بعلم المصطلح وكذا بالصقل التدريجي للاختصاص.
والواقع أن المصطلح المعتمد غير كاف، لا سيما إذا علمنا أنه يخلط بين الموضوع وتحليله. ولعل ذلك ما أبرزه يلمسلف الذي اقترح السيميائيات الموضوع والسيميائيات الواصفة. بينما أكد غريماس وكورتيس من بعد أن “الكون الطبيعي” هو أساسا مجموع دال، وأنه توجد أيضا “سيميائيات طبيعية” لها لغتها الواصفة[5].
وبالرغم من أن هم التراتبية والملاءمة المصطلحية يشكل جوهر السيميائيات، فإن هذا الاقتراح أضرم نار السجال زمنا طويلا. ذلك أن أغلب العناوين تهتم، في واقع الأمر بالتحليل أو النظرية، ويتم تخصيصها، في غالب الأحيان، بتوكيد نعتي: السيميائيات الأدبية-السيميائيات السردية.
بخلاف ذلك، لم تستعمل قط السيميائيات العامة وكأن الأمر يتعلق بحشو ينبغي تلافيه. غير أنه يتم تحت هذا المصطلح الاستبدالي (بالرغم من فرضياته) تجميع المبادئ والرهانات والمفاهيم الإجرائية الخاضعة لضرورات تكوينية: التعميم – التجريد – الصورنة – التصويغ.
وبديهي أن يكون، في هذا المستوى، دور الاختصاص وقدرته على التفسير لا متناهيان. ولعل سبب ذلك بسيط: إذ تم إقصاء كل الفروق الجوهرية أو “المتمظهرة” للموضوعات القابلة للمعالجة –أو تم التقليل منها كما سيقول بذلك الخصوم- لصالح الإجراءات “العميقة” التي تنجزها. ومن تم، نجد أنفسنا بعيدين عن سيميائيات صرفة وعن التحليل الأدبي- أو بعيدين على أقل تقدير عن سيميائيات تسلم بخصوصية موضوعها. غير أن التجربة أكسبت المسألة بعدا آخر.
والواقع أن هذا التطور الإبستمولوجي المتأني تم بفضل أبحاث تطبيقية، يشكل الأدب جزءا منها. وبعبارة أخرى، لقد نشأت سيميائيات سردية في وقت قصير ووفرت جهازا أداتيا مناسبا (العوامل، ثالوث التجارب التعاقدية)، أصبح واضحا مع بروب، وهو قابل للنقل والتأطير من قبل النظرية العامة.
والحال أن المتعمق بدقة في هذا السيميائيات يجدها غير متخصصة مثلها في ذلك مثل وصفها/نعتها، إن لم تكن الممارسة توهمنا بذلك لا غير. كما أنه لما كان بإمكان أية قصة، مهما تكن ماهيتها[6] (كتابية، تشكيلية، فيلمية) الخضوع لها بنجاح، فقد بات من الواضح أن السيميائيات السردية غير أدبية. الأمر الذي لا يجعلنا لا نجادل في قدرتها في مجال النقد. غير أنه يتم، بموجب ذلك، تمييزها مسبقا عن السيميولوجيا وعن الشعرية الأكثر تسلحا والأكثر اهتماما بالخصوصية الجوهرية وبالأدبية.
من ثم ينبغي من لعبة التعريفات هاته أن تأخذ بعين الاعتبار التوجهات المتأخرة جدا. كما يتعلق الأمر بالدرجة الأولى، فيما يخص السيميائيات الخارج أدبية (المرئية والفضائية)، بمعرفة ما إذا كان الأمر يتعلق بسيميائية صرفة وإذا لم يكن هناك انفتاح باتجاه السيميولوجيا.
والواقع، إن مصطلح السيميائيات “الصورية” ذاته الذي ظهر حديثا وغير القابل للإدراك نسبيا، يستحق الذكر بالرغم من كل شيء. وإذا التزمنا بالنص المبرمج حول الموضوع، فإن الإجابة لن تكون واضحة. حيث إن مهمة هذه السيميائيات تكمن فعلا في الابتعاد عن جوهر التعبير والاشتغال على الشكل، ولكن على شكل التعبير فيما يبدو[7].
وبديهي أنه ليس من باب الصدفة أن يستدعي هذا الاختصاص الحديث العهد سيميولوجيا بارث وبعض المفاهيم المؤسسة لها (الدليلة، الإيحاء، المركب). ومن ثم، ستتعرض السيميائيات لنوع من الإهمال، إن لم تكن قد اصطدمت على أقل تقدير، بأسئلة شائكة، من قبيل الآتي:
ـ أفلا يخشى أن تصبح –السيميائيات- سيميولوجيا من الدرجة الثانية[8]؟
ومن جهة أخرى، لم تسعف التطورات المهمة التي عرفتها –السيميائيات- من الانفلات لمخاطر أخرى. ولعل السبب في ذلك أن هامش اشتغالها كان ضيقا عموما: فهي من حيث تعدد اهتماماتها، كادت أن تتهم بنزعة توسعية، ومن حيث استعدادها للتعبير عن تصورها لأي موضوع[9] ومحاولة امتلاكه واستدراجه إلى حقل اشتغالها وتذويبها له ضمن خطاب خارجي، تحفز عن وعي على مؤاخذتها وانتقادها.
ورغم تقاطعها مع تصورات بارث وجنيت واستحضارها لهما وإعادة بناء نسقيهما، لم تتمكن السيميائيات من إضافة أي جديد. وبمقابل ذلك، فهي حين تصنفهما باعتبارهما “سيميائيان”[10]، فإنها من خلال هذا الوصف والتحديد تلمح إلى أن النزعة الإمبريالية غير بعيدة.
وبالرغم مما ذكر، تظل المخاطر المشار إليها أعلاه، حتمية. فهي ثمن النجاح والانتشار وسر نجاح هذا العمل المتقدم باستمرار.
- المرجع:
Gerard Dennis FARCY, Lexique de la critique, édition PUF, 1991, p80-91.
[i] – لقد لخص كوكي تاريخ البدايات في كتابه السيميائيات: مدرسة باريس، 1982.
[2] – حسب تعابير بارث في كتابه: مبادئ السيميولوجيا، م. تواصلات، عدد 4، ص105.
[3] – انظر، لاروس، 1966.
[4] – لعل ذلك هو السر الذي جعل من غريماس مؤخرا “.. أكبر متخصص فرنسي.. في مجال السيميولوجيا”. وهو أمر مثير فعلا. وذلك أقل ما يمكن قوله. انظر القول ضمن:
– L.J.CALVET, Roland Barthes, éd. Flammarion, 1990, p120.
[5] – انظر بالنسبة لهذه التميزات:
– A.J. GREIMAS et J.Courtes, Sémiotique, Dictionnaire…, T.1, p339.
[6] – المحكي حسب مصطلحيه.
[7] – انظر:
– J.M. FLOCH, (Les langages planaires), in Sémiotique école de Paris, p199-206.
[8] – ذلك ما يسعى للقيام به فلوش حينما يعالج “البعد المرئي لمحكي أدبي”، م.م. ص201.
[9] – إن إبعاد الموضوع، لا يمنعه من أن يكون مصنفا أو خاضعا لمبدأ التراتبية، في المسار السردي على سبيل المثال.
[10] – J.A.Greimas et J.Courtes, Sémiotique, Dictionnaire…, T.1, p99-115.