الهرمنيوطيقاسيميائيات

الصورة بين التقرير والإيحاء

إن التمثيل البصري يحتكم لقواعد ضمنية تمكن الناظر”من اقتلاع العالم من امتداده اللامتناهي (المرجع الخارجي) قصد إدراجه ضمن حالات تمثل تعيد صياغته ضمن بنية جديدة تتحقق من خلال صور تعيش في الذهن، لا فيما هو ممثل بشكل مباشر في الصورة”.

إذ يشكل الإدراك الحسي العتبة الأولى نحو حالات التمثل التي تستدعي التخلص من المتحقق لاستيعاب ممكنات التدليل داخل الصورة.


فما تراه العين يشكل ممرا ضروريا نحو المجرد في الوعي. فالمدرك المباشر ليس سوى ممر عابر نحو القابل للتمثلات من خلال واجهات متعددة. وهذا الانتقال لا يتم بشكل اعتباطي بل لابد أن يمر عبر مدلولات توسطية ثقافية ورمزية تربط بين المجرد والمحسوس. فهذا الرابط بين الحاضر في الصورة وبين مضمون التداعيات الممكنة، هو رابط يشتغل وفق صيرورات متعددة، منها ما ينتمي إلى التجربة المشتركة،

ومنها صيرورة الإحالات الرمزية، “إنه التمييز بين ما ينتمي إلى التجربة المشتركة في التمثيل والإدراك، وما ينزاح عنها باعتباره مضافا ثقافيا لا يمكن تحديد مداه إلا من خلال ضبط دقيق للسياقات، والسياقات ذاتها ليست سوى ذاكرة لا مرئية للصورة، وما يتحكم في هذه الذاكرة هو الموسوعة ،أي مجموع السجلات الثقافية التي تعلمت منها العين كيف  تنظر وتحملق وتحدق وتحدج…

وكل تنشيط لهذه الذاكرة يقود إلى إسقاط المضمر والضمني والموحى به عبر التناظر أو الإيحاء أو التداعيات الحرة، أو عبر التصنيفات الدلالية المسبقة التي يخضع لها تقطيع المدرك البصري. فلا وجود لصورة تدل فقط على ما تقدمه للعين بشكل مباشر”. فما تظهر الصورة يخفي الإيديولوجيا والأحكام المسبقة والتمثلات الثقافية والتصنيفات الدينية….

بعبارة أخرى، يستند بناء إرسالية الصورة إلى ازدواجية في التدليل. فالصورة تتأرجح بين مظهر مادي، وبين الكون القيمي الذي تختزنه. فوجهها المادي يشكل المعنى المباشر المشترك: المعنى التقريري، وهو يوجد خارج العين وسابق على وجودها ..

أما المعنى الثاني  فيعود إلى  الوضعية الإنسانية التي تتجسد داخلها القيم الإنسانية. وهو ما يشكل المعنى الإيحائي، وهو نتاج لعلاقات جديدة تقيمها العين الناظرة، مصدرها الواقع الثقافي والمعرفة الاجتماعية اللذين  يفسران الاختلاف في النظر إلى الصورة من ثقافة إلى أخرى. فالبنية الثقافية من أعراف وتراث وعادات وتقاليد وأحكام وتصنيفات تؤثر في تلقي الصورة وفهمها.

فبارث يقر أن مختلف أشكال التمثيل البصري يتضمن واجهة تقريرية، وأخرى إيحائية، تشير الأولى إلى الشيء الممثل، والثانية تحيل على الطريقة التي يقرأ من خلالها المجتمع محيطه.

استنادا إلى هذا، فالإدراك صيرورة تتحقق داخل ذاكرة تلعب دور الوسيط بين المتحقق في الصورة وبين مجموعة من الصور التي تسللت إلى الوجدان في غفلة منه. إلا أن إدراك الصورة لا يتم دفعة واحدة، بل هو إدراك يتم بوسائط ويستند في إنتاج دلالاته إلى عجلة التسنين الثقافي والرمزي، إذ يعمد متلقي الصورة إلى تحيين موسوعته متى اقتضى الأمر ذلك.

فانطلاقا من الموضوعي في الصورة، تعمل الذات الناظرة على كشف سياقات جديدة هي أصل التمثيل وغايته لأولى.”فالمعنى ليس معطى سابقا ولا محايثا لما يتم تمثيله في الصورة، إنه وليد ما خلفته الممارسة الإنسانية في محيطها بأشيائه وكائناته ومظاهره”.

فالناظر للصورة  يستحضر كل ما هو ثقافي للتخلص مما هو ظاهر للجميع ويدخل في لعبة البحث عن المعنى المستعصي على المبصر الكسول. ويساعده في ذلك مجموعة من العناصر: دلالة الألوان والأشكال والخطوط والوضعيات والإيماءات وكل استعمالات الجسد. 

وخلاصة القول، تختزن كل صورة في طياتها ثقافة أمة، فكل عنصر من عناصرها يمثل شأنا ثقافيا. فمثلا “الألوان واحدة في الطبيعة، لكن دلالاتها تتنوع حسب الثقافات، والقمر في سماء الناس أجمعين، لكن دلالاته مستمدة من الثقافة لا من وجوده في السماوات العلا، وتلك حال النار والماء والجبال واليمين والشمال، وطقوس الختان والاحتفالات بالمولود و توديع الراحل إلى أبد الآبدين”.

فما يكسب الأشياء والظواهر رمزيتها هو موقعها داخل الكون الثقافي،  وليس وجودها المادي. وقد أكد إيكو على الدور الأساس الذي يلعبه السياق الثقافي في عملية التعرف داخل الحقل البصري. فدلالات الأشياء والألوان والخطوط والكائنات والأشكال وكل ما يؤثث فضاء الصورة، لا تتحدد من خلال ما يتم تمثيله.

بل تتحدد من خلال مضاف العين. فما يمنحها قيمها الدلالية ليس ما يأتيها من الواقع، بل مصدر هذه الدلالات هو المستودع الرمزي المتحقق في الذاكرة والذهن والوجدان. فالعين ترى عبر وسائط الثقافة والمخيال والمعتقدات والطقوس الدينية  ومختلف التمثلات باعتبارها بناءات ثقافية تستقي صورها من واقع مرئي، ولكنها تنزاح من خلال الإضافة والحذف والتعديل.هذا ما يفرز تعدد واختلاف العوالم الرمزية بل قد تتناقض فيما بينها ذلك أن فعل التلقي هو فعل ثقافي قبل أن يكون إبصارا.


  • هوامش وإحالات 

 سعيد بنكراد، الصورة الإشهارية آليات الإقناع و الدلالة، ط:1، 2009، المركز الثقافي العربي، ص:152 .

غي غوتيي، الصورة- المكونات والتأويل، مقدمة المترجم، ترجمة: سعيد بنكراد، ط1، 2012، المركز الثقافي العربي، ص: 19-20. 

سعيد بنكراد، بعض من بارث، مجلة علامات، ع: 44، 2015، ص:19 نقلا عن: L’obvie et l’obtus,p:11

غي غوتيي، الصورة- المكونات والتأويل، مقدمة المترجم، ترجمة: سعيد بنكراد، ط1، 2012، المركز الثقافي العربي، ص:21. 

 سعيد بنكراد، مسالك المعنى- دراسات في الأنساق الثقافية-، سلسلة شرفات،ع: 48، فبراير2015، منشورات الزمن، ص:72 .

Eco, U(1970), Sémiologie des messages visuels, in communications, Seuil,n°:15,p:37.

 موقع سعيد بنكراد، الصورة: بين  وهم الاستنساخ و استيهامات النظرة.

عزيزة بودرايم

طالبة باحثة في سلك الدكتوراه؛ (مختبر اللغة والمجتمع) - جامعة ابن طفيل - المغرب. حاصلة على ماجستير في السيميائيات من جامعة محمد الخامس بالرباط. أستاذة للغة العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى