- 1 تقديم:
جاء الإنسان وجاءت معه الإنسانية بكل حمولاتها وتطوراتها، وبكل علاماتها وسيروراتها، لقد عرف المجتمع الإنساني بفعل التنقيب والبحث المستمر لاستكشاف المجهول، شكل هذا حافزا أساسا وراء القفزة النوعية التي شهدها المجتمع الإنساني وهي الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة.
وقد أضحت هذه الأخيرة مجال نقاش ومحط اهتمام لدى المهتمين والدارسين من شتى الميادين، حيث داع صيتها بين مختلف العلوم؛ منها السيميائيات باعتبارها علما جديدا ظهر في مطلع القرن المنصرم، إنه العلم الذي يدرس العلامة في سيرورتها وتمظهراتها ودلالاتها أيضا، لهذا خصصنا الحديث في ورقتنا هذه عن ماهية السيميائيات وأهميتها، هنا يحق لنا التساؤل عن:
- ماهي السيميائيات؟ وما أهميتها؟
- وهل لها أي دور للإحاطة بكل ما يروج في الكون باعتباره مجالا للتعدد العلاماتي؟
وفي سياق الإجابة عن هذه الأسئلة سيكون مدار حديثنا في مقالنا عن شيئين هما: أولا؛ بين سوسير وبورس، ثم مجالات حضور السيميائيات ثانيا.
- 2- بين سوسير وبورس:
ظلت الأفكار السيميائية التي احتضنتها مجالات معرفية شتى معزولة عن بعضها البعض، إلى أن جاء كل من اللساني السويسري الفرنسي (فيردناند دي سوسير) والفيلسوف السيميائي الأمريكي (شارل ساندرس بورس[2]). حيث بشر الأول بنشوء علم يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، وشكلت اللسانيات منطلقا أساسيا للسيميولوجيا عند سوسير لاسيما في كتابه “دروس في اللسانيات العامة” الذي يعد أهم مرجع للبحث النقدي عامة والسيميائي خاصة.
كما مثلت أفكاره أساس اللسانيات الحديثة والمعاصرة، وتحديدا الثنائيات المعروفة عنده [لسان/كلام، ودال/مدلول، وسانكروني/دياكروني، والمحور المركبي/المحور الإستبدالي]. وللسانيات دور هام في تطور الدراسات السيميائيات وهو ما نجده في قول غريماص “يرجع الفضل إلى سوسير الذي عمل في هذا الاتجاه، وعرف كيف يحول رؤية العالم الخاصة به إلى نظرية للمعرفة ومنهجية للألسنية”[3].
وقد أشار سوسير إلى ذلك في سياق تعريفه للسان حيث قال: “إن اللسان نسق من العلامات المعبرة عن أفكار، وهو بذلك شبيه بأبجدية الصم والبكم وبالطقوس الرمزية وبأشكال الآداب والإشارات العسكرية، إلا أنه يعد أرقى هذه الأنساق. من هنا تأتي إمكانية البحث عن علم يقوم بدراسة هذه العلامات داخل الحياة الاجتماعية […] ويمكن أن نطلق على هذا العلم السيميولوجيا؛ وستكون مهمته هي التعرف على كنه هذه العلامات وعلى القوانين التي تحكمها.
وبما أن هذا العلم لم يوجد بعد، فإننا لا نستطيع التنبؤ لا بجوهره ولا بالشكل الذي سيتخذه. إننا نسجل فقط حقه في الوجود، ولن تكون اللسانيات سوى جزء من هذا العلم العام، وستطبق قوانينه التي سيتم الكشف عنها على اللسانيات”[4].
إن حديث سوسير عن السيميولوجيا ليس إلا عرضا، فبالرغم من موقعها المحدد وكذا حديثه عن اللسان كنسق من القيم والعلامات وأبجدية الصم والبكم وغيرها من الإشارات الدالة على موضوع السيميولوجيا، إلا أن حديثه ارتبط بالزمن المستقبل لا الحاضر. فالسيميولوجيا لم تبني نفسها إبستمولوجيا وإنما اكتفت بالمفاهيم والوحدات والأدوات اللسانية لا غير، لدرجة أن جل الدارسين والمهتمين بهذا الحقل أخذوا كل الثنائيات السوسيرية السالفة الذكر، حيث كانت دراسة حياة العلامة في الحياة الاجتماعية لابد أن تمر من اللسان أولا.
وفي الوقت الذي كان يبشر فيه سوسير بنشوء هذا العلم الجديد، كان هناك سيميائي آخر في الضفة الأخرى من المحيط هو شارل ساندرس بورس، الذي أسس نظريته السيميوطيقية وفق نظرة عامة ترى كل ما في الكون علامات سيميوطيقية وكيانات رمزية. فنظرية بورس متشبعة بالمنطق ذي الدلالات المتعددة، حيث قال إن “المنطق في معناه العام، ليس سوى تسمية أخرى للسيميائيات، تلك النظرية شبه الضرورية والشكلية للعلامات”[5].
وقد شكل تصور بورس للعلامة مدخلا شاملا لمختلف الظواهر كيفما كان نوعها، من هنا يمكن أن نقول إن موضوع السيميائيات حسب هذا الطرح هو “النسق السيميوطيقي بوصفه نسقا علاماتيا ترميزيا يتحقق بواسطته التواصل”[6]. إن موضوع السيميوطيقا هو السيرورة الدلالية، أي السيميوزيس، ويعد ساندرس أول من أدخل هذا المصطلح إلى حقل السيميائيات،
وهذا ظاهر في قوله : “إني في حدود ما أعلم، رائد في العمل الهادف إلى إعداد حقل وفتحه، حقل أسميه ب «سيموطيقا» أي نظرية الطبيعة الجوهرية لكل سيميوزيس ممكن ونظرية تنويعاته الأساسية”[7].
فالتنويع في السياقات المرجعية والأسس الابستمولوجية لإنتاج العلامة يؤدي حتما إلى التنويع في مستويات تشكلها في الخطاب، وبالتالي تحديد السيميوزيس، بمعنى “السيرورة التي يشتغل فيها شيء ما بوصفه علامة”[8] .
إن الإنسان كائن رمزي ومُرَمِّز في الآن نفسه، فحيثما وجد الإنسان يوجد المعنى، ذلك أن الإنسان بحد ذاته علامة، فهو يولد المعنى، وهذا الأخير موجود في كل مكان، لأن كل شيء يأخذ شكل علامة، ويمكن أن نختزل ما قلناه في المعادلة التالية:
الإنسان + المعنى = التواصل
ولأن السيميوزيس سيرورة من التأويلات اللامتناهية، فإن إنتاج العلامة رهين بثلاثية ضرورية هي الماثول والموضوع والمؤول، وفي هذا الأخير يتحقق السيميوزيس، فقد اعتبره سعيد بنكَراد هو “الذي يحدد للعلامة صحتها ويضعها للتداول كواقعة إبلاغية”[9].
- 3- مجالات حضور علم العلامات:
لم تقف السيميائيات عند هذين العَلَمَينِ وإنما تطورت مع ثلة من الدارسين السيميائين فيما بعد، حيث أصبح هذا العلم يدرس كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والفكرية وكل شيء في الكون كيفما كانت طبيعته. وقد تفرعت السميائيات في شتى مجالات وميادين الحياة.
ففي الوقت الذي كنا نتحدث فيه عن نظرية تهتم بدراسة العلامات في سيروراتها الدلالية، قامت نظريات متنوعة تحت لواء هذا العلم الكبير، فهناك من اتخذ من السرد مجالا تخصصه العلاماتي، كالسيميائيات السردية مع ألجيرداس جوليان غريماص الذي يرى أن “السردية ليست وصفا مشخصا لعوالم مكتفية بنفسها، بل تعد شكلا من أشكال تنظيم المعنى وطريقة وضعه للتداول.
وهو ما يشير إلى أن هذا المعنى لا يوجد فيما تحيل عليه الأشياء بداهة، بل مكمنه السيرورة التي تتشكل من خلالها الأشياء باعتبارها دالة على معنى”[10]، وساهم في هذا المسار كل من جوزيف كورتيس وكلود كوكي وغيرهما.
وهناك من وجد في الدلالة ضالته لدراسة الأنساق اللغوية وغير اللغوية كرولان بارت الذي شكل نقطة تحول في الفكر النقدي المعاصر، حيث بدأ بنيويا وانتهى سيميولوجيا، فالدلالة عنده “لا توحد كائنات أحادية الجانب ولا تقرب بين لفظين فقط، لسبب بسيط هو أن كلا من الدال والمدلول طرف وعلاقة في الوقت ذاته. إن هذا اللبس يلقي العبء على التشخيص الخطي للدلالة رغم كونه ضروريا للخطاب الدلائلي”[11].
أما إمبيرتو إيكو فيندرج مشروعه السيميائي ضمن السيميائيات الثقافية، كما اهتم بمفهوم النص وفعل القراءة ومفهوم الموسوعية، والتأويل كذلك، فهذا الأخير عير محدود ولانهائي، هنا يقول إيكو “إن محاولة الوصول إلى دلالة نهائية ومنيعة سيؤدي إلى فتح متاهات وانزلاقات دلالية لا حصر لها”[12].
إن مجال حضور السيميائيات يتحدد في العلامة داتها، فهي لا تكتسي دلالتها وقيمتها إلا داخل اوسط الاجتماعي والثقافي الذي يضفي عليها صفة الوجود والتداول، “فنحن نتحكم في الأشياء غبر العلامات أو بواسطة أشياء نحولها إلى علامات”[13]. وهناك مجموعة من المدارس التي لا يتسع المقام لذكرها كلها مثل: سيميائيات الأهواء، وسيميائيات الكون، وكذا الفضاء، وهلم جرا.
كما لا يفوتني مدى إسهام السيميائيين العرب في هذا المضمار كسعيد بنكَراد، الذي أغنى الساحة العربية بكتاباته المختلفة باختلاف المدارس السالفة الذكر، إلى جانب عبد المجيد النوسي، ورشيد مالك، وغيرهم من الدارسين والمهتمين بهذا المجال.
وخلاصة القول هي: أن العلامة أداة هامة لبناء الفكر والمعرفة وتقدم المجتمع الإنساني نحو الأفضل، ولتحقيق ذلك وجب على الإنسان نفسه الوعي بقيمة كل ما يدور حوله من تطورات وتغيرات، فلا يعقل أن يكون المرء في عصر التكنولوجيا ولا يفقه عنه أي شيء، ولا يمكن للمجتمع أن يمضي نحو الأحسن إذا كان غير قادر على مواكبة تطورات العصر من علوم ونظريات وغيرها.
ويوما بعد يوم وساعة بعد ساعة تظهر مجالات جديدة تكون في حاجة إلى الاستكشاف والبحث عن دلالاتها وما إلى ذلك. لهذا نرى أن السيميائيات هي ذلك الكيان المتجدد على مدار الساعة، فأينما وجدت العلامة إلا ووجد معها الفكر السيميائي، وسيبقى الأمر مستمرا على طول الزمن. وهنا نكون أمام عدة إشكاليات، لعل أهمها:
أي تحد ينتظر اليوم السيميائيات العالمية بشكل عام والعربية بشكل خاص أهو التأخر الذي يعرفه العرب في عجلة التطور، أم الاهتمام القليل بمثل هذه العلوم والتي يعد المهتمين والمتخصصين بها على رؤوس الأصابع؟
قائمة المصادر :
- جان كلود كوكي، السيميائية (مدرسة باريس)، ترجمة رشيد مالك، دار الغرب للنشر والتوزيع، الطبعة 2003، وهران، الجزائر.
- رولان بارت، مبادئ في علم الأدلة، ترجمة وتقديم: محمد البكري، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1987، اللاذقية، سوريا،
- سعيد بنكَراد: السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، منشورات الزمن، الرباط، المغرب، طبعة 2003.
- سعيد بنكَراد، السيميائيات والتأويل مدخل لسيميائيات ش. س. بورس، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء.
- سعيد بنكَراد، السيميائيات السردية، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012، اللاذقية، سوريا.
- مارسيلو داسكال، الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة، ترجمة: جحميد لحميداني ومبارك حنون وآخرون، افريقيا الشرق، طبعة 1987،الدار البيضاء، المغرب.
- أومبرتو إيكو، التأويل بين السيميائية والتفكيكية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثاثة 2004، الدار البيضاء، بيروت.
- أومبرتو إيكو، العلامة، ترجمة: سعيد بنكَراد، المركز الثقافي العربي، الطبعة 2007، الدار البيضاء، بيروت.
- الهومــش
[1] ـ طالب باحث بسلك الماستر المتخصص المناهج اللغوية والأدبية لتدريس اللغة العربية بالمدرسة العليا للأساتذة مكناس، المغرب.
[2] ـ بورس وليس بيرس كما هو شائع، أنظر: سعيد بنكَراد، السيميائيات والتأويل مدخل لسيميائيات ش. س. بورس، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ص: 11.
[3]ـ جان كلود كوكي، السيميائية (مدرسة باريس)، ترجمة رشيد مالك، دار الغرب للنشر والتوزيع، الطبعة 2003، وهران، الجزائر، ص: 3.
[4] ـ F De Saussure: Cours de linguistique générale, éd Payothèque, 1979, p 33. ، نقلا عن: سعيد بنكَراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، طبعة 2003، منشورات الزمن، الرباط، المغرب، ص: 44.
[5] ـ C S Peirce: Ecrits sur le signe, Ed Seuil, 1978, p 120. ، نقلا عن سعيد بنكَراد، السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع مذكور، ص: 58.
[6] ـ مارسيلو داسكال، الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة، ترجمة: جحميد لحميداني ومبارك حنون وآخرون، طبعة 1987، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، ص: 5.
[7] ـ بورس، 1965، مجلد 5، فقرة 488. نقلا عن: مارسيلو داسكال، الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة، مرجع نفسه، ص: 16.
[8] ـ مارسيلو داسكال، مرجع نفسه، ص: 16.
[9] ـ سعيد بنكَراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع سبق ذكره، ص: 67.
[10] ـ سعيد بنكَراد، السيميائيات السردية، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012، اللاذقية، سوريا، ص: 54.
[11] ـ رولان بارت، مبادئ في علم الأدلة، ترجمة وتقديم: محمد البكري، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا، الطبعة الثانية، 1987، ص: 79.
[12] ـ أومبرتو إيكو، التأويل بين السيميائية والتفكيكية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثاثة 2004، الدار البيضاء، بيروت، ص: 33.
[13] ـ أومبرتو إيكو، العلامة، ترجمة: سعيد بنكَراد، المركز الثقافي العربي، الطبعة 2007، الدار البيضاء، بيروت، ص: 206.
شكرا لك، موفق إن شاء الله.
مشكورين على مجهوداتكم،بورك فيكم