“حسن حنفي” أسئلة الرحيل الباقية
“لاهوت الثورة” عبارة قد تكون محيّرة في سياق الكلام عن العقيدة الإسلامية، بل قد يشعر المرء بأنه في سياق حركات التحرر اليسارية في أميركا اللاتينية، أو حتى في حالة من حالات الإحياء الديني التي واجهت القمع الشيوعي في أوروبا الشرقية؛ على أي حال كان هذا شيئا شعرت به وأنا أقلّب بعض ما كتبه الراحل حسن حنفي.
والغريب أنك لا تشعر في كتابات حسن حنفي إلا بحماسته للتجديد، وقدرته على تقديم ما يرى أنه صورة بانورامية للفكر، وبحث عن العقلانية فيه، وبينما يشدد على خصوصية التراث الإسلامي في بعض الأحوال، تجده منهمكا في إعادة تفكيكه، ونقل مصطلحاته إلى أجواء محيرة وغريبة؛ فأصول الفقه والتوحيد والكلام والفلسفة تغدو في شبكة تركيبية مفاهيمية يسارية بحتة.
لا شيء مقدس، ولا شيء ديني، بل يسارية تريد تثوير الدين، كان علي شريعتي قد حاولها من قبل في سياق أكثر سكونا وتسليما من السياق السنّي، ولكن محاولة شريعتي كانت أكثر هدوءا في تفكيكها، واتساقها مع سياقها.
إذ يبدو شريعتي أكثر إدراكا للمساحة المتاحة للحفر والتنقيب التي تمنح التشيع خصوصيته الملازمة له، ولهذا ترك شريعتي أثره حتى في فهم كثير من الشباب للثورية في سياق إسلامي؛ فحديثه عن الطغيان، ومخاطبته الموروث الشعبي، وإعادة التفكيك والبناء المتلازمتان عنده كلها أمور لا تدع مجالا للشك في إيمانه الشخصي، ولا في استيعابه العميق للبنية التي يريد تثويرها.
أما حنفي فقد مضى قدما، وأعاد وضع المصطلحات في سياق جديد؛ كان يسعى لتثوير تلك المصطلحات، وهذا عنى كذلك إعادة تفكيك العلوم المنتجة لها، والسعي وراء الاحتمالات، والتساؤل عن السياق العقلي الاعتزالي، ومحاولة إدخال الجماهير في سياق تلك العلوم، فالثورة ابنة الجماهير الغفيرة، واستنكر في زحام استنكاره ما عدّه وقوفا عند النص، وتجاهلا للإجماع.
فالإجماع ممثل للجماهير -أي الأمة- والبقاء في سياق النص حبس لإرادة الجمهور بين إرادتين: إرادة السلطة أو إرادة الله، وبوصف حنفي فإن هذا عنصر مهم من عناصر الجمود والقصور في العلوم الإسلامية.
والطريف أن حسن حنفي نسي أو تناسى أن الأمة صاحبة الإجماع، ممثلة في علمائها، هي كذلك المنقادة للنص بصورة أو بأخرى، وهي الناقلة له، وهي المخاطبة في النص بالسير في الأرض والبحث والتفكر، والأطرف أن مصطلح الأمة غير حاضر عند حنفي.
الأكثر طرافة أن الحديث عن العقلانية الاعتزالية يتجاهل علاقتها الوثيقة بالسلطة في القرن الثالث إبان المحنة، وفي القرن الرابع لاحقا، بل يتجاهل غدر الاعتزال بقيمة الحرية الفكرية لمصلحة القسر والإجبار حتى بلغ الأمر إعدام من لا يقبل القول بخلق القرآن مثلا،
أو يتورط في قضايا سياسية أملتها المحنة كما حدث لأحمد بن نصر الخزاعي مثلا، بل يغفل حقيقة أن الجماهير هي التي أمدّت أحمد بن حنبل بعنصر الثبات اللازم في موازاة بطش السلطة، وما أبو الهيثم اللص ومساندته لأحمد بن حنبل إلا غيض من فيض.
إن الحاجة إلى التجديد المؤسس على النظرة البانورامية الشاملة، والتأمل الفعلي الجاد، والعودة إلى النص وفهمه، وتجديد هذا الفهم بمنهج علمي واضح ومنضبط ومطّرد، كلها مطالب حقيقية، ولكنها بغير عمل على الأرض يقترب من هذه الجماهير ذاتها، وقضاياها،
ويقدم البديل لها بلغة قريبة منها، وباتساق مع إيمانها العميق الفطري، فإن التجديد يبقى تنظيرا واقفا على حافة الأوراق، ولا ينتقل إلى الشعور العام والإحساس والعقل وساحة الفعل.
مضى حنفي، وترك الساحة للتجديد، وستبقى العبرة في ما يبقى من ذلك كله للأجيال.