فكر وفلسفة

صلة “علم الكلام” بالعلوم الأخرى

لعلم الكلام صلة وثيقة بالعلوم التي نشأت في البيئة الإسلامية وقت ظهوره، أو التي سبقت ظهوره، وعندما نقرأ في كتب الطبقات والتراجم التي صنفت لترجمة حياة المتكلمين وكتبهم، فإننا نجد عبارة تتكرر كثيراً عند التعرض لترجمة المتكلم أنه قد حاز على العلوم الملية والحكمية.


وهذ العبارة تشير إلى ثقافة المتكلم الواسعة بحيث يلم بالعلوم الملية – أي نشأت تبعا للملة الإسلامية – كعلوم القرآن والحديث والتفسير والفقه وأصول اللغة، وأيضا بالعلوم الحكمية وهي العلوم العقلية من منطق وفلسفة.


وهذا يعني ارتباط هذه العلوم بالمباحث الكلامية التي هي موضوع علم الكلام، وأنه لأهمية تلك الصلة بين علم الكلام والعلوم الأخرى كان لابد للمتكلم من أن يحصّل تلك العلوم. ومن ناحية أخرى، إذا كان علم الكلام يقوم على التوفيق بين العقل والنقل فلابد من معرفة المتكلم بالعلوم العقلية والعلوم النقلية.


ولابد من صلة بين هذه العلوم وعلم الكلام. وعلم الكلام هو الأساس الذي تقوم عليه العلوم الشرعية، إذ أنه ما لم يثبت وجود إله خالق قادر عليم أنزل رسله بالتكليف – وهذه موضوعات علم الكلام – لم تكن العلوم الشرعية – من فقه وحديث وتفسير – سارية وقائمة لأنها مبنية على تلك الموضوعات التي يبحثها علم الكلام، فهو أساس تلك العلوم وتستمد منه أصولها وتستعين به في مباحثها وتأخذ منه.


  • الفرق بين علم الكلام والفلسفة

علم الفلسفة موضوعه دراسة المسائل التي ينحصر إثباتها بالأدلة العقلية، لكن علم الكلام موضوعه دراسة المسائل التي لا تثبُت إلا عن طريق النقل، أي القرآن والسنة الصحيحة.


وبالرغم من وجود نقاط مشتركة بين علم الكلام وعلم الفلسفة إلا أن هناك نقاط افتراق بينهما، فهناك مسائل مشتركة بينهما تثبت بالتعقل، كما أن هناك مسائل خاصة بكل منهما، فالخاصة بعلم الفلسفة لا تثبت إلا بالتعقل، والخاصة بعلم الكلام لا تثبت إلا بالنقل والتعبّد.


ومن وجوه الاتحاد بين هذين العلمين المسائل التي تتعلق بمعرفة الله وإثبات الخالق. وبعبارة أخرى فإن علم الكلام أسلوبه التوفيق بين العقل والنقل، أما الفلسفة أسلوبها الاعتماد الكلي على العقل والأدلة العقلية.


ولذلك فإن الفلاسفة يعتمدون على البراهين وحدها، ويؤلّفون البرهان تأليفاً منطقياً، من مقدمة صغرى، وكبرى ونتيجة، ويستعمِلون ألفاظاً واصطلاحات للأشياء: من جوهر وعرض ونحوهما، ويثيرونَ المشاكل العقليّة، ويبنُون عليها بناءً منطقيّاً لا بناءً حسيّاً أو واقعياً.


أما منهج المتكلمين الإسلاميين في البحث فيُغاير ذلك، لأنَّ المُتكلّمين بنوا علم الكلام على الإِيمان بالله ورسوله، وصدَّقوا بالقرآن، فأرادوا أنْ يبرهنوا على ذلك بالأدلّة العقليّة المنطقيّة.


وقد أشار ابن خلدون إلى التمييز بين علم الكلام والفلسفة من ناحية الموضوع والمنهج والغاية، فيقول: «واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته وهو نوع استدلالهم غالباً، والجسم الطبيعي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات.


وهو بعض من هذه الكائنات إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث أنه يدل على الموجد.


وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزول الشكوك والشبه عن تلك العقائد وإذا تأملت حال الفن في حدوثه.


وكيف تدرج كلام الناس فيه صدراً بعد صدر وكلهم يفرض العقائد الصحيحة، ويستنهض الحجج والأدلة عَلِمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن وأنه لا يعدوه».


ولا شك أن هناك خلافاً واضحاً بين علم الكلام والفلسفة اليونانية يستحيل معه الخلط والامتزاج، فعلم الكلام هو من العلوم الإسلامية الأصيلة؛ لأنّه ولد قبل عصر الترجمة؛ أي أنه لم يكن متأثراً في انطلاقته بالثقافة والفلسفة اليونانية.


بل إن التاريخ يؤكّد أنّ هذا العلم قد وقف موقفاً حذراً إلى حد بعيد من التوجّهات الفلسفية التي استقت أسسها ومنطلقاتها وبناها التحتية من الفكر اليوناني بالخصوص، وهو ما سبّب أو كان على الأقل أحد أسباب الخلاف الفلسفي الكلامي في التاريخ الإسلامي سيما القرون الخمسة الأولى.


ومن الجدير بالذكر أن هناك بعض الفلاسفة المسلمين الذي تأثروا بالفلسفة اليونانية وحرصوا على التوفيق بينها وبين العقائد. ويعد نصير الدين الطوسي من أهم من قام بمزج الكلام بالفلسفة وألبس مشاكل علم الكلام ثوب الفلسفة.


وهناك فروق بين علم الكلام والفلسفة أدرجها ابن خلدون في المقدمة، ومن هذه الفروق فروق تتعلق بالموضوع والمنهج والغاية.


  • فمن ناحية الموضوع

فموضوعات علم الكلام تتعلق بالأصول الدينية كالبحث في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله. وفي أحكام الشريعة من بعثة الرسل ونصب الأئمة والتكليف والثواب والعقاب. يتناولها بحسب ما وردت في الشريعة أمراً مقرراً لا مدخل فيه للشك.


محاولاً أن يؤيدها بالأدلة العقلية حتى يكون الإيمان بها أشد وثوقاً وأكثر توكيداً لاجتماع النقل والعقل معاً، فضلاً عن أن الدليل العقلي هو السبيل إلى إثبات هذه الأصول على المخالفين من أصحاب الديانات المخالفة. أما الفلاسفة المسلمين فإن أبحاثهم تدور حول الوجود والمعرفة والقيم.


وما تشمله هذه المباحث الرئيسية من البحث عن الله، والعالم، والإنسان، وتبحث في مبادئ الوجود وعلله، وفي وسائل المعرفة، وطبيعتها، وأدواتها، ومشكلة اليقين، وفي القيم: من الحق، والخير، والجمال، ويتوخى فلاسفة الإسلام أن يكون بحثهم الفلسفي من منظور ديني عقائدي بمعنى أنهم يحرصون أن يكون بحثهم يؤيد الدين ويؤكده.


ومن هنا يقرر ابن خلدون حذف موضوع الطبيعيات والإلهيات من نطاق علم الكلام فيقول: «وأما النظر في مسائل الطبيعيات والإلهيات بالتصحيح والبطلان فليس موضوع علم الكلام، ولا من جنس أنظار المتكلمين، فأعلم ذلك لتميز به بين الفنين (علم الكلام والفلسفة) فإنهما يختلطان عند المتأخرين في الوضع والتأليف، والحق معايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل».


  • أما من ناحية المنهج

فنجد الفلاسفة يغالون في استخدام العقل، فحرروا العقل من كل قيد، وأخذوا بأحكامه، روفضوا ما عداها، ونظروا في النصوص الدينية فإن وجدوها على وفاق معهم قبلوها، وإن وجدوها على خلاف ما انتهوا إليه صرفوها عن ظاهرها، وحملوها على المعنى الذي انتهى إليه بحثهم. وهناك خلاف واضح بين منهج المتكلمين ومنهج الفلاسفة.


وهو في درجة استخدامهم للعقل في مجال القضايا الدينية. ولقد عبر طاش كبرى زاده عن ذلك بقوله: «المتكلم يستند إلى ما جاء به الدين من اعتقادات، ثم يلتمس الحجج العقلية التي تدعمه، أما الفيلسوف فيبحث بعقله، ويرى حقاً ما توصل إليه من دليل، المتكلم يعتقد ثم يستدل، أما الفيلسوف فيستدل ثم يعتقد».


ويقول ابن خلدون: أنه إذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أنه نقدمه على مداركنا ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل، ولو عارضه، بل نعتمد ما أمرنا به اعتقاداً، ونسكت عما لم نفهم من ذلك، نفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه.


على أن هناك فرقاً ثالثاً يتعلق بالمادة: فمادة الفلاسفة – في معظمها – مادة استمدوها من الفلسفة اليونانية التي اعتمدوا عليها اعتماداً كبيراً.


أما مادة المتكلمين، فمصدرهم الأول هو القرآن ثم الحديث النبوي، والنقاش العقلي الذاتي حولهما، ولا يعولون على المصادر الأجنبية والدخيلة إلا قليلاً، وفي مواضع لا تتعارض مع العقيدة، بل تكون وسيلة للدفاع عنها، وهذا يدل دلالة قاطعة على أصالة علم الكلام.


  • الفرق بين المتكلمين والفلاسفة المسلمين

اعتمد المتكلمون علم المنطق أساسا لتفكيرهم فكان منهجهم يقوم على ما يلي:


أقر المتكلمون بصحة قواعد الإيمان، وامنوا بها، ثم اتخذوا أدلتهم العقلية للبرهنة عليها، فهم يعتمدون البحث العقلي بالأسلوب المنطقي لإثبات صحة عقيدتهم.


إن أبحاث المتكلمين محصورة فيما يتعلق بالدفاع عن عقيدتهم، ودحض حجج خصومهم، سواء أكانوا مسلمين يخالفونهم في الفهم، من قدرية ومرجئة وخوارج وغيرهم، أم كانوا غير مسلمين كالنصارى واليهود وغيرهم.


أما منهج الفلاسفة فإنه يتلخص فيما يلي:

إن الفلاسفة يبحثون المسائل بحثا مجردا. ومنهاج بحثهم هو النظر في المسائل، كما يدل عليها البرهان. ونظرتهم بشأن الذات الإلهية نظرة في الوجود المطلق، وما يقتضيه لذاته. وهم يبدأون النظر في المسألة، ثم ينظرون إلى ما يؤدي إليه البرهان، في سيرهم للوصول إلى النتيجة، كائنة ما كانت، فيعتقدون بها.


وهذا يعني أن بحثهم بحث فلسفي محض لا علاقة له بالإسلام. والفلاسفة المسلمون كانوا في كثير من أبحاثهم يسلمون بالأشياء الغيبية التي لا يمكن إقامة البرهان العقلي على صحتها أو بطلانها، كالبعث والنشور والمعاد الجسماني.


وكثيرا ما كانوا يحاولون التوفيق بين بعض قضايا الفلسفة والقضايا الإسلامية، ولكن ليس عندهم تأثر فكري يجعل الإسلام أساسا، كما هي الحال عند المتكلمين. إنما تأثرهم تأثر يشبه إلى حد بعيد تأثر الفلاسفة المسيحيين بالمسيحية، والفلاسفة اليهود باليهودية.


وهو تأثر، بالديانتين، ضعيف. أما الفلاسفة المسلمون فقد كان تأثرهم الحقيقي بالفلسفة اليونانية، ولذلك لم يكتبوا أفكارهم الفلسفية إلا بعد تعمقهم في الفلسفة اليونانية.


لم يكن كل هم الفلاسفة المسلمين الدفاع عن الإسلام لأنهم كانوا يقفون عند تقرير الحقائق ثم يبرهنون عليها، ولا يدخلون في حكاية الأقوال المخالفة والرد عليها، دفاعا عن الإسلام، وإن كانوا قد تأثروا بها بعض التأثر. ولذلك كان البحث العقلي هو الأصل وهو الموضوع، ولا يوجد غيره في بحوثهم.


إن كثيرا من أبحاث الفلاسفة المسلمين أبحاث غير إسلامية، بل هي أبحاث فلسفية، لا علاقة للإسلام بها.


هذا هو الفرق بين منهج المتكلمين المسلمين ومنهج الفلاسفة المسلمين. ومن الظلم والدس على الإسلام أن تسمى الفلسفة، التي اشتغل فيها من أطلقت عليهم تسمية «الفلاسفة المسلمين» أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم.


فلسفة إسلامية، لأنها لا تمت إلى الإسلام بصلة. بل هي تتناقض مع الإسلام تناقضا تاما، من حيث الأساس، أو من حيث التفاصيل الكثيرة. أما من حيث الأساس فإن أولئك الفلاسفة المسلمين قد بحثوا فيما وراء الكون، أي في الوجود المطلق.


بخلاف الإسلام الذي يحصر البحث في صفات الكون وتراكيبه، وفي المحسوسات. وأما من حيث التفاصيل فإن لدى أولئك الفلاسفة المسلمين أبحاثا كثيرة، يعتبرها الإسلام ضلالا كالقول بقِدَم العالم، وأنه أزلي، وأبحاثا تقول إن نعيم الجنة روحاني لا مادي، وأبحاثا تقول: إن الله يجهل الجزئيات، وغير ذلك، مما هو كفر صراح في نظر الإسلام.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى