فكر وفلسفة

الميتافيزيقا العربية والإسلامية

- منصة حكمة -

الكاتب أموس بيتولاتشي
ترجمة هاجر العبيد
تحميل نسخة PDF

حول الميتافيزيقا العربية والإسلامية، حول الكتب الرئيسية، والفارابي، وابن سينا وما بعد ابن سينا؛ نص مترجم ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التحديث أو التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.

كانت الميتافيزيقا من أحد الفروع الفلسفية التي ورثها العالم العربي والإسلامي من اليونانيين، وتحظى بأهمية بالغة حيث يتضح دورها المحوري في التاريخ العام لنقل الفكر اليوناني إلى اللغة العربية. تتزامن بدايات الفلسفة العربية مع تحضير أول ترجمة واسعة لكتاب أرسطو: الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)، ضمن دائرة المترجمين المرتبطين بمؤسس الفلسفة العربية: الكندي. وتنتهي ما تسمى بمرحلة الفلسفة “المبكرة” أو “الكلاسيكية” بأكبر تعليق لابن رشد على كتاب الميتافيزيقا المتاح في الفلسفة الغربية.

ومايزال العصر “الذهبي” التالي للفكر العربي يُعنى بالدرجة الأولى بالميتافيزيقا، حيث تحول من تفسير تعقيدات نص أرسطو المعياري إلى عملية استيعاب نموذج العلوم الميتافيزيقية التي أجملها الفارابي أولاً ثم طبقها ابن سينا.

ويؤكد انطباع المركزية هذا عدد كبير ومتنوع من الأعمال المتعلقة بالميتافيزيقا المكتوبة باللغة العربية وترجمات النصوص اليونانية الأساسية، وأنواع مختلفة من التعليقات على المواد المترجمة، والأعمال الأصلية مع درجات مختلفة من الشمولية والعمق العقائدي، إلخ. والتي توفر كلها دليلاً واضحاً على حيوية الفكرية والطاقة الإنتاجية لهذا المجال الفلسفي.

إن هذا التفكير المكثف في الميتافيزيقيا يؤدي إلى ما يمثل المساهمة العربية المحددة في تاريخ هذا التخصص، وهي الابتكار التدريجي لمعيار جديد من الميتافيزيقا، يتخذ فيه هذا المجال شكل تجميع شامل ومفصل للتراث اليوناني، ويخضع لعملية صقل معرفي – من حيث تعريف النطاق، وتماسك الهيكل، وصرامة الحجج، وما إلى ذلك – ويرقى إلى دور حجر الزاوية في الفلسفة.

هذه العملية أحدثت “بداية ثانية” حقيقية من الميتافيزيقا في تاريخ الفلسفة، ساد نموذجها في نهاية المطاف في الأوساط الفلسفية، على الرغم من الانتقادات العرضية بدافع رغبة عفا عليها الزمن للدفاع عن الإرث اليوناني في شكله غير الملوث. فالأشكال غير الفلسفية من المعرفة – قبل كل اللاهوت الظاهر – كان عليها أيضاً مواجهة التحدي الذي تمثله الميتافيزيقيا.

إن التأثير القوي والطويل الأمد لهذا النموذج الميتافيزيقي في المناطق الثقافية غير العربية وغير الإسلامية، مثل اللاتينية-المسيحية والعبرية اليهودية، يشهد على جاذبيته العقائدية والإبستمولوجية العظيمة.

  1. الكتب الرئيسية، والمقاربات، والقضايا

  2. الترجمة العربية للميتافيزيقا

  3. الكندي ومدرسته

  4. ثابت بن قرة

  5. الفارابي

  6. الأرسيطون البغداديون

  7. ابن سينا

  8. فترة ما بعد ابن سينا

  9. الخلاصة

  • المراجع

  • أدوات أكاديمية

  • مصادر أخرى على الإنترنت

  • مقالات ذات صلة

  1. الكتب الرئيسية، والمقاربات، والقضايا

وتبين الاعتبارات المذكورة أعلاه أن مصير الميتافيزيقيا كفرع من الفلسفة في العالم الناطق بالعربية وفي المجتمعات الإسلامية يتزامن، بشكل عام، مع استقبال ونقل وتحويل كتاب أرسطو الميتافيزيقا.

إن النزعات المناهضة لأرسطو في المرحلة الأولى من الفلسفة العربية، والتي اتسمت باعتماد موقف أفلاطوني قطعي في الميتافيزيقا وما ترتب على ذلك من رفض لتعاليم أرسطو، التي تجلت في آراء أبي بكر محمد ابن زكريا الرازي (توفي 925) ظلت ظاهرة محلية وقصيرة الأجل.

وفي الفلسفة العربية السائدة، كانت الميتافيزيقا تمثل لقرون محور الفرع المقابل. وعمل أرسطو هو العمل اليوناني الوحيد المذكور فيما يتعلق بالميتافيزيقا في تصنيفات العلوم العربية. ولم يترجم أي عمل ميتافيزيقي يوناني آخر أو يُعلق عليه بنفس الطريقة المتواصلة والمسهبة والمتعددة الأشكال، أو يُقتبس بوتيرة كبيرة وعلى نطاق واسع في الأطروحات الأصلية.

ومن الكتب الأخرى الناقلة للفكر الميتافيزيقي اليوناني، الكتاب المعاد صياغته عن الكتاب الأصلي أثولوجيا أرسطو (Theologia Aristotelis)، الذي كان هدفه المنشود جعل عمل أرسطو متوافقاً مع نظرية الخلق (creationism) الإسلامية عن طريق مذهب الفيض (emanation) الأفلاطوني، حيث يشدد الكتاب منذ البداية على أسبقية كتاب الميتافيزيقا كنص أساسي لعلم الميتافيزيقا، ويصور أرسطخيالياً كمؤلف لنسخة معدلة من المادة الأفلاطونية التي يُتم من خلالها كتابة كتابه الميتافيزيقيا.

إذا كان الميتافيزيقيا – فضلاً عن أعمال أرسطو المكتوبة – قد خضعت لكسوف تدريجي في الفلسفة العربية بعد ابن سينا، فذلك لم يكن بسبب تراجع هيبتها، بل بسبب نجاح ابن سينا في دمج نص ومذهب عمل أرسطو في كتابه الموسوعي الجديد للعلوم الفلسفية، الشفاء، حيث يشدد فيه باستمرار على اعتماده على تعليم “المعلم الأول” (أرسطو) وتلاميذه.

من الناحية التخطيطية، تبنى المؤلفون العرب ثلاث طرق رئيسية في التعامل مع نص أرسطو الميتافيزيقي، تتوافق مع ثلاثة أنواع أدبية مختلفة. النهج الأول، الذي يمكن تسميته “التصنيفي” (taxonomical)، موجود في المقالات التصنيفية التي تهدف إلى تحديد محتوى الميتافيزيقيا وتوضيح مكانه بين الكتابات الأرسطية، والإشارة إلى موقف فرع الميتافيزيقيا في نظام المعرفة.

وتمثل النهج “التأويلي” (exegetical) التعليقات التي تهدف إلى شرح محتوى الميتافيزيقيا بدرجات مختلفة من الحرفية والشمولية. إن الميل إلى إعادة الصياغة، في النهاية، ظاهر في الأطروحات الميتافيزيقية التي تعيد صياغة مذهب عمل أرسطو، وتهدف إلى صياغة أصيلة بغض النظر عن مقدار الاعتماد على نموذجها اليوناني.

جميع المؤلفين الرئيسيين الذين أخذوا بعين الاعتبار الميتافيزيقيا تناولوا كتاب أرسطو الميتافيزيقا، بمختلف الدرجات والنسب، من هذه المنظورات المختلفة.

ومن الناحية النظرية، ناقش المترجمون العرب في الميتافيزيقيا ثلاث قضايا نظرية أساسية. أولاً، تفكروا في تكوين الفرع العلمي الذي قدمه أرسطو في عمله، مع التركيز بشكل خاص على الجوانب الأساسية مثل موضوع (أو مسألة ما إذا كانت الميتافيزيقيا تتبع للاهوت الفلسفي، أم الأنطولوجيا، أم كليهما على حد سواء)، والهيكل، والنهج، والموقف في نظام المعرفة.

أخذ هذا النظر في الوضع المعرفي للميتافيزيقا في الاعتبار كتابات أرسطو الموسعة التي تضمنت في الفلسفة النظرية الرياضيات القائمة على إقليدس وبطليموس (لأن أرسطو نفسه لم يكتب أطروحة عن الرياضيات)، واستكمل كتاب الميتافيزيقيا من خلال الأعمال الأفلاطونية الميتافيزيقية المنحولة على أنها أرسطية (ثيولوجيا أرسطو الأفلاطونية وكتاب الأسباب لبرقليس).

أما الشاغل الثاني فهو التحقيق في مذاهب محددة تتعلق بالقضايا المتميزة داخل الميتافيزيقيا. والموضوعات البارزة في الدراسة الوجودية أو الأنطولوجية هي الجوانب المختلفة لنظرية الجوهر، مثل توضيح علاقتها مع الشكل والمادة، ومناقشة وضعي الكون المعرفي والأنطولوجي، وما إلى ذلك. من الأمور ذات الأهمية البالغة في علم الكونيات الجدل حول الخلود في مقابل نشأة العالم، ونمط إنتاج الكون من خلال المبدأ الأول، سواء عن طريق الفيض من جوهره أو الخلق من لا شيء.

أخيراً، في اللاهوت الفلسفي، توفر السمات التي ينسبها أرسطو إلى المحرِّك الإلهي غير المحرَّك والتي تولي اهتماماً خاصاً لوحدته وضرورته وطابعه الفكري، نقاط البداية لتطورات بعيدة المدى. أما الشاغل الثالث هو مناقشة علاقة اللاهوت الفلسفي الواردة في ميتافيزيقيا أرسطو بالإسلام، أي تقييم درجة التوافق بين المفهوم العقلاني للألوهية التي تنقلها الفلسفة اليونانية من جهة، وصورة الله التي ينقلها الوحي النبوي الإسلامي من جهة أخرى.

إن افتراض وحدانية الحقيقة، الشائع بين الفلاسفة العرب، يسمح لجزء الفلسفة الميتافيزيقي بتقديم تعليل عقلاني ومتماسك للملكوت الإلهي نفسه الذي يكشف عنه الوحي، مما يضعه في منافسة مع اللاهوت الإسلامي.

إن نتائج هذه المشاغل العقائدية الثلاثة مترابطة، لأن رؤية معينة للميتافيزيقا كعلم، وموقفاً معيناً بشأن نقاط عقائدية محددة، يمكن أن يعزز أو يقلل من تقارب الميتافيزيقا مع الدين الإسلامي وإمكانية اندماجه في الثقافة الإسلامية.

إن مفهوم الميتافيزيقيا الذي يحصر من نطاق هذا العلم في اللاهوت الفلسفي ويقلل من أهمية مذهب الوجود العام يُعد مناسباً بشكل خاص للتأكيد على توافقها مع الإسلام. وعلى النقيض من ذلك، فإن وجهة نظر الميتافيزيقا التي يلعب فيها البعد الأنطولوجي، بالإضافة إلى البعد اللاهوتي، دوراً بارزاً، والذي تكون فيه خصائص المبدأ الأول متعارضة، بدلاً من كونها متطابقة، تذهب في الاتجاه المعاكس لاتجاه الصفات الإلهية الإسلامية.

تُعتبر النهج النصية المختلفة والحلول النظرية للمشاكل المذكورة آنفاً هنا مبادئ توجيهية لتاريخ الاستقبال العربي للميتافيزيقا. وعلى هذا الأساس، يمكن تمييز سبع فترات زمنية رئيسية. وتتوج المراحل الخمس الأولى في السادسة، أي ابن سينا، الذي يظهر في المرحلة الحالية من البحث، كنقطة تحول في تاريخ الميتافيزيقا العربية.

  1. 2. الترجمة العربية للميتافيزيقا

استمر نشاط الترجمة فيما يتعلق بالميتافيزيقا دون انقطاع لمدة ثلاثة قرون (من القرن التاسع إلى الحادي عشر)، مع إنتاج عدة نسخ عربية من نص أرسطو، اعتمد بعضها على الوسطاء السريانيين، وإشراك عدد من المترجمين المختلفين الذين ينتمون إلى المدارس الرئيسية للفلسفة العربية.

تُظهر هذه الترجمات درجات مختلفة من الشمولية (من نسخ متكاملة لأعمال أرسطو إلى ترجمة كتب فردية) والحرفية (من ترجمات حرفية صارمة إلى أنماط أقرب إلى إعادة الصياغة). وبشكل تراكمي، فإن التراجم العربية للميتافيزيقيا تدل على نية جعل النص الكامل لعمل أرسطو متاحاً للقراء العرب، بحيث يمتد نشاط الترجمة من الكتب الرئيسية إلى تلك الهامشية، مثل ألفا ميزون (I) و نو (14).

ومن الواضح للعيان بنفس القدر الجهد المبذول في توفير نسخة عربية قريبة إلى حد كبير من أصلها اليوناني تلبي حاجة الوضوح الفلسفي، والتركيز بشكل خاص على كتاب لامبدا (Lambda) المترجم مراراً (12).

ومن الملحوظ أيضاً في نشاط الترجمة تضمين التعليقات اليونانية الرئيسية المتاحة على الميتافيزيقا، أي تلك التي كتبها ألكسندر أفروديسياس وثيميستيوس (الأقل تأكيداً قضية تعليق سوريانس)، الذي تُرجمت تفسيراته لكتاب لامبدا (وفي قضية سوريوس، بيتا (3) بالإضافة إلى كتب أرسطو الموافقة لها.

وبما أن الأعمال اليونانية الأخرى المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بميتافيزيقيا أرسطو تُرجمت إلى العربية مثل كتاب مبادئ الكون لثيوفراستوس، والقسم الميتافيزيقي في كتاب فلسفة أرسطو لنقولا الدمشقي، ومبادئ الكون لألكسندر أفروديسياس، وخلود العالم عند أرسطو للبيروني والكتابات الكونية الأخرى لفيلوبونوس – كامل التقليد اليوناني التأويلي في الميتافيزيقيا، من تلاميذ أرسطو الأوائل (ثيوفراستوس) لآخر المترجمين/الإصلاحيين (فيلوبونوس)، كلها كانت متاحة للعلماء الناطقين باللغة العربية.

وبسبب أمدها الطويل، فإن العلماء الأفذاذ الذين تناولوها، واتساع نطاقها في مجال حركة الترجمة الشاملة من اليونانية إلى العربية لا يمكن اختزالها في مجرد مرحلة أولية من الاستقبال العربي للميتافيزيقيا، بل تقدم نموذجاً للاتجاهات الرئيسية التي اتسمت بها القرون الأولى من تاريخها.

  1. 3. الكندي ومدرسته

كان الكندي (توفي عام 870) يتبنى نهجاً تصنيفياً بدائياً في كتابات أرسطو، معتمداً على عدد من المصادر اليونانية المجهولة٬ ترجع لأصول أفلاطونية (رسالة في كمية كتب أرسطو وما يُحتاج إليه في تحصيل الفلسفة).

ويعبر في رسالته هذه عن وجهة نظر متناقضة لمكان كتاب الميتافيزيقا بين الكتابات، من خلال تقديم عمل أرسطو باعتباره تتويجاً لأربعة فصول مقسمة من الفلسفة في الرياضيات والمنطق والفيزياء والميتافيزيقيا، وكذلك باعتباره تمهيدًا لمعرفة الأخلاق. ويقتصر وصف محتوى الميتافيزيقا على هذا الجزء من العمل الذي يتناول اللاهوت الفلسفي (دراسة الأشياء غير المادية)، ويحتوي على إشارات صريحة إلى المبادئ الإسلامية مثل وحدانية الله، والأسماء الإلهية، والعناية الإلهية.

وبسبب فقدان ما كان يمكن أن يكون تعليقاً محدداً على الميتافيزيقا (الموثق تحت عنوان: الفلسفة الداخلة)، يمكن تخمين نزعات الكندي التأويلية فقط. وتشير أعماله الموجودة في الميتافيزيقيا إلى اعتماده إعادة الصياغة كطريقة تفسيرية، وإيلاءه اهتماماً خاصاً لكتاب ألفا إلاتون (Alpha Elatton) لابن رشد ويحيى بن عدي (كتاب الميتافيزيقا الأول في التقليد العربي)، الذي حُضر كتمهيد للموضوعات اللاهوتية في كتاب لامبدا.

تتناول رسالة الكندي الميتافيزيقية الرئيسية (كتاب في الفلسفة الأولى، الذي بقي جزء منه فقط) مخاوف توحيدية (الإصرار على موضوع وحدة الله، مع اللجوء إلى نموذج العلاقة بين الله والعالم الذي يذكر بالميتافيزيقيا الأفلاطونية لثيولوجيا أرسطو وكتاب الأسباب)، ويعتمد مذهب خلق الكون في الوقت (المستمد من فيلوبونوس).

إن الإشارات الصريحة الممجدة لأرسطو التي ترد في البداية (مع المقتطفات المعاد صياغتها لميتافيزيقا ألفا إلاتون) والتحول المفاجئ إلى موضوعات كتاب لامبدا (وإن عولجت بمزاج غير أرسطي) يؤكد أن النهج اللاهوتي أحادي الجانب تجاه الميتافيزيقا يستهدف إظهار التوافق بين الميتافيزيقا اليونانية والدين الإسلامي.

وهكذا، فإن الكندي غالباً ما يصور الفلسفة بشكل عام، والميتافيزيقا على وجه الخصوص، باعتباره فرع المعرفة المنتدب لإعطاء التعبير الكامل والتفسير العقلاني لمعجزة الرسالة النبوية (إلى جانب القسم الرئيسي من رسالة في كمية كتب أرسطو، انظر أيضاً رسالة في الإبانة عن سجود الجرم الأقصى وطاعته لله).

إن وجهة نظر الميتافيزيقيا كعلم أساسي للكينونة الإلهية، عوضاً عن كونها عامة، والقصد من التأكيد على تقاربها عند استيعابها مع اللاهوتية الفلسفية إلى الإسلام، كانت أيضاً سمة في تلاميذ الكندي المباشرين و”مدرسة” المؤلفين الملهمة من تعليمه أو المعتمدة على مصادره ذاتها.

وهذا واضح في تصنيفات العلوم (قصيدة ابن لوقا٬ توفي 912؛ ابن فريغون، القرن العاشر، رسائل إخوان الصفا، المكتوبة بين عامي 961-986؛ مسكويه، توفي عام 1030)، وفي رسائل مستقلة ذات صلة (انظر أبو سليمان المنطقي السجستاني، توفي حوالي 985، ومدرسته؛ أبو الحسن محمد بن يوسف العمري، توفي 992).

  1. 4. ثابت بن قرة

وفقاً للمصادر التاريخية، ربما قام ثابت بن قرة (توفي عام 901) بمراجعة ترجمة نص “ثامسطيوس” المعاد صياغته عن ميتافيزيقية لامبدا إلى اللغة العربية. والأهم من ذلك أن هذا المؤلف كتب أول تعليق عربي معروف على الميتافيزيقا متبوعاً بصقل ابن تيمية له (توفي عام 1328) بعد أربعة قرون، وفقاً لطريقة العرض الموجز (التلخيص)، أي عزل النقاط الأكثر صلة للنص المعقب عليه.

يتقاسم هذا التعليق مع كتابات الكندي إيلاء اهتمام خاص لمكان اللاهوتية الفلسفية ضمن الميتافيزيقا، لأنه يركز على كتاب لامبدا في ميتافيزيقيا أرسطو. أيضاً تتضمن المدرسة الكندية بذل جهود ترمي للتوفيق بين ذلك والتوحيد الإسلامي من خلال الإصرار على وحدانية وفعل الله صاحب المشيئة، واعتماد موضوع فرفوريوس الصوري الذي يخص الانسجام بين أرسطو وتعليم أفلاطون.

وعلى النقيض من ذلك، يمثل أحد التباينات مع الكندي تأييد ثابت لمذهب خلود العالم، عوضاً عن نشوئه في الوقت، بالتضاد مع رأي فيلوبونوس، واعتماده الطفيف على الكتابات الأفلاطونية. خلفية التعليق أرسطية بالتأكيد، مع بعض التأثير المحتمل لمعلقي المدرسة المشائية (وأبرزهم ثامسطيوس، الذي لم يُذكر قط). ومع ذلك، ينقح ثابت بعض المبادئ الحاسمة لاهوت أرسطو الفلسفي، من خلال فهم – على سبيل المثال – المحرك الأول كسبب أول ليس فقط لحركة الكون، ولكن أيضاً لوجوده.

  1. 5. الفارابي

إلى جانب ملاحظاته التقليدية عن أعمال أرسطو ومكانة كتاب الميتافيزيقا بينها (ما ينبغي أن يُقدّم قبل تعلم فلسفة أرسطو؛ فلسفة أرسطو وأجزاء فلسفته)، قدّم الفارابي (توفي عام 950) تعليلات تصنيفية يرتبط فيها كتاب الميتافيزيقيا بنظام العلوم الفلسفية والإسلامية، بدلاً من مجموعة كتابات أرسطو.

وفي مقالته الأكثر أهمية وتأثيراً من هذا النوع، إحصاء العلوم، يصور الميتافيزيقيا كفرع معرفي ذي طريقة دقيقة (إبانة) وهيكل مفصلي، يتضمن علم أنطولوجيا مكتمل (علم دراسة الوجود “being qua being”) يأتي في جوانبها المختلفة من حيث المرتبة، أولاً، جزء يتناول أساس العلوم الأخرى، وثانياً، لاهوت فلسفي يهتم، من بين أمور أخرى، بالقضايا الإسلامية مثل سمات الله، والأسماء الإلهية والأفعال.

وفي كل هذه الأطروحات التفسيرية، فإن مكانة كتاب الميتافيزيقا بين أعمال أرسطو الأخرى، أو الميتافيزيقا كفرع معرفي فيما يتعلق بالتخصصات الفلسفية الأخرى، ليست مستقرة، ولكنها تختلف وفقاً للمنظور الخاص الذي يتبناه الفارابي: في بعض منها تُقدم الميتافيزيقيا باعتبارها تتويجاً لنظام المعرفة بأكمله، على سبيل المثال، كما يرد في كتابه فلسفة أرسطو.

تدقيق النظر في كتاب الميتافيزيقا بأكمله، ووجهة النظر في الميتافيزيقيا كعلم عالمي يمثلان العنصران المحوريان في مقدمة الميتافيزيقا القصيرة التي كتبها الفارابي في أعقاب نموذج المعلومات التمهيدية عن العصور اليونانية القديمة المتأخرة وتعليم أمونيوس بن هرميا ومدرسته الأرسطية في الإسكندرية.

(مقالة … في أغراض الحكيم في كل مقالة من الكتاب الموسوم بالحروف)، تمثل أول تفسير متكامل للميتافيزيقا في اللغة العربية باق إلى يومنا ويكشف عن اعتماد الفارابي على نظرية المعرفة في كتاب البرهان (Posterior Analytics) المترجم حديثا آنذاك. ويُعد استخدام الفارابي لأسلوب التفسير الناجم عن التقليد المشائي مظهراً من مظاهر انتمائه إلى مدرسة أرسطو البغدادية المعاصرة.

تركز النقطة الرئيسية للعمل على أن الميتافيزيقا أكثر شمولية ولا يمكن اختزالها في اللاهوت الفلسفي لكتاب لامبدا. بتعقبه هذا الهدف، يرفض الفارابي أولاً محاولات تفسير عمل أرسطو من خلال الاستعانة بالاتجاهات الأفلاطونية والتوحيدية (في هذا ربما أخذ في الاعتبار تصور الكندي اللاهوتي عن الميتافيزيقيا)، ويدعو إلى تبني نوع تفسيري أقرب إلى تفسير المعلقين اليونانيين (ألكسندر أفروديسياس وثامسطيوس).

ثم يستمد من طبيعة الميتافيزيقا العالمية، التي يُفهم على أن موضوعها علم الوجود، مؤشرات حول نطاقها (أنها تتضمن جزءاً من اللاهوت الفلسفي، وهو مذهب أسباب الوجود الأولى)، وكذلك حول وحدتها كعلم عالمي (لا يمكن أن يكون هناك أكثر من علم عالمي واحد)، وحول اسمها (كونها أكثر عمومية من الفيزياء فهي أيضاً “بعد” الفيزياء) وحول محتواها العام.

وأخيراً، يختتم مقالته بوصف موجز لكل من كتب أرسطو المعروفة له، حيث تُلخص محتويات كتاب لامبدا دون إضافة مسحات دينية. وبهذه الطريقة، يستخلص الفارابي من أعمال أرسطو مخططاً متماسكاً وشاملاً لعلم ميتافيزيقا “مثالي”؛ بحيث يوجه هذا المشروع الأجيال التالية من الميتافيزيقيين العرب، وخاصة ابن سينا، لبناء علم جديد من الميتافيزيقا وفقاً للمعايير الفارابية.

وكان في أعمال الفارابي الرئيسية عن الفلسفة السياسية، اللاهوت الفلسفي هو الجزء الوحيد من الميتافيزيقيا الذي يعمل كتمهيد – جنباً إلى جنب مع العلوم النويتية الإنسانية([2]) (human noetics)، ومصير الإنسان ما بعد الحياة، والنبوءة – لحساب تنظيم الدولة المثالية (مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة).

ومن ناحية أخرى، تتناول أعماله الأخرى الموضوعات الأنطولوجية تحديداً. من بين هذه الكتب، كتاب الحروف الذي لا يُعتبر، مراعاة للدقة تعليقاً على الميتافيزيقا، على الرغم من أن العنوان يطابق أحد الأسماء العربية لعمل أرسطو) يتبع نمطاً مماثلا لكتاب دلتا (22) من الميتافيزيقا؛ ورسالة في الواحد والوحدة ترتبط موضوعياً بكتاب أيوتا (Iota) (24)، تفنيد انتقاد فيلوبونوس لأرسطو هو إعادة تقييم لأطروحة خلود العالم.

وتظهر الإشارات المتناثرة إلى كتاب الميتافيزيقا فيما يتعلق بالموضوعات المتميزة في الكتاب الشهير (الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس)، الذي يتطرق لموضوع فرفوريوس الصوري عن الانسجام بين وجهتي نظر أرسطو وأفلاطون، الذي كان قد تناوله الكندي وثابت بن قرة، ولكن يبدو غريباً عن تصور الفارابي لتاريخ الفلسفة.

ولهذه الأسباب وأسباب أخرى، فإن تأليف الفارابي لهذه الرسالة، على الرغم من أدلة المخطوطة الكتابية، أصبح محل شك بشكل متكرر في الدراسات الأخيرة.

إن الرأي القائل بأن الميتافيزيقيا هي علم الوجود العالمي، وبالتالي تتجاوز حدود اللاهوت الفلسفي من خلال تضمينها كأحد أجزائه، يصلح في حالة كتابات الفارابي للتأكيد على عدم قابلية اختزال الميتافيزيقيا في الدين الإسلامي: على مستوى المحتوى.

تضم الميتافيزيقيا طيفاً موضوعاتيا أوسع من العقيدة الإسلامية؛ على أرضية الأساس المعرفي، لا يتفوق أسلوب الميتافيزيقا التجريبي (والفلسفة بشكل عام) على الطابع البلاغي والشاعري للخطاب النبوي فحسب، بل ويتفوق أيضاً على الأساليب الجدلية للاهوت الإسلامي (الكلام).

وهذا يساعد على تفسير سبب عدم انغماس الفارابي في تفسير القرآن الفلسفي، وسبب عدم تعامله في الأعمال السياسية الموضوعات المتصلة بالدين من وجهة نظر فلسفية بحتة، دون تقديم أي تنازلات للمصطلحات الدينية أو الدوافع اللاهوتية.

  1. 6. الأرسيطون البغداديون

احتل كتاب الميتافيزيقا أهمية لا جدال فيها عند مدرسة الأرسطويين المسيحيين التي ازدهرت في بغداد خلال القرنين العاشر والحادي عشر، وتولت مجموعة من الأرسطيين في الإسكندرية مشروع تقديم تعليق منهجي على أعمال أرسطو.

وقد بدأ العديد من أعضاء هذه المدرسة، بدءاً من مؤسسها، أبو بشر، ومتى بن يونس (توفي عام 940)، مروراً بزعيمها في وقت لاحق، أبو زكريا يحيى بن عدي (توفي عام 974)، وصولاً إلى أحد ممثليها الأخيرين، عيسى بن زرعة (توفي عام 1008) – في المساهمة بشكل بناء في ترجمة كتاب الميتافيزيقا إلى اللغة العربية.

وعلاوة على ذلك، يُعزى الفضل لبعض هؤلاء المؤلفين في ترجمة أجزاء من التعليقات اليونانية الرئيسية على كتاب الميتافيزيقيا (ألكسندر أفروديسياس وثامسطيوس في كتاب لامبدا، كتبها أبو بشر متى)، أو يُقال بأنهم كانوا مطلعين على الترجمة العربية للتعليقات اليونانية الأخرى على عمل أرسطو، وكذلك على الأطروحات التي كتبها بعض تلاميذ أرسطو المباشرين عن الميتافيزيقيا (على سبيل المثال، يحيى بن عدي، قيل أنه كان مطلعاً على التعليق على كتاب بيتا الذي كتبه سوريانس والأطروحة الأصلية عن الميتافيزيقا التي كتبها ثاوفرسطس إريسوس).

وأخيراً، أنتجت المدرسة العديد من التعليقات الحرفية على كتاب الميتافيزيقيا، على خطى أسلوب ألكسندر أفروديسياس التفسيري. وهكذا، فإن مصادر لاحقة تعلمنا أن أبا بشر متى كتب تعليقات على كتب ألفا إلاتون، بيتا (الثالث) وثيتا (الثامن) في الميتافيزيقيا.

كما نُقل عنه في تفسير ابن سينا لكتاب لامبدا (الثاني عشر). وما يزال تعليق يحيى ابن عدي على كتاب ألفا إلاتون موجوداً إلى يومنا. ويشتهر تعليق أبو الفرج بن الطيب (توفي 1043) على الميتافيزيقيا، المحفوظ على شكل أجزاء في الترجمة العبرية، بطوله وطابعه المفصل للغاية، وهو أسلوب تفسيري يمتعض منه ابن سينا بشكل جازم.

سمح أسلوب التفسير الحرفي ليحيى بن عدي بتضمينه اهتمامات دينية في تعليقه على كتاب الميتافيزيقا. ويمكن النظر إلى النظريات “الأفلاطونية” بوجه عام في بعض أطروحاته المكرسة للقضايا الأنطولوجية، مثل تأويل الأشكال الإلهية في إطار مناقشة طريقة وجود الكون، باعتبارها حلولاً أفلاطونية للمشاكل الأرسطية، عوضاً عن كونها علامات انتماء إلى التقاليد الفلسفية غير الأرسطية.

  1. ابن سينا

يمكن الاطلاع على خطوط الميتافيزيقا العريضة مختلفة الأطوال في أطروحات ابن سينا عن تصنيفات العلوم، وكذلك في استعراضات فروع الفلسفة المختلفة التي تتخللها العديد من أعماله الأخرى. هذه الأساليب المعرفية مثبتة في خلاصته (summae)، وهو نوع أدبي يمكن اعتباره مخترعه.

في كل “موسوعات” الفلسفة هذه الموجهة إلى مختلف الجماهير والمتضمنة مختلف الأشكال والمنهجيات والأساليب – تشكل الميتافيزيقيا، جنباً إلى جنب مع المنطق والفلسفة الطبيعية، جزءاً أساسياً ومحورياً من الفلسفة.

في الأعمال المكتوبة باللغة العربية، وبعد معالجة المنطق التمهيدية، يرد تسلسل فروع المعرفة النظرية – على طول الخطوط التقليدية – على النحو الآتي: الفلسفة الطبيعية، والرياضيات، والميتافيزيقا، أو ببساطة الفلسفة الطبيعية والميتافيزيقيا، وكثيراً ما تُحذف الرياضيات.

على النقيض من ذلك، في الفلسفة الفارسية، فلسفة علاء الدولة (Dānišnāmah-yi ʿAlāʼī)، وربما أيضاً في الفلسفة الشرقية غير المحفوظة تماماً (الحكمة المشرقية)، الترتيب معكوس، وكما يقر ابن سينا نفسه، لأصالتها: تشكل الميتافيزيقيا البداية، وليس النهاية، من الفلسفة النظرية. وهذان الترتيبان المعاكسان في الواقع متوافقان ويبرزان الجوانب التكميلية لأولوية الميتافيزيقا ضمن الفلسفة النظرية.

وفي تعليقات ابن سينا الحرفية على مجوعة الكتابات الفلسفية، التي ضاعت معظمها، تمثل الميتافيزيقيا القسم الذي يعلمنا عنه على أفضل وجه ابن سينا نفسه أو تلاميذه (على سبيل المثال الكتاب الباقي والمضبوط، الحاصل والمحصول)، أو من قبل الأجزاء الباقية يومنا هذا (على سبيل المثال، كتاب الإنصاف). وبالحكم من بقايا الكتابات الموجودة، يبدو أن الإيجاز والانتقائية كانتا السمتان الأسلوبيتان والمنهجيتان لتفسير ابن سينا للميتافيزيقا.

تحوز إعادة صياغة ابن سينا الأصلية لكتاب الميتافيزيقيا على التقدير الأمثل في الأقسام الميتافيزيقية من خلاصته عن الفلسفة التي تتناول عمل أرسطو وفقاً لمنظور يجمع بين التصنيف والتفسير والتعديل. وبفضل شكلها كمجموعة من فروع الفلسفة المختلفة، تمنح هذه الأعمال الميتافيزيقا موقعاً محدداً في نظام التخصصات الفلسفية.

وفي الوقت نفسه، تقدم شرحاً لنص أرسطو بإدراجه، وفقاً لصياغة وترتيب معدل، في خطاب ابن سينا الخاص. وأخيراً، فإنها تثري مذهب الميتافيزيقيا بالنظريات المأخوذة من مؤلفين وأعمال أخرى داخل التقاليد الأرسطية، أو من ثمار فكر ابن سينا نفسه.

ويُعد كتاب الشفاء من بين كتب خلاصة ابن سينا الأكثر شمولاً وتأثيراً وباعترافه شخصياً الأكثر اعتماداً على المصادر الأرسطية. ويعرض القسم الميتافيزيقي من الشفاء، علوم الأشياء الإلهية (الإلهيات)، جانبين جذريين من تعديل ابن سينا لكتاب أرسطو الميتافيزيقيا. تشمل تغييرات ابن سينا، أولاً “شكل” عمل أرسطو أو لمحة علمية عنه.

وبالتالي، فهو يعدل أيضاً “محتواه”، أي النزعة والمذهب العقائدي لأطروحات العمل الفردية. تؤثر التغييرات في “الشكل” على أربع مجالات رئيسية: موضوع الميتافيزيقا، وهيكلها، وطريقة عملها، وعلاقتها بالعلوم الأخرى.

من ناحية أخرى، أُعيدت صياغة محتوى كتاب الميتافيزيقيا من خلال ترتيب مختلف لأجزائه، ودمج فكر أرسطو مع التكهنات الميتافيزيقية اللاحقة سواء اليونانية أو العربية، وتضمين بعض المذاهب الأصلية.

في سياق الجانب الأول من المراجعة الشكلية، يبين ابن سينا أن موضوع علم الميتافيزيقا يتوافق بشكل وثيق مع جميع الطرق المختلفة التي بموجبها يصور أرسطو هذا الفرع المعرفي في كتاب الميتافيزيقيا. وهكذا، الميتافيزيقا هي، من جهة، دراسة للأسباب الأولى والله (راجع ميتاف، Α، 1، 981b28-29؛ Α، 2، 982b9-10)، لأن الأسباب الأولى والله هي “هدفها”. ولكنها من ناحية أخرى، دراسة لـ”الموجود” (انظر ميتاف. Γ، 1، 1003a20-26)، لأن “الوجود القائم الموجود” هو موضوعها.

وأخيراً، فإن الميتافيزيقا هي دراسة للأشياء غير المادية الساكنة (راجع ميتاف، Ε، 1، 1026a13-23)، لأن كلا من الأسباب الأولى والله، من جهة، و”الوجود القائم الموجود”، من جهة أخرى، هي حقائق من هذا القبيل.

يتم تحقيق هذا المواءمة بين وجهات نظر أرسطو المختلفة بقصد مطابقة الميتافيزيقا مع المبادئ المعرفية لكتاب البرهان (Posterior Analytics)، التي تطرح الموضوع كعنصر أساسي في كل علم. الجوانب الأخرى لتقويم الميتافيزيقيا العلمي الذي قدمه ابن سينا هي أيضاً نتيجة لتطبيق المتطلبات المعرفية لكتاب البرهان على هذا الفرع المعرفي.

وبهذه الطريقة، يمنح ابن سينا الميتافيزيقا هيكلاً مفصلياً ومتماسكاً، وهو أسلوب راسخ أيما رسوخ، ومكانة بارزة فيما يتعلق بجميع الفروع الفلسفية الأخرى.

وفي إطار الميتافيزيقيا، يقدم ابن سينا بعض المذاهب الأصلية التي تستطيع، بحكم طابعها الأساسي والشامل، ربط وتوحيد الموضوعات ومصادر الإلهيات. أكثرها شهرة هو التمييز بين الجوهر والوجود في الكائنات المخلوقة، التي تمثل حجر الزاوية الحقيقي في علم ابن سينا.

هذا التمييز يكمن وراء العديد من موضوعات ميتافيزيقيا ابن سينا: فهو يبرر، على سبيل المثال، الفرق بين المفاهيم الأساسية “الشيء” (أي “العنصر له جوهر”) و “الموجود” (أي “العنصر له وجود”) في بداية العمل؛ ويؤسس لنظرية المُسلّمات (universals) (العمومية (universality) سمة تنتمي إلى جوهر ليس على هذا النحو، ولكن عندما يكون هذا الأخير موجوداً في العقل البشري، ومستخرجا من الأشياء المثبت فيها)؛ ويؤدي إلى التوصيف الأساسي لله باعتباره الوجود الوحيد الذي ليس له جوهر بخلاف الوجود، أو أن له جوهر مطابق تماماً للوجود.

يتضمن اللاهوت الفلسفي للإلهيات سلسلة من الموضوعات ذات الصلة الدينية (وجود الله، صفاته، تدبيره، عدالته، مصير الإنسان في الآخرة، النبوءة الخ)، التي تُتناول من خلال الأمثلة والمصطلحات والاقتباسات المقدسة ذات المصداقية الإسلامية الواضحة.

يشير هذا، مع الآراء اللاهوتية التي نوقشت في العمل، إلى نية ابن سينا في إظهار أن الأسس العقلانية للدين الإسلامي تتفق مع النظرة الفلسفية للعالم المعبر عنها في الميتافيزيقا. تظهر النية نفسها في المقالات المحددة التي كرسها ابن سينا للتفسير الفلسفي لبعض الآيات القرآنية.

وفي كتابات ابن سينا، تتلاقى جميع الاتجاهات السابقة لتقاليد الميتافيزيقيا العربية وتجد توليفها. هذا واضح بشكل خاص في اللاهوت الفلسفي الذي يختم بثبات تعليله عن الميتافيزيقا في الخلاصة. في هذا القسم، يكرر ابن سينا الصلة بين الميتافيزيقا ( α و 2) و (Λ، 10/06) التي تشبه طريقة الكندي الانتقائية في التعامل مع كتاب الميتافيزيقيا، ويضمّن أيضاً مبادئ الشرح والرسالة (litteram) وعن طريق الأسئلة (عن طريق البحث) التي تشبه طريقة أرسطويي بغداد التفسيرية  ومناقشة سلسلة من المواضيع التي تعكس بنية الفلسفة اللاهوتية لأطروحات الفارابي السياسية.

ثم يُسهب في الجوهر الأرسطي لهذا القسم عن طريق التراكمات التي أُخذت من كتابات الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس عن الميتافيزيقيا (المعلقون الأرسطيون الذين ذكرهم الفارابي وترجم كتاباتهم إلى اللغة العربية أرسطويو بغداد)، ومن الكتابات المنحولة على أنها أرسطية؛ الأعمال الأفلاطونية المحدثة التي كانت عادة تُلحق بكتاب الميتافيزيقا في الفلسفة العربية، أي أيثيولوجيا أرسطو الأفلاطونية وكتاب الأسباب لبرقلس، المنتجان في دائرة الكندي.

ونتيجة لذلك، فإن ميتافيزيقا ابن سينا توفق بين تركيز الكندي على عنصر الميتافيزيقا اللاهوتي وإثبات الفارابي لدور الأنطولوجيا الأساسي؛ من نفس المنطلق، يوفق ابن سينا بين رأي الفارابي في الميتافيزيقا كعلم تشكل اعتماداً على كتاب البرهان ومشروع أرسطويي بغداد المتضمن شرحا متكاملا لنص أرسطو.

وبهذه الطريقة، فإن تطابق الميتافيزيقا مع اللاهوت الإسلامي لا يتحقق بطريقة “كندية”، أي عن طريق الحد من نطاق هذا الفرع المعرفي في جزء من الميتافيزيقيا، ولكن يعتمد، بـ”نزعة فارابية”، على عمل أرسطو بأكمله بمجرد أن يتم التأكيد على هيكله الداخلي بشكل صحيح.

وبالمثل، فإن مهمة مطابقة الميتافيزيقا مع المعايير المنهجية لكتاب البرهان تتحقق في نفس الوقت باعتبارها هدفاً لتوضيح الغموض النصي والمشاكل التفسيرية لكتاب الميتافيزيقا.

وإلى جانب معالجته الشاملة للميتافيزيقا في ملخصه، قام ابن سينا بالتحقيق في مجالات ميتافيزيقية معينة في أطروحات محددة، مثل كتاب المبدأ والمعاد. ويناقش العديد من القضايا المتعلقة بالميتافيزيقا على نطاق واسع في الأعمال التي تتضمن تأملاته حول موضوعات فلسفية رئيسية، مثل (التعليقات)، أو المستمدة من النشاط التعليمي والممارسات الجدلية التي تجري داخل دائرته، مثل (المباحثات).

  1. 8. فترة ما بعد ابن سينا

تتجلى مكانة ابن سينا المحورية في تاريخ الفلسفة الإسلامية بوضوح إذا اعتبرنا أن الأساليب الثلاثة للتعامل مع كتاب أرسطو الميتافيزيقيا (التصنيف والتعليق والتعديل)، وكذلك مدارس الفكر الرئيسية في الفترة التكوينية (الكندية من جهة، والفارابية – البغدادية من جهة أخرى)، انتهت أو بدأت في الذبول مع ظهور ميتافيزيقيا ابن سينا.

على الرغم من استمرار تداول كتاب أرسطو الميتافيزيقيا في اللغة العربية بعد القرن الحادي عشر، إلا أن أعمال ابن سينا الميتافيزيقية حلت محله كنص يُنسخ ويُعلق عليه ويُقيم (إما إيجابا أو سلباً)، إلى أن حلت الابن سينية (Avicennism) محل الأرسطوية (Aristotelianism) من خلال دمجها.

إن استقبال فلسفة ابن سينا في الفكر العربي اللاحق متعدد الوجوه وما يزال يتعين استكشافه بالتفصيل. ومع ذلك، يمكن مبدئياً تحديد ثلاثة مواقف رئيسية تجاه ميتافيزيقيا ابن سينا في فترة الفلسفة العربية التي تلته. نرتبها على التوالي: القبول المتكامل، والتنقيح النقدي، والرفض الجذري لوجهة نظر ابن سينا.

كانت ردة الفعل “المحافظة” على ميتافيزيقيا ابن سينا (وفلسفة ابن سينا بشكل عام) ممثلة بالجهود المبذولة لإعادة وضع هذا الفرع المعرفي إلى ما كان عليه الحال قبل ابن سينا. وقد اتُبع هذا الهدف بطرق شتى.

بعضهم مثل شهاب الدين السهروردي (توفي 1191) وملفقي الكتابات الأفلاطونية المنحولة في القرن الثاني عشر، استقوا فكر فيثاغورس وأفلاطون على أنه فلسفة حقيقية، مما جعله يحل محل تقليد أرسطو الذي ينتمي إليه ابن سينا.

البعض الآخر، مثل ابن رشد (توفي 1198)، الذي تحتوي تعليقاته الثلاثة على الميتافيزيقيا انتقادات متكررة لابن سينا، أعاد توجيه الانتباه إلى الميتافيزيقيات الأرسطية نفسها، بهدف استعادة الأصل من نص أرسطو الأساسي في مواجهة ابتداعات ابن سينا.

أما البعض الآخر، مثل عبد اللطيف البغدادي (توفي 1231)، فقد اعتبر الميتافيزيقا مجرد تجاور لوجهتي نظر الكندي والفارابي حول الميتافيزيقيا، حيث يدشن كتاب أرسطو منهاجاً من الأعمال التي تشمل أيثيولوجيا أرسطو الأفلاطونية وكتاب الأسباب لبرقلس، كما هو الحال في كتابات الكندي، ولكن عنده أيضاً بعد أنطولوجي، كما هو الحال في كتابات الفارابي، بحيث يُختزل توليف ابن سينا في العناصر الأساسية.

بالإضافة إلى هذه المحاولات التي عفا عليها الزمن والتي تبرز في الشرق والغرب في العالم الإسلامي على حد سواء، ويقدمها الفلاسفة بالمعنى الدقيق، كانت هناك أيضاً هجمات شُنت ضد الفلسفة بشكل عام، والميتافيزيقا على وجه الخصوص، من قبل علماء الدين المسلمين، وأشهرهم أبو حامد الغزالي (توفي 1111) في كتابه تهافت الفلاسفة.

ومع ذلك، فإن كل منتقدي ابن سينا، بغض النظر عما إذا كانوا فلاسفة أو لاهوتيين، مدينون أيضاً لفكره؛ لأن ميتافيزيقيا ابن سينا ببساطة تمثل في عيونهم الميتافيزيقيا.

وعلى النقيض من هذه المواقف النقدية، يمثل الحزب المؤيد بشغف لابن سينا شبكة العلماء التي تضم ثلاثة أجيال على الأقل من أعضاء المدرسة والطلاب الذين ربطوا أنفسهم صراحة بتعليم ابن سينا.

وعلاوة على ذلك، كتبوا العديد من الشروح والتعليقات المسهبة على أعمال ميتافيزيقيا ابن سينا، الأكثر شهرة من بينها تعليقات فخر الدين الرازي (توفي 1209) وناصر الدين الطوسي (توفي 1274) في كتابه الإشارات والتنبيهات، وتعليقات صدر الدين الملا الشيرازي (توفي 1640) وتعليقات محمّد مهدي بن أبي ذرّ النراقي (توفي 1794/5) على الإلهيات في كتاب ابن سينا الشفاء.

وعلى نفس المنوال، استمر نسخ ونشر مخطوطات أعمال ابن سينا عن الميتافيزيقيا لمدة تسعة قرون، من القرن الخامس حتى القرن الرابع عشر من العصر الإسلامي، أي بعد بضعة عقود من وفاة ابن سينا حتى قبل بضعة عقود.

وهناك اتجاه ثالث مؤثر يسود في نهاية المطاف، وهو اعتماد ميتافيزيقا ابن سينا في الأعمال اللاهوتية لعلماء الدين المسلمين أو المتكلمين.

ويبدو أن هذا الاتجاه – الذي ربما يبدأ في البيئة الثقافية التي تشكل فيها الغزالي، والتي يبدو أن الغزالي ذاته قد اشتهر فيها – يمثل أكثر أنواع التلقي إثارة للاهتمام لفكر ابن سينا، لأنه يتطلب تنقيحاً شاملاً لموقف ابن سينا الأصلي من أجل تعديله إلى السياق اللاهوتي.

جنباً إلى جنب مع الاتجاهين السابقين يغطي هذا الميل فترة دون أي أساس للمقارنة أطول من المدى الزمني للمؤلفين الآخرين والمدرسة المذكورة أعلاه. بدلاً من تمثيله استنتاج التعليل التاريخي الحالي، فإنه من المتوقع أن يشكل جوهر التحقيق الكامل لمصير الميتافيزيقا العربية في البحوث المستقبلية.

  1. الخلاصة

يمكن تناول دراسة الميتافيزيقا العربية من مجموعة متنوعة من وجهات النظر المترابطة. فمن جهة، تظهر مجموعة من القضايا التاريخية، مثل الطرق التي نُقل بموجبها كتاب الميتافيزيقا إلى اللغة العربية وأُدرج في ثقافة بيئته الجديدة، وتآزر انتقالها مع الاستقبال العربي للأعمال الأساسية الأخرى لأرسطو (وقبل كل شيء كتاب البرهان، ولكن أيضاً الفئات)،

واستمرار النماذج اليونانية الرئيسية لتفسير مجموعة كتابة أرسطو في الفلسفة العربية، مثل الخلفية الأثينية لفلسفة الكندي في مقابل التراث الإسكندراني لأرسطويي بغداد، أو مشائية الفارابي الأكثر نقاء في مقابل الأرسطوية المتأفلطة عند يحيى بن عدي وأتباعه.

ومن ناحية أخرى، فإن التفكير المعرفي في الميتافيزيقا كعلم من قبل الفلاسفة العرب، في محاولة لتحويل فرع أرسطو العلمي الذي ما يزال ناقصاً إلى خطاب علمي كامل ناضج، يكشف عن مجال تحقيق نظري يُنتج تحولاً تدريجياً من الاهتمام بكتاب الميتافيزيقيا إلى الميتافيزيقيا كعلم.

خارج نطاق الفلسفة وتاريخها الأضيق، من المثير للاهتمام أن نلاحظ كيف أن إدخال فرع معرفة وثني أجنبي، مثل الميتافيزيقيا، في سياق اجتماعي موحِّد، مثل السياق الإسلامي، يحدد إما التوافق أو التنافر بين اللاهوت الفلسفي واللاهوت المكشوف، أو بعبارة أخرى، بين جوهر الفلسفة من ناحية، وتكهنات الكلام من ناحية أخرى.

إن دراسة الطرق التي جرت بها هذه المواجهة في الثقافة الإسلامية في العصور الوسطى قد تسلط الضوء على النقاش المعاصر حول العلاقة بين العقل والإيمان وتساهم في تعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة.

المراجع

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى