الدراسات الثقافية

النبي موسى واليهودية .. أية علاقة ؟

قد يبدو السؤال غريبًا للوهلة الأولى، فالشائع عند أغلب الناس، على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، أن الديانة اليهودية تعود إلى موسى عليه السلام، ولكن المتخصصين حين يتحدثون عن اليهودية وعلاقتها بموسى ينظرون إلى الأمر نظرة مختلفة تجمع ما بين التاريخي والنقدي عند دراسة الكتاب المقدس العبري الذي تتعدد تسمياته بين التناخ، المِقْرا، الأسفار المقدسة.. وغيرها، ومن ورائه التراث اليهودي في عصر ما بعد العهد القديم.


وقد يكون من المفيد لتوضيح وجود هذه العلاقة، أو انعدامها، مراجعة التغيرات التي طرأت على التسمية يهودي منذ نشأتها، لأن ذلك سوف يوضح إلى أي مدى يمكن الربط بين موسى عليه السلام والديانة اليهودية.


يعود الظهور الأول للتسمية يهودي إلى يهودا (يهوذا) ابن يعقوب عليه السلام، وهو أحد الأسباط الاثني عشر، ولذلك فإن التسمية يهودي سوف تطلق لاحقًا بشكل طبيعي على أبنائه وأحفاده، وكل من ينتسب إليه انتسابًا عرقيًا، وهذا يعني أن الدلالة الأولى والأقدم للتسمية يهودي كانت دلالة عرقية في المقام الأول، من دون أن تصحبها أي دلالة دينية على الإطلاق في هذه المرحلة.

وطبقًا لقوائم الأنساب التي يذكرها التناخ، فإن موسى وهارون عليهما السلام ينتسبان إلى لاوي ابن يعقوب، وهو أيضًا واحد من هذه الأسباط، وبالتالي فلا معنى لأن يكون هنالك أي رابط ـ في اللحظة التي نزلت فيها الشريعة، أو التوراة ـ بين موسى عليه السلام، وما سيعرف في ما بعد باسم الديانة اليهودية.

ومن هنا ظهرت دراسات كثيرة تصف التشريعات التي نزلت على موسى عليه السلام باسم التشريعات الموسوية (نسبة إلى موسى)، أو تصف العهد الذي قطعه معه الرب باسم العهد الموسوي.


وهذا هو السبب الذي دفع المتخصصين الذين درسوا قوانين التوراة إلى تجنب استخدام تعبير “القوانين أو التشريعات اليهودية”، وتفضيل التعبير “قوانين موسى” عند دراستهم لهذه القوانين، على الرغم من التحفظ على نسبة هذه القوانين إلى موسى عليه السلام نتيجة تأخر كتابة التوراة حتى العصر الفارسي،

أي في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وذلك بعد فقدان نصها الأصلي الذي يفترض أنه يعود إلى عصر النبي موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد على وجه التقريب.

وإلى جانب الدلالة العرقية للتسمية يهودي، هنالك دلالة ثانية سياسية جغرافية؛ وهي تعود إلى تاريخ انقسام مملكة داود وسليمان.

وطبقًا لسفر الملوك الأول، فإن المملكة الموحدة التي أسسها داود وسليمان (عليهما السلام) انقسمت بعد موت سليمان مباشرة في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا إلى مملكتين؛ إحداهما في الشمال، وسميت مملكة إسرائيل، وعاصمتها السامرة، وسكنها عشرة أسباط من أسباط بني إسرائيل، والأخرى في الجنوب، وسميت مملكة يهودا/ يهوذا، وعاصمتها أورشليم، وسكنها سبطان فقط، هما سبطا يهودا وبنيامين.

هذا الانقسام صاحبه حالة عداء كبير بين المملكتين، وحروب لم تنقطع إلا في فترات محدودة حتى سقطت مملكة إسرائيل على يد الأشوريين في عام 721 قبل الميلاد.

وقد أبرز هذا الانقسام دلالة جديدة للتسمية يهودي، وهي دلالة سياسية وجغرافية بحكم الانتماء لمملكة يهودا/ يهوذا، وهذه الدلالة الجديدة تضاف إلى الدلالة العرقية الأقدم.

لكن الأهم هنا أن الانقسام السياسي رافقه انقسام ديني؛ وطبقًا للرؤية التي روجها واضعو الأسفار التاريخية، خاصة أسفار الملوك الأول والثاني، وقد كانوا على الأغلب من المنتمين لمملكة يهودا/ يهوذا، فكرًا، أو جغرافيا، فإن شريعة موسى كانت تأمر بأن يكون الهيكل في أورشليم هو مركز الشعائر التي يمارسها بنو إسرائيل؛ من احتفالات دينية، وتقديم قرابين، وطقوس، واعتبار أي ممارسة دينية خارجه عصيانًا لهذه الأوامر، وتستحق عقاب الرب.

وبالتالي فإن مملكة إسرائيل حينما قررت ـ بعد الانقسام مباشرة ـ بناء معبدين أحدهما في شمال المملكة، والآخر جنوبها، كان ذلك إيذانًا بحدوث هذا الانقسام الديني.


النسخة العبرية من أسفار موسى الخمسة (1926/Getty)

 

لقد كان ملوك إسرائيل يخشون من أن يؤدي تردد سكان مملكتهم على الهيكل في أورشليم التابع لمملكة يهودا/ يهوذا إلى تغير ولاء مواطنيهم لصالح مملكة يهودا/ يهوذا بسبب العاطفة الدينية نحو الهيكل، ومن هنا جاءت خطوة إنشاء المعبدين؛ وهو ما توضحه العبارة المنسوبة للملك يربعام، أول ملوك مملكة إسرائيل، “وقال يربعام: الآن ترجع المملكة إلى بيت داود، إن صعد هذا الشعب ليقربوا ذبائح في بيت الرب في أورشليم، يرجع قلب هذا الشعب إلى سيدهم، إلى رحبعام ملك يهوذا” (ملوك أول 12: 26).

غير أن الانقسام الديني لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعمق أكثر ليشمل مظاهر وثنية، وإدخال عبادة البعل، إله الكنعانيين، لتصبح جزءًا من ممارسات مملكة إسرائيل الدينية؛ وهكذا فإن لنا أن نتخيل أن كلمتي إسرائيلي ويهودي أصبحتا تشيران إلى انتماء ديني، وليس إلى انتماء سياسي جغرافي فحسب.

لكننا على الرغم من هذا التخيل لم نقف على استخدام الكلمة يهودي بالمعنى الديني في ذلك الوقت.
لاحقًا، وفي أعقاب سقوط مملكة إسرائيل، ووقوع أهلها أسرى في يد الإمبراطورية الأشورية، أو اضطرار آخرين إلى الانتقال للعيش في مملكة يهودا، كان على ملوكها استيعاب الفارين من الغزو الأشوري، ومحاولة تغيير معتقداتهم وأفكارهم الدينية حتى تتناسب مع معتقدات المملكة.

في هذا السياق، كانت هنالك أكثر من صحوة دينية قام بها ملوك يهودا، ودعّمها الأنبياء، أولها أعقبت سقوط مملكة إسرائيل مباشرة. وعلى الرغم مما يتوقع من أن يكون نجاح هذه الصحوات قد أدى إلى أن أصبحت كلمة يهودي ذات دلالة دينية، والتي كانت مرادفة لمن يؤمن بالمعتقدات التي يؤمن بها سكان مملكة يهودا ويمارسها، إلا أن التسمية يهودي بقيت ـ على الرغم من ذلك ـ بعيدة عن التوظيف الديني.

وقد ظل الأمر على ما هو عليه إلى أن كان أول استخدام فعلي لكلمة يهودي بالمعني الديني في القرن الثاني قبل الميلاد؛ حيث وظفت الكلمة بهذه الدلالة للمرة الأولى في سياق الحديث عن ثورة اليهود بقيادة أسرة المكابيين اليهودية ضد اليونان،

وفي سياق الصراع بين “المتمسكين باليهودية” والمتأغرقين، الذين تبنوا المعتقدات اليونانية من سكان مملكة يهودية في ذلك الوقت “والآيات التي ظهرت من السماء في حق الذين تمسكوا باليهودية، حتى أنهم مع قلتهم تسلطوا على البلاد بجملتها، وطردوا جماهير المتأغرقين” (المكابيين الثاني 2: 21).

هذا من الناحية التاريخية لتطور دلالة كلمة يهودي؛ أما من الناحية النقدية فمن الضروري أن ندرك أن ما يعرف بعلم النقد المصدري للعهد القديم Source Criticism يؤكد على أن التوراة التي بين أيدينا هي نتاج عملية تحرير وجمع لمصادر أربعة يعود أولها (المصدر اليهوي) للقرن التاسع ق.م.، والثاني (المصدر الإلوهيمي) إلى القرن الثامن ق.م. والثالث (المصدر التثنوي) إلى أواخر القرن السابع ق.م.

أما الأخير (المصدر الكهنوتي) فيعود إلى ما بعد السبي البابلي، أي القرن السادس ق.م.، ويشير النقاد إلى أن التوراة هي نتاج عملية تحرير وتأليف بين هذه المصادر الأربعة، وهي عملية تمت على الأغلب في العصر الفارسي، أي بعد ما يقرب من سبعة، أو ثمانية، قرون من عصر موسى عليه السلام.

الحديث عن مدى منطقية نسبة التوراة لموسى عليه السلام ليس وليد علم نقد العهد القديم في العصر الحديث، فقد سبقت جهود الغربيين الحديثة تلك، جهود قديمة لعلماء يهود تحدثوا بوضوح عن صعوبة نسبة التوراة لموسى؛ فخلال القرن الثاني عشر الميلادي وضع العالم والحاخام اليهودي أبراهام بن عزرا عددًا من النقاط تشكك في نسبة التوراة لموسى،

والقول بأن توراة موسى كانت أقصر بكثير من حجمها الحالي، غير أن ابن عزرا لم يجرؤ على التصريح برأيه، واكتفى ـ طبقًا للفظ سبينوزا ـ بالإشارة إليه بألفاظ مبهمة.

ما سبق يعني أن حجم ما يمكن نسبته إلى موسى في التوراة الحالية محدود، لأن أغلب نصوص التوراة الحالية هي نتاج عمليات تحرير وإضافة وحذف وتعديل تمت عبر أجيال عديدة بعد عصر موسى عليه السلام. وإذا كان حجم ما ينسب لموسى عليه السلام في التوراة الحالية محدودًا على هذا النحو،

وهي التي تعد حجر أساس في الديانة اليهودية، ومع الوضع في الاعتبار تطور دلالة كلمة يهودي، وأن الكلمة لم تستخدم بالدلالة الدينية إلا في القرن الثاني ق.م.

فإن هذا يشير إلى أن حجم العلاقة بين موسى عليه السلام والديانة اليهودية هو بحجم ما يمكن أن ينسب إليه في التوراة الحالية فحسب، مع التأكيد على أن إطلاق تسمية اليهودية على ديانة موسى أمر غير علمي.


ضفة ثالثة

أحمد الجندي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى