الكتاب: “إدوارد سعيد الانتفاضة الثقافية”
المؤلف: إيف كلفارون
ترجمة وتقديم: د. محمد الجرطي
الناشر: صفحات للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق ـ ط 1، 2017
يعتبر إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني المشهور أحد أبرز الوجوه الفكرية التي ظهرت في الساحة العربية والعالمية.. اشتغل أساسا على تفكيك الخطاب الكولونيالي للغرب ليبرز ملامح الهيمنة والاستعباد للإنسان، ويحلل الصور النمطية المغلوطة عن الشرق بعيون الغرب.
كما أنه حلل أعمدة الهيمنة الغربية، ودافع عن الحرية والقيم وعادى هذا الخطاب الاستعماري الذي يتخفى وراء الديمقراطية والشعارات الرنانة.. وقاد بكتابات علمية رصينة وهادئة انتفاضة ثقافية.
الكتاب الذي نعرض لأهم فصوله اليوم يتناول كل مؤلفات إدوارد سعيد وأفكاره، في محاولة لرسم المشروع الثقافي الذي حمله إدوارد سعيد ودافع عنه..
يقع الكتاب في 256 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف من مقدمة الترجمة العربية، ومدخل، وأربع فصول.
يقول المترجم، د.محمد الجرطي، في مقدمة الترجمة العربية: “إن هذا الكتاب يسلط الضوء بشكل عميق على المسار الفكري لإدوارد سعيد” (ص 19).
و”يقتفي هذا الكتاب المسار الأصيل لمثقف انتقائي، مفكر مرتحل بين عوالم المعرفة، مثقف يقاوم من داخل الحقل الأكاديمي الغربي بفكر نقدي وثوري لتكسير صنمية الآراء المسبقة، ولدحر الإيديولوجيات الموجهة لبناء جسور الحوار المثمر بين الثقافات المختلفة الكفيلة بإرساء القيم الإنسانية المؤمنة بالتعايش مع الآخر” (ص 20).
في المدخل، يوضح كلفارون، علاقة إدوارد سعيد بالأدب والنقد الأدبي بجانبين هامين: “أولاً، الفكرة القائلة بأن الأدب ليس ظاهرة مجردة، بل يندرج في سياق ثقافي وتاريخي، وأن البحث الشكلي والفني ليس بمقدوره اجتثاث التجربة والمعيش الشخصي، ثانياً، الاقتناع بأن الممارسة الأدبية لا تنفصل عن الحس السياسي” (ص 23).
- سعيد.. مفكر في العالم
في الفصل الأول، “سعيد، مفكر في العالم”، يفحص المؤلف المسار الفكري لإدوارد سعيد، من البدايات “في أطروحته في الدكتوراه، جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية” (ص 37). إلى عمله النقدي الموسوم بـ”البدايات: القصد والمنهج”، الذي صدر سنة 1975 (ص 42). إلى خاتمة أعماله الفكرية، “السيرة الذاتية، “حارج المكان ـ مذكرات”، التي نُشرت سنة 1999، (…) تزامنت كتابة السيرة الذاتية مع اكتشاف سرطان الدم عند سعيد (لوكيميا) سنة 1994، وشكّلت نوعاً من الكتابة ضد الموت” (ص 49). وبحسب المؤلف “يحب سعيد أن يتموقع في خط غرامشي، المفكر الذي يلغي التميز بين النظرية والتطبيق لتفكيكهما، وللوصول إلى (مفهوم عمل المثقف الملموس)” (ص 63).
يعتبر سعيد “أن المثقف ـ شخصية نادرة ـ يجب أن يبحث عن الحقيقة والعدالة على حساب مصالحه الشخصية (…) بل إنه يلتزم باستمرار بحسّه النقدي، ويرفض السهولة أو مجاملة السلطة (…) يتعين دوماً على المثقف أن يحرص على استقلاليته إزاء السلطة” (ص 65 ـ 66).
فـ “بين المؤسسة والتمرد، تدور حياة وفكر إدوارد سعيد حول الوظيفة الأكاديمية المزدوجة والمثقف الملتزم، وجهين لعملة واحدة، وبعض التيمات المحورية: المنفى، الالتزام السياسي، وقضية الهوية، وبطبيعة الحال، الدفاع الشغوف عن فلسطين” (ص 82).
- الناقد المقارناتي
يتطرق الفصل الثاني، “سعيد الناقد المقارناتي”، إلى إدوارد سعيد بصفته باحثاً متخصصاً في الأدب المقارن، وبحسب كلفارون، “فإن سعيد هو بالأحرى متخصص بالأدب المقارن وأعماله النقدية تبرهن على ذلك من نواحى عديدة(…).
هكذا فإن الدراسة الأولية الموسومة بـ(البدايات: القصد والمنهج)، هي عمل نقدي مقارناتي تماماً، يفحص فيه إدوارد سعيد سلسلة كاملة من الكتاب والفلاسفة الأوروبيين من وجهة النظر النظرية، ويتأمل في شروط وأوضاع الأدب والنقد من خلال التساؤل الأبستمولوجي” (ص 88 ـ 89).
وفي كتاب “الاستشراق، وللوصول إلى ما يمكن أن يُسمّى تحليل الخطاب الكولونيالي، “فإن سعيد يتبنى منهجاً مقارناتياً مشتغلاً على متن من النصوص المكتوبة بالانجليزية والفرنسية (أحياناً بالألمانية أو الإيطالية)، بخصوص النصوص التي ترتبط بأنواع مختلفة (أدب، بحوث، رسائل، نصوص قانونية…) ويتناولها من منظور متعدد التخصصات” (ص 94).
يقول إيف كلفارون عن إدوارد سعيد: “أكاديمي انعتق من مجال خبرته، مثقف ملتزم في قضية سياسية من الصعب مساندتها في الولايات المتحدة، كاتب ينتمي في أصله إلى الهامش، يتكلم انطلاقاً من المركز، أيقونة فلسطينية في جامعة كولومبيا، لم يفتأ سعيد يثير هيجان الجمهور والمناظرات وحتى مماته في 25 أيلول (سبتمبر) 2003 في مستشفي بنيويورك”.
يتوخّى الفصل الثالث، “سعيد والعالم ما بعد الكولونيالي”، معاينة علاقة سعيد بالعالم المعاصر، العالم ما بعد الكونيالي الذي أقحم سعيد في خضمّه القضية الفلسطينية الشائكة التي كان أحد أبرز المدافعين عنها في العالم. يعتبر العديد من الكتب وأهمها كتاب بيل أشكروفت، “إدوارد سعيد بمثابة الأب المؤسس للدراسات ما بعد الكولونيالية”(ص 133).
وبحسب المؤلف، “يميز إدوارد سعيد بين ثلاث وسائل للمقاومة ضد الهيمنة الثقافية ما بعد الكولونيالية. الوسيلة الأولى تكمن في ترسيخ الحق في استعادة الترابط المنطقي في تاريخ المجتمع، والعمل على تمثيله، بعبارة أخرى التفكير في الثقافة، باعتبارها جماعة بشرية” (ص 138).
“تتوقف الوسيلة الثانية للمقاومة ضد الهيمنة الإمبراطورية على صياغة تصوّر بديل للتاريخ والثقافة” (ص 139). “تكمن الوسيلة الثالثة للمقاومة في التحرّر من القومية الانشقاقية، والعمل على الانعطاف نحو رؤية أكثر اندماجاً في المجتمع والتحرّر الإنسانيين” (ص 142).
هكذا “يحتل سعيد مكانة أصلية في الثالوث ما بعد الكولونيالي [إدوارد سعيد ــ غاياتري سبيفاك ــ هومي بابا]، وربما أكثر عند المفكرين ما بعد الكولونياليين، وحمولة كُتُبه وأبعادها تبقي سياسية، وتشهد على التزام بالمعنى السارتري للكلمة” (ص 150).
- فلسطين.. الوطن الضائع
وانطلاقاً “من عام 1967 سيصبح الشغل الشاغل إدوارد سعيد هو قضية فلسطين، الوطن الضائع الذي سيناضل باسمه بلا كلل حتّى وفاته (…) ظهر كتاب (قضية فلسطين) سنة 1979 في البدء بمثابة تطبيق لنظريات الاستشراق على منطقة خاصة وتاريخ محدّد، تميز بالتحول من النزعة الكولونيالية إلى النزعة الصهيونية” (ص 164).
يوضح إدوارد سعيد أن الصهاينة أسقطوا “مشاعر معاداة السامية على العرب الذين كانوا ضحاياها أولاً (…) لقد تم اختزال الفلسطينيين (…) بسبب الدعاية الإسرائيلية التي تنكر هويتهم: أنهم سكان جنوب سوريا ولا وجود لشعب فلسطيني، حسب تعبير غولدا مائير، أو سكان فلسطين المزعومين بتعبير إسحاق رابين. (…) يطلب سعيد أن يُنظر إلى الفلسطينيين بأعتبارهم أمة، وليسوا شتاتاً من اللاجئين العرب..
لتغيير الإطار الخطابي غير المناسب إزاء الفلسطينيين، يعيد إدوارد سعيد إدراج إسرائيل في سياق النزعة الإستعمارية الأوروبية. ويشدد على التقارب القوي بين النزعة الإمبريالية البريطانية، كما يتضح من خلال وعد بلفور في تشرين الثاني 1917″ (ص 165 ـ 166).
وفي الكتاب الموسوم “فرويد وغير الأوروبيين” يبين إدوارد سعيد كيف تحدث المقاومة أيضاً على مستوى المعارف والعلوم. في إسرائيل، تجنح الإيديولوجية القومية إلى تشييد أركيولوجيا إسرائيلية، تهدف إلى بناء هوية يهودية عن طريق إعادة امتلاك الأرض” (ص 169).
أما في كتابه “تغطية الإسلام”، يوسع إدوارد سعيد “النقاش حول تمثيل الإسلام في وسائل الإعلام الغربية، خصوصاً وسائل الإعلام الأمريكية” (ص 172).
هكذا “تشكل تمثيلات الإسلام كما تناقلتها وسائل الإعلام حيزاً جوهرياً في المشكلة الفلسطينية، لكون هذه التمثيلات تشكل شاشة مشوّهة، لها نتائج وخيمة، تحاصر الفلسطينيين، وتقذف بهم في خانة المستلب والتابع، وتمنعهم من عرض وجهة نظرهم بشكل يضارع وجهة النظر الإسرائيلية(…) ونشر إدوارد سعيد أعمالاً أخرى، تتطرق للقضية الفلسطينية، من زوايا متعددة. تسمح هذه الأبحاث بسرد التاريخ الفلسطيني، وتطوير سرد بديل ومضاد لسرديات إسرائيل”(ص 178).
إن الكتاب المعنون “سياسات السلب: الكفاح من أجل تقرير المصير الفلسطيني (1969 ـ 1994)” يعرض “التزام سعيد في سبيل القضية الفلسطينية وعلاقته المتضاربة والمتباينة مع ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية التي أقام معها قطيعة في نهاية المطاف لتقديم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني” (ص 181).
يعتبر سعيد “انتفاضة 1987 إحدى أكبر الثورات المناهضة للكولونيالية في العصر الحديث (…) وينتقد ويلوم بشكل حاد الزعيم الفلسطيني على توقيعه لإتفاقيات اوسلو سنة 1993” (ص 182). وفي كتاب “السلام والسخط عليه: غزة أريحا (1993 ـ 1995)”، “يؤكد ثبات التزام إدوارد سعيد بقضيته” (ص 184).
ينكب المؤلف في الفصل الرابع، “تلقي أعمال إدوارد سعيد”، على دراسة تلقّي فكر سعيد وأعماله، التي أثارت جدلاً كبيراً، كما هو الشأن لميراثه الثقافي في العالم الأنجلوساكسوني، وفي فرنسا. وبحسب كلفارون، “يعود نجاح إدوارد سعيد بلا ريب إلى أشكله الغرب وخطاباته أكثر ما يعود إلى كونه قام بخلخلة تمثيلات الشرق. على أي حال، يبقي كتابه الثالث الموسوم بـ (الاستشراق) (…) هو الذي نصب القامة الدولية لإدوارد سعيد” (ص 191).
يعتبر سعيد “انتفاضة 1987 إحدى أكبر الثورات المناهضة للكولونيالية في العصر الحديث (…) وينتقد ويلوم بشكل حاد الزعيم الفلسطيني على توقيعه لإتفاقيات اوسلو سنة 1993”
يقدم المؤرخ البريطاني روبرت إيرفين قراءة نقدية منهجية لكتاب “الاستشراق”، وبعض الكتب الأخرى في العمل الموسوم بـ”المعرفة الخطرة: الاستشراق والسخط عليه”، يقول إيرفين عن سعيد، أنه “يجسد صورة المثقف المَقصي والأفلوي” (ص 193). و”بطريقة جوهرية أكثر، يطعن إيرفين في جينيالوجيا الاستشراق لدى سعيد” (ص 194).
ويصف إيرفين كتاب “الاستشراق” بـ”اعتباره تخييلاً” (ص 198). وبحسب المؤلف، فـ”إننا نستشعر في نبرة إيرفين الغيط والحقد المتصاعد إزاء بعض المواقف التي اتخذها سعيد (…) أحد أشد وأشرس منتقدي إدوارد سعيد في أثناء حياته كان برنار لويس بلا شك، العدو اللذوذ الذي في كل الأحوال كان الأكثر حزماً في مهاجمة سعيد” (ص 197).
أما برنار لويس فيصف إدوارد سعيد بـ “إنه إيديولوجي، لا هدف له سوى تأسيس هيمنة إسلامية (…) يزعم إدوارد ألكسندر أن إدوارد سعيد محلل الحياة السياسية المعاصرة، يتقاسم مع المثقفين الإسلاميين انجذاب خاص نحو الإرهاب” (ص 198).
تعرض إدوارد سعيد لانتقادات، “خصوصاً فيما يتعلق بتحديد المتن الذي اشتغل عليه في كتابه (الاستشراق)” (ص 202). يتهم إدوارد سعيد بشكل كبير بالماهوية (تعميم تعسفي انطلاقاً من مثال الشرق الأوسط الإسلامي) ، وبالنزعة الذكورية” (ص 208).
وبحسب المؤلف، “إن المنهجية المستخدمة في كتاب (الاستشراق) يمكن أن تنطبق في نهاية المطاف على كل الدول الواقعة تحت الهيمنة الكولونيالية، والتي حملت أوروبا إزاءهم خطاباً مزدوجاً، خطاب التقدم والمساواة المنحدر من عقلانية عصر الأنوار، من هة، وخطاب الاستبعاد والإخضاع وسلب حقوق فئة من السكان في الممارسة الكولونيالية، من جهة أخرى” (ص 213).
حظي إدوارد سعيد، “بتشريف وحفاوة في فرنسا” (ص 219). “إن إسم إدوارد سعيد أبعد ما يكون مجهولاً في العالم الأكاديمي الفرنسي، لكن معرفة أعماله تُختزل في الغالب في رأي شائع: المواقف التي عبر عنها سعيد في كتاب (الاستشراق)” (ص 221). كان “لدى سعيد جمهور محقق في فرنسا، لكن منظوره النقدي لم يتأصل في الدراسات النقدية الفرنسية” (ص 225).
أخيرًا، يقول إيف كلفارون عن إدوارد سعيد: “أكاديمي انعتق من مجال خبرته، مثقف ملتزم في قضية سياسية من الصعب مساندتها في الولايات المتحدة، كاتب ينتمي في أصله إلى الهامش، يتكلم انطلاقاً من المركز، أيقونة فلسطينية في جامعة كولومبيا، لم يفتأ سعيد يثير هيجان الجمهور والمناظرات وحتى مماته في 25 أيلول (سبتمبر) 2003 في مستشفي بنيويورك” (ص 225).