الاستشراق

قراءة في كتابه «إدوارد سعيد الناقد .. آداب التابع وثقافات الإمبريالية»

صبحي حديدي يقدم رؤية مغايرة لأفكار وأعمال صاحب «الاستشراق»

 من الاتجاهات النقدية التي بدأت تتخذ موقعاً متقدما في الأكاديميات العربية ومحافلها النقدية خطاب ما بعد الكولونيالية ودراسات التابع.


ويكاد لا يخفى على أحد أن دراسات ما بعد الكولونيالية، أو ما بعد الاستعمار، بوصفها حقلاً معرفياً قد نشأت في ضوء أطروحات الناقد الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، ولاسيما بعد صدور كتابه «الاستشراق» الذي تأسس على محورية الخطاب، بوصفه فعلاً متخيلاً إنشائياً؛ قوامه العلاقة بين المعرفة والقوة بوجهها السّلطوي، وبذلك برزت مصطلحات آداب المستعمرات السابقة، وصيّغ التمثيل، ومن ثم الصيغ المضادة أو المتمثلة بالرد كتابياً.


ثمة الكثير ممن طوروا أطروحات سعيد، أو أضافوا لها، ومنهم نقاد ينتمون إلى الأكاديميات الغربية، غير أن جذورهم تنتمي إلى المستعمرات السابقة، ومنهم هومي بابا، وسبيفاك بالإضافة إلى العديد من النقاد الغربيين، سواء أكانوا من الأوروبيين أو الأمريكيين.


إدوارد سعيد القائم بين عالمين، ولغتين، المثقف الذي استطاع أن يتخذ وضعية متقدمة جدا في هرم المؤسسة الأكاديمية، كما الآداب الإنكليزية لم يتنكر إلى قضيته الوجودية، فانغمس في تأسيس خطاب نقدي شديد للعملية الكولونيالية، بالتجاور مع نقد شديد للنخب الفلسطينية الوطنية التي كانت تترأس هرم السلطات،


وتقود مشروع التحرير الوطني، إلى جانب كونه موسيقياً، ومتذوقاً لمختلف الفنون والآداب، وباحثاً عميقاً في النظريات النقدية والأدبية والجمالية، ومجمل الثقافة، ومن هنا فهو ما زال قابلاً للكثير من القراءات والتحليل والبحث.


ومؤخرا ظهر كتاب شديد الأهمية بعنوان «إدوارد سعيد الناقد؛ آداب التابع وثقافات الإمبريالية» من منشورات الأهلية للنشر والتوزيع في عمان سنة 2018 للناقد والمترجم صبحي حديدي، الذي سعى لتقديم صورة تبدو مغايرة، وشديدة الفهم على نحو لا يمكن إلا أن نصفه بأنه نموذج عميق لقراءة إدوارد سعيد، ضمن أكثر من مستوى.


ولعل هذا لم يأت من فراغ كون مؤلف الكتاب يتجاوز الكثير ممن كتبوا عن إدوارد سعيد، الذين لم يتمكنوا من إدراك كنهه بوصفه مفكراً كونياً شديد الاختلاف، فسقطوا في قراءته ذاتوياً، وهذا يعلل أن مؤلف الكتاب مطلع عن كثب على كافة الاتجاهات النقدية والأدبية، ولاسيما باللغة الإنكليزية، كما لا يمكن أن ننكر أنه (تاريخياً) كان من أوائل الذي قدموا لخطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر عبر مقالة نشرت في مجلة «الكرمل» سنة 1993.


يتكون الكتاب من مقدمة وقسمين: القسم الأول جاء بعنوان مسارات وأعمال. في حين أن القسم الثاني تضمن مختارات وكتابات لإدوارد سعيد النقدية. كما ثمة ملحقان: الأول بعنوان «ستيفن هاو يكتب عن إدوارد سعيد»، بالإضافة إلى حوار مع إدوارد سعيد.


ينطلق الحديدي في مقدمته من ملاحظة تموضع سعيد في هذا العالم بوصفه عقلاً جدلياً دنيوياً، أو بعبارة أخرى، رجلا معنيا بإشكاليات عصره من خلال الاحتكام إلى مبدأ نقدي شمل مشروعه سعيد، ومن ذلك نقد اليسار الأدبي، والمركزية الغربية، والحداثة، في حين أن إدوارد سعيد دائم الانشقاق والتأمل، ولاسيما في وعيه الذاتي كما الثقافي، فهو يتحرر من كل ما يمكن أن يعوق تقدمه لإدراك كنه الأشياء والعالم.


ثمة في تحليل صبحي حديدي لشخصية سعيد إدراك عميق لمسارات التحول التي عايشها في طفولته، وشبابه وتعليمه، بالتراصف مع ما كان يجري في الشّرق الأوسط، ففي كل مرحلة من مراحل حياته كان يدرك سعيد أن تموضعه مقرون بما يجري حوله، فكان لا بد من أن ينتج تصوراته المغايرة، وأن يتخذ موقفاً مدعوماً برغبة التقويض، والانشقاق التي أدركها حديدي في شخصية سعيد.


لم يتخلّف إدوارد سعيد عن قراءة واقعه العربي، بما في ذلك أدبه، ومن ذلك أعمال نجيب محفوظ، وغيره من الأدباء العرب الذين كانوا يقدمون مطابقة لتصورات سعيد عن اللغة والعالم، ومن ثم يأتي حديدي على النموذج السّيري، ونعني كتاب «خارج المكان»، وما شكله هذا الكتاب من مصدر لقراءة شخصية سعيد، ولكن ضمن بعد آخر، أي ذلك الوعي الذي على حدود التّشكل، وبالتحديد في مرحلتي الطفولة والمراهقة، وكأن ذاكرة سعيد لم ترغب في أن تستعيد سوى ذلك الزمن حيث كان فيه الأقرب إلى فلسطين.


ولعل التشديد على تلك المرحلة من عالمه الشرق الأوسطي كان يستهدف نقل رسالة شديد الخصوصية والدلالة في ما يتعلق بعلاقته مع المكان الذي أتى منه.

وفي ختام المقدمة يعرض حديدي لموقف سعيد من القضية الفلسطينية، وما نجم عن ذلك من وضع معقد مع الإعلام الأمريكي من حيث شدة الخصومة التي بدأها بعض المناوئين لحضور سعيد، بوصفه مثقفاً فلسطينياً أمريكياً يتحدث عن قضيته بصوت يحمل التقدير باعتباره أكاديمياً مرموقاً في المؤسسة الأكاديمية، ما خلف أثراً شديد التأثير،

ولكن هذا لا يعني أن إدوارد سعيد لم يكن حاضراً في وعي الكثير من كتاب العالم، ومفكريه في الغرب أو الشّرق، خاصة من الذين تناولوه بالبحث المعمّق سواء من التلامذة والمؤيدين، أو المنتقدين لأطروحاته.


وبذلك، يكون صبحي حديدي قد صاغ لنا (سعيد) بكافة أبعاده في بضع أوراق، غير أنها بدت – بالنسبة إليّ – شديدة التكثيف والعمق، لكونها صاغت فكر سعيد ومشروعه عبر تصور شمولي، خاصة لمن لا يمتلك رؤية واضحة تجاهه، أو أنه يملك تصوراً غير مكتمل، ففي المقدمة تنتظم تموضعات سعيد المثقف، ولكن الأهم من كل ذلك موقع سعيد الإنسان الجدلي.


في القسم الأول من الكتاب يُعنى حديدي بمحاولة وضع تصور لفكر إدوارد سعيد ضمن إطار تاريخي تحليلي يختص بمتابعة نشوء هذا العقل، من حيث اهتماماته وتحولاته، وتشكله من طور إلى طور، حيث نقرأ مرجعيات سعيد، ومن ثم تمثلاته الخاصة للفكر، ومثقفي عصره، ومنهم لوكاتش، وفيكو، وغرامشي، وأدورنو وغيرهم الكثير.


غير أن سعيد الشاب يبدو غير راضٍ عن مفاهيم عصره النقدية، علاوة على محدودية تقاطعها مع الحياة بكل ما تحمله من تجاذبات، ولهذا يرغب بأن يكون دائم الانشقاق عما هو قار وثابت، كما التأمل في منهجه وتفكيره، ومن هنا، فقد سعى إلى إنتاج خطاب نقدي يمثل شكلاً من أشكال التجاوز لرؤى نقدية لم تشكل ثورة فكرية، إذ لم يتمخض عنها شيء جديد.


ولعل هذا التحليل من قبل صبحي حديدي يقودنا إلى أن إدوارد سعيد قد بدا في ذلك الزمن واقعاً في مخاض نقدي عسير، فلا جرم أن ينتج بعد سنوات كتابه المركزي والشّديد التأثير «الاستشراق» 1978 بوصفه مشروعاً فكرياً يطال الخطابات الاستشراقية، ولكن عبر رؤية نقدية تستلهم مفاهيم الخطاب عند فوكو – بعد التعديل- لتحديد الأنساق الخطابية المخاتلة التي نتجت بصورة إنشائية للشرق.

لا شك في أن ما يقوم به حديدي يبين عن قدرة عميقة على الاقتراب من سعيد إنساناً ومثقفاً، فضلاً عن اطلاع واسع على مرجعيات سعيد، وآثار بعض الكتب المركزية على فكره. فمؤلف «الثقافة والإمبريالية» بدا معنياً بجملة من الرجال الإشكاليين الذين تميز بنقدهم وتفكيرهم، وعلى ما يبدو فإن سعيد سعى لأن يبرز محدودية البنيوية والتفكيكية- وغيرها من اتجاهات كانت مهيمنة في تلك الفترة – من حيث قدرتها على عكس مفاهيم العالم بوصفه إحالات مؤثرة، لا منفصلة.


ينشغل سعيد في مسار آخر بفكرة الاغتراب، كما انخلاع الذات لدى الروائي جوزيف كونراد في أطروحته التي حملت عنوان «كونراد ورواية السيرة الذاتية» التي شكلت مصنفاً تدشينيا لكتابات سعيد النقدية، وعلى ما يبدو فإن كونراد كان منشغلاً بمعنى الوعي، وطرائق تشكله، ما يعني جدلية يعاني منها سعيد نفسه، وهو القائم بين حدود الثقافات واللغات.


يسعى الكتاب إلى تقديم آليات عمل سعيد، وتقاطعها مع أعمال أخرى ضمن مشروعه حول كونراد، ولكنه يسعى أيضا إلى بيان المساحات المشتركة بين شخصيات نقدية من جهة، وكونراد من جهة أخرى، ولكن من جهة ثالثة يقاسي سعيد القلق عينه، وبعبارة أخرى معضلة (المتغير) في عالم شديد الهشاشة، وهذا ما يتطابق مع حيوات المشتتين والمنفيين والطارئين على هذه الأرض،

وهذا يحيلنا إلى ملحوظة تشي ببوادر تشكّل مفهوم الإمبريالية في فكر سعيد أثناء عنايته بكونراد، ومفهوم الأنانية الكفاحية التي يمكن أن تتحول إلى إمبريالية أفكار تتصل بالأمم.


في مسار ثان، يوجهنا صبحي حديدي إلى انشغالات سعيد بالمعنى، وتشييده بالتجاوز مع أنظمة التشتيت ضمن كتاب سعيد: «بدايات القصد والمنهج» سنة 1975، وهو هنا يضعنا أما مسار جديد في فكر سعيد، وخطته النقدية التي بدت أسيرة عالمه الهش، والقلق، وهنا تتقدم مشكلة «البدايات» في المعالجة النقدية باعتبارها سؤالاً إشكاليا معقداً يشغل ذهن إدوار سعيد، وجهازه النقدي والمفاهيمي الذي يُعنى بلحظة تشكّل المعنى أو القصد، وهي قضية تبدو تقنية أو ذات طابع تخصصي،

ولا سيما عبر محاولة سبره العملية الإبداعية من خلال سلسلة من الأعمال التي يختبرها سعيد، كما نستنتج من تحليل صبحي حديدي الذي يرى أن إدوارد سعيد كان يهدف إلى دراسة مؤسسة الرواية النثرية متتبعاً إياها ضمن إطار منهجي.

في المحور الثالث ثمة تقديم لأحد أهم أفكار سعيد النقدية، وتتحدد بدعوته للنقد العلماني «الدنيوي» في مواجهة النقد الديني، مع التأكيد على أن هذه المصطلحات تنطوي على الكثير من الإشكاليات والدلالات التي ربما يجري اختزالها وتبسطيها في كتاب سعيد «العالم، النص والناقد» 1983.

ثمة إشارة إلى أن إدوارد سعيد كان يحاول أن يتخطى مراوغات الخطاب وتعالقها مع النظام الثقافي، فالكتاب في دعوته للنقد العلماني كان يسعى لأن يجعل من الواقعة الخطابية جزءاً من وظيفة مجتمعية، وليس متعالية نصية منزوعة، أي أنها تتجاوز وظيفتها الاجتماعية، وسياقاتها المكانية والزمانية لتندرج في وضع مؤسساتي أيديولوجي. وبذلك فإن إدوارد سعيد يقترب من تمكين المفهوم النقدي بنزعته الثقافية،

كما تجلت لدى الناقد أورباخ في كتابه «محاكاة»، حيث كان يمارس فعلاً ثقافياً لا نقداً أكاديمياً خارجياً. لقد كانت الكتابة في طابعها نمطاً من أنماط النجاة الثقافية، فالكثير من الكتاب والنقاد في فعلهم النقدي – في الحقيقية- يمارسون توسطاً خطابياً ثقافياً بينهم وبين الحياة؛

ولهذا فإن النصوص التي تحضر غالباً ما تكون متورطة في فعل الحياة، ومن هنا، فهي دنيوية. وبهذا يمضي سعيد في التدليل على أفكاره من خلال الكثير من النماذج التي تنشغل بهذه الظاهرة القائمة على انسلاخ النص عن الحياة أو الكمون فيه؛ ما يدفع بسعيد إلى نقد المؤسسة الأمريكية المعاصرة.

في مجال آخر يضع حديدي بعنوان التابع وتواريخه «بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية». ومن العنوان يبدو هذا القسم معنياً بكتاب سعيد الذي يتقاطع مع التنظير الخاص بدراسات التابع الذي أسهم فيه غير ناقد، ولاسيما من الهند، وغيرها. في حين يتناول قسم آخر «السياسية والمجتمع في فن النخبة»، وبالتحديد سعيد الموسيقي، وأثره في هذا المجال، ولكن عبر توسط ثقافي معمق.

في المحور السّابع نقرأ عن «القراءة الطباقية ورواية الهيمنة»، وما تطور من قراءة الخطاب الاستعماري بوصفه نموذجاً متقدماً عن الأطروحة الاستشراقية، ما أفرز خطاب ما بعد الكولونيالية، ووقائعها، ومظاهرها النصية السّردية عبر تحليل معمّق لفصول الكتاب، وهذا يستمر في المحورين الأخيرين، حيث نجد قراءة لكتاب «تمثيلات المثقف» بالإضافة إلى مفاهيم ومراجعات تتمركز حول كتاب «تأملات حول المنفى»؛

ما يعني أن كتاب صبحي حديدي «إدوارد سعيد الناقد» ينطوي على قدر عميق من الاكتناه الفكري لأعمال سعيد المركزية، وهذا يجعله كتاباً شديد الصلة بالأدبيات التي نشأت حول سعيد والخطاب ما بعد الكولونيالي، ودراسات التابع، وبهذا يمكن أن نعدّه إضافة نوعية في هذا الحقل.


 صبحي حديدي:  كاتب فلسطيني أردني

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى