الاستشراقفكر وفلسفة

تيموثي برينان في «أمكنة العقل: حياة إدوارد سعيد»

سيرة فكرية لا تُغفل أزمنة الفلسطيني الطائر وتحوّلاته

أنساق شتى من الصعوبات يُرجّح أنها اعترضت خطط تيموثي برينان لكتابة سيرة إدوارد سعيد (1935-2003) تبدأ ربما من حقيقة وجود جزء أوّل من سيرة ذاتية كتبها سعيد بنفسه قبيل رحيله وصدرت سنة 1999 بعنوان Out of Place («خارج المكان» في ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب 2000).

لكنها لا تنتهي عند مسعى برينان المركزي نحو كتابة سيرة فكرية، أكثر من كونها سيرة حياة على النحو المتعارف عليه؛ أو مقدار الحرج، لجهة حرّية الاستخدام والتوظيف، إزاء عدد غير قليل من أوراق الراحل غير المنشورة، وبينها شعر ورواية غير مكتملة وهوامش وتدوينات متنوعة.

وقد يكون هذا بعض السبب في أنّ برينان لا يتردد في استدراج القارئ، خاصة ذاك المولع بشخص سعيد وموقعه وكتاباته، إلى معاناة بعض الصعوبة أيضاً، حين يختار المزج في العنوان بين مفردتَي Places وMind (المحيّرة من حيث احتمالات المعنى.

فهي قاموسياً يمكن أن تفيد العقل كما شاء الكثيرون في التعليقات العربية، أو الذهن أو البصيرة أو الرأي أو اليقين…)؛ أو حين يلجأ في العنوان الفرعي إلى صيغة التنكير A Life وليس التعريف The Life أو حتى Life، في إيحاء لا يخفى صوب حال التعدد التي تقترن بحياة سعيد.

ثمة، إلى هذا كلّه، صعوبة إضافية قد تبدو للوهلة الأولى فضيلة وامتيازاً، وهي أنّ برينان تتلمذ على يد سعيد في جامعة كولومبيا، وتطوّرت بينهما علاقات تعاون وصداقة لاحقاً،

ومعها تنامى انحياز عاطفي شخصي لدى التلميذ تجاه الأستاذ؛ وتبلور أكثر فأكثر حين تماهت آراء برينان وكتاباته مع آراء وكتابات سعيد، خاصة في ميادين الدراسات العالمثالثية (كما كانت تُعرف في حينه) ودراسات ما بعد الاستعمار، وعلاقات السياسة والمعنى في قلب الظواهر الأدبية والنقدية.

وكانت مؤلفات أصدرها برينان، مثل «نور مستعار: فيكو، هيغل، والمستعمرات» أو «تفانٍ علماني: موسيقى أفرو-لاتينية وجاز إمبريالي» أو «حروب الموقع: السياسة الثقافية لليسار واليمين»؛ تستوحي الكثير من مناهج سعيد وتنظيراته ومقارباته.

ثمة امتياز في هذا بالطبع، لكن قد تمتزج به مستويات مختلفة من الانحياز العاطفي من جانب تلميذ تجاه أستاذه؛ الامر الذي قد يسفر، استطراداً، عن هذا المقدار أو ذاك من الانزياح بعيداً عن الحياد والموضوعية.

الإنصاف يقتضي القول، مع ذاك، أنّ برينان يبدي انضباطاً عالياً وجديراً بالتقدير في معالجة هذه الصعوبة، حتى أنّ المرء يشعر أحياناً أنه يُفرط بعض الشيء في تحييد ذاته عن مواقف تتطلب انحيازاً أكثر وضوحاً.

الإنصاف يقتضي القول، مع ذاك، أنّ برينان يبدي انضباطاً عالياً وجديراً بالتقدير في معالجة هذه الصعوبة، حتى أنّ المرء يشعر أحياناً أنه يُفرط بعض الشيء في تحييد ذاته عن مواقف تتطلب انحيازاً أكثر وضوحاً.

والحال أنّ وقت القراءة لن يطول، أو لعله يبدأ من الفصل الأوّل مباشرة، حتى يدرك القارئ مغزى مفردة الأمكنة في العنوان؛ إذْ يستقرّ برينان على خيار منهجي، صائب في تقدير هذه السطور، هو اقتفاء تحوّلات سعيد الشخصية والتعليمية والفكرية والسياسية، ثمّ النظرية إجمالاً وأساساً، عبر ارتباطاتها بالأمكنة المختلفة: القدس، القاهرة، ضهور الشوير، بيروت، أرياف ماساشوستس، أثينا، برنستون، نيويورك…

وهذه ليست المواقع، الجغرافية والبيئية والأكاديمية، التي شهدت تفتّح وعيه وتحوّلاته الفكرية وولادة مؤلفاته الأبرز، فحسب؛ بل هي كذلك مهاد مكانية وزمانية كانت وراء التأثيرات الكبرى، الفكرية والسياسية، التي انساق إليها وتماهى معها، ابتداء من جيامباتيستا فيكو وعمله «العلم الجديد».

مروراً بانجذابه العميق إلى أمثال لوسيان غولدمان في كتابه «الإله الخفي» وجورج لوكاش في «التاريخ والوعي الطبقي» وليس انتهاء بالتيارات الوجودية وجان ـ بول سارتر والبنيويين الفرنسيين (الذين كان سعيد أحد أنشط المساهمين في إدخالهم إلى الدراسات النقدية والجامعية الأمريكية) وميشيل فوكو وجيل دولوز.

كلّ هذا بمعزل عن ميوله الجارفة إلى الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا، التي كانت قد بدأت بتشجيع من والدته، ثمّ تطوّرت على يد إنياس تيغرمان أستاذه في كلية فكتوريا القاهرية، وتأصلت لاحقاً عبر كتاباته الكثيرة عن الموسيقى في الصحافة وكذلك في كتابه «متتاليات موسيقية» 1991.

وعلى امتداد أقسام الكتاب، وهي تتوزع على 12 فصلاً بالإضافة إلى المقدّمة، يلجأ برينان إلى إسهاب (حميد تماماً) في التعريف بعدد غير قليل من النقّاد والفلاسفة والمفكرين والكتّاب الذين تركوا بصمات تأثيرية فارقة في تكوين سعيد.

على أصعدة شتى لا تبدأ من النظرية الأدبية ولا تنتهي عند السينما؛ كما في مثال الفصل الثالث الذي لا يكتفي بتفصيل القول في تعلّق سعيد البالغ بالناقد الأبرز في برنستون يومذاك، ر. ب. بلاكمور، وتأثره العميق بأفكار الأخير حول الشعر بصفة خاصة، فحسب؛ بل يعرّف القارئ بالرجل وكتاباته وآرائه، على امتداد صفحات عديدة.

هذه هي حاله مع لوكاش حين يصل إلى تأثيره على سعيد في فصول أخرى، أو أمثال فيكو وجوزيف كونراد وغولدمان وإريك أورباخ وسارتر وميشيل فوكو ورايموند وليمز وهاري ليفين وموريس ميرلو -بونتي، أو تيغرمان وغلين غولد في الموسيقى والعزف، أو كارل ماركس وأنتونيو غرامشي وتيودور أدورنو وفرانز فانون في الفكر السياسي والدراسات الثقافية.

خيار لا تقتصر حسناته على تزويد القارئ بزاد تعريفي إضافي حول هذا أو ذاك من شخصيات التأثير في مسارات سعيد، إذْ يحدث أحياناً أن يكشف برينان عن خلاصة ثمينة، بقدر ما هي مفاجئة أو إشكالية، تتكفل بوضع القارئ أمام مراجعة من نوع ما، أو حتى إعادة تفكير، في سمة متفق عليها اقترنت على الدوام بحصيلة صورة سعيد في الذهن العام، إذا جاز التعبير هكذا.

على سبيل المثال، واتكاءً على متابعة مقدار تأثّر سعيد بنقد بلاكمور الشعري، يساجل برينان هكذا: «دائماً ما اعتُبر سعيد ناقد سرد قصصي ورواية قبل أيّ أمر آخر، لكن كان الشعر أساساً هو الذي كَمن في قلب تكوينه الفكري.

بلاكمور كانت له يد مباشرة في هذا، خاصة من خلال محبّة جيرالد مانلي هوبكنز، الذي آمن بأنّ الكتابة العظيمة تمتلك خصائص الكلام المباشر. والعبارة التي اعتاد سعيد اقتباسها من بلاكمور ـ أي «تقريب الأدب من الأداء» ـ كانت بين أمور أخرى سبيل سعيد للاستفادة من مسلكه المهني المنسيّ كعازف بيانو، متخيلاً الناقد الأدبي في هيئة موسيقار أمام جمهور، أو معلّم بلاغة يترافع أمام محكمة».

إداورد سعيد
إداورد سعيد

ويضيف برينان حيثيات أخرى عديدة إلى ما كان سعيد قد كشف النقاب عنه في سيرته الذاتية «خارج المكان» لجهة علاقته بالسياسة عموماً، وبالقضية الفلسطينية خصوصاً؛ وكيف كان والده شديد الحرص على إبعاده عنهما لاعتبارات كثيرة تبدّلت وتحوّلت مع الزمن،

وكانت أحد الأسباب الجوهرية وراء نقل الفتى من القاهرة إلى مدرسة داخلية في ضواحي ماساشوستس (لم يكن خالياً من المفارقة أنّ اسمها كان «جبل حرمون» Mount Hermon).

الأقدار شاءت غير ذلك بالطبع، وبرينان يسوق عشرات التفاصيل الجديدة، أو التي تكتنفها تفاصيل غير معروفة تماماً من قبل، حول انجذاب سعيد إلى السياسة والقضية الفلسطينية، ثمّ إلى خطابات المقاومة والمعارضة والانشقاق ورسالة المثقف في مواجهة السلطة والنطق بالحقيقة، فضلاً عن النقد المعمّق لمؤسسة الاستشراق عموماً، ولطراز «مثقف وزارة الخارجية» الأمريكي خصوصاً.

الحدث الفارق كان حرب 1967 كما هو معروف، غير أنّ علاقة سعيد مع شارل مالك، قريب العائلة، تكشف علائم مبكرة وعالية المغزى حول نزوع سعيد إلى اليسار إجمالاً، والنفور من اليمين حتى إذا تمثّل في شخص موسوعي ومتميز مثل مالك.

وكانت المصادفة قد شاءت أن يكون سعيد في العاصمة الأردنية عمّان، صيف 1969 ثمّ 1970، فشهد وقائع ما سيُعرف باسم «أيلول الأسود»؛ وكانت أوّل مقالة له عن فلسطين قد نُشرت قبل أشهر في مجلّة خرّيجي جامعة كولومبيا، وفيها اعترف بأنه كان ينسب جنسيته إلى لبنان تفادياً للحرج، وذلك رغم أنّ العديد من زملائه في الدراسة، واليهود منهم خاصة، شهدوا لدى برينان بأنّ هوية سعيد الفلسطينية لم تكن خافية.

طريف هنا ما يقتبسه برينان من تقييم سعيد كما جاء في ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالي، حيث يلوح أنّ عملاء المكتب مالوا إلى تصنيف سعيد، فلسطيني الأصل في كلّ حال، تحت خانة الإرهاب؛ بل ذهب كاتب أحد التقارير إلى الافتراض بأنّ سعيد (من وحي أجواء حروب الكونترا يومذاك) لا بدّ أن يحمل اسماً لاتيني الصياغة، فاختار له هذا: «إدواردو سعيد، الملّقب إد سعيد»!

ليس أقلّ طرافة أنّ عملاء المكتب قلّبوا بالفعل صفحات كتب سعيد، وقرأوا مقالاته في صحيفة «نيويورك تايمز» وحملت تقاريرهم الانطباع بأنّ كتاباته جديرة بالاهتمام، وهو «كاتب موهوب» ذو «ابتسامة لافتة وصوت ناعم» وأعماله «تُرجمت إلى ثماني لغات».

وغنيّ عن القول إنّ فصول كتاب برينان ليست أقلّ من عروض مسهبة، شيقة وأمينة ومستوفية، للسياقات المكانية والزمانية والفكرية، التي شهدت ولادة أعمال سعيد؛ من «مسألة فلسطين» و«تغطية الإسلام» و«الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية» إلى «تأملات حول المنفى» و«تمثيلات المثقف» و«الأنسنية والنقد الديمقراطي» و«خارج المكان» و»عن الأسلوب المتأخر».

وفي الفصول التي تحمل عناوين مثل «قبل أوسلو» و«من سايغون إلى فلسطين» و«العالم الثالث يتكلم» و«شعبان في أرض واحدة» يسرد برينان المزيد من تفاصيل انغماس سعيد في الشأن الفلسطيني، سواء عبر المقالات أو المشاركات على وسائل الإعلام ومنظمة التحرير والحوار مع الخارجية الأمريكية؛ وتتكشف،

استطراداً، عشرات الوقائع والملابسات والمواقف التي إنْ كانت لا تبدّل صورة سعيد المتعارف عليها بصدد القضية الفلسطينية، إلا أنها تتكفل بإعادة ترسيم الأطر الفعلية وراء مواقفه من اتفاقيات أوسلو وحلّ الدولتين ومفهوم الدولة الواحدة ومشكلات السلطة الوطنية الفلسطينية وقضايا المجتمع الفلسطيني عموماً.

وضمن المواقف من الشؤون العربية، لا يفوت برينان أن يذكر حقيقة رفض سعيد، القاطع، لأربع دعوات لزيارة سوريا تلقاها من وزيرة ثقافة النظام السوري يومذاك نجاح العطار، استناداً إلى صفة القمع المقترنة بسلطة حافظ الأسد، وكذلك ما اعتبره سعيد خيانة النظام للقضية الفلسطينية خلال غزو لبنان.

وإلى جانب القضية الفلسطينية ومسائل حقوق الإنسان، كان لبنان هو الحاضنة الأبرز لاقتراب سعيد من العالم العربي، بشراً وسياسة ولغة وثقافة، سواء بسبب أواصر القرابة التي قادته لاحقاً إلى زواجه الثاني من السيدة مريم قرطاس؛ أو لأنه شاء فعلاً أن يتلقى أولى دروسه حول مذاهب النحو العربي، على يد أنيس فريحة (في كتابه «العالم، النصّ، والناقد» 1983،

طرح سعيد العودة إلى النُحاة والفلاسفة واللغويين المسلمين في قرطبة القرن الحادي عشر، ابن حزم وابن جني وابن مضاء القرطبي)؛ أو، كذلك، لأنه حصل على منحة غاغنهايم هناك وقضى سنتَيْ تدريس في الجامعة الأمريكية، 1972- 1973.

وهنا قرأ سعيد ابن خلدون، وسوف يتضح سريعاً مقدار تأثير «المقدّمة» في أحد أهمّ أعماله النقدية/ التنظيرية، أي «بدايات: القصد والمنهج» 1975؛ وهو الثاني بعد كتابه الأوّل «جوزيف كونراد وقَصَصْ السيرة الذاتية» 1966، الذي توسّع عن مادّة كانت في الأصل أطروحته للدكتوراه.

كذلك افتُتن سعيد بمفردة «بيان» بالمعنى الذي ترد فيه مراراً عند ابن خلدون، لكن أيضاً ضمن سلسلة توظيفاتها الدلالية الأخرى التي لا تتوقف عند البلاغة، حتى أنه استخدم المفردة في صيغتها العربية Bayan في عَنْوَنة نداء شهير للتضامن مع الانتفاضة الأولى.

بيروت سوف تقوده، استطراداً، إلى شبكة أوسع من الأصدقاء الفلسطينيين والعرب، وإلى اقتراب أكثر من رجال منظمة التحرير الفلسطينية في الأوساط الفكرية والثقافية؛ ونعرف اليوم دور سعيد الشخصي المباشر في تحرير كلمة ياسر عرفات الشهيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974، صحبة وليد الخالدي وصلاح دباغ ومحمود درويش وبيان الحوت وهدى عسيران ورندة خالدي فتال؛

ثمّ الإضافات الحاسمة التي اقترحها على سبيل حُسْن مخاطبة الرأي العام الأمريكي، وبينها الخاتمة الشهيرة: «جئتكم بغصن الزيتون في يدي، وببندقية الثائر في يدي، فلا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي».

ولم تكن هذه التحولات دون أخطار مباشرة، وجسيمة، خاصة خلال السبعينيات وفي ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، إذْ نجا ذات يوم من حادثة سيارة ملغومة؛ كما تعرّض إلى حملة شعواء، فلسطينية هذه المرّة، على صفحات مجلة «الهدف».

وغنيّ عن القول إنّ فصول كتاب برينان ليست أقلّ من عروض مسهبة، شيقة وأمينة ومستوفية، للسياقات المكانية والزمانية والفكرية، التي شهدت ولادة أعمال سعيد؛ من «مسألة فلسطين» و«تغطية الإسلام» و«الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية» إلى «تأملات حول المنفى» و«تمثيلات المثقف» و«الأنسنية والنقد الديمقراطي» و«خارج المكان» و»عن الأسلوب المتأخر».

وهي، في واحدة من أفضل طرائق إنصافها، فصول ترصد محطات السيرة الفكرية، لكنها لا تُغفل أزمنة ذلك الفلسطيني الطائر، إدوارد وديع سعيد، ومنافيه وحلّه وترحاله وتحوّلاته. 

٭٭ تُنشر، أيضاً، في العدد المقبل من «بدايات».
Timothy Brennan: ”Places of Mind: A Life of Edward Said”
Bloomsbury, London 2021
437 pages.

صبحي حديدي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى