الميثولوجيا والثقافة الشعبية

“بساط الريح”: السفر عبر الزمان والمكان

الحكاية الأسطورية وفلسفة التحرر من حدود الجسد

من بين الرموز السحرية الأكثر إثارة في الموروث العربي والإسلامي، يبرز بساط الريح بوصفه أداةً تتجاوز قوانين الطبيعة وحدود الجسد والزمن. لم يكن مجرد وسيلة نقل خيالية، بل رمزًا للسيطرة والتحرر والقدرة الإلهية في آن واحد.

هذا البساط الذي يحمل صاحبه حيث يشاء، دون جهد أو زمن، يجسد حلم الإنسان الأزلي في كسر القيد المادي والسفر في أبعاد لا يبلغها الجسد.

في القصص العربية الكلاسيكية، يظهر البساط غالبًا في مقام العجائب والمعجزات، إلى جانب عناصر أخرى مثل الخاتم والمصباح، لكنه يتميز عنها بكونه أداة للانتقال لا للتحكم. إنه لا يمنح القوة، بل يهب الحرية — حرية التنقل، وحرية التجاوز، وحرية الانفلات من قبضة الواقع.

  • 1. بساط الريح في الحكاية العربية والإسلامية: بين الأسطورة والمجاز

يرتبط بساط الريح ارتباطًا وثيقًا بقصة النبي سليمان عليه السلام، الذي «سخّر الله له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب» (سورة ص، الآية 36). غير أن التحول الميثولوجي لهذا المعنى في الخيال الشعبي العربي والإسلامي جعل من الريح «بساطًا» ماديًّا، يحمل الملك أو البطل إلى أقاصي الأرض في لحظة.

في ألف ليلة وليلة، تحضر فكرة النقل الفوري مرارًا، حتى وإن لم يرد ذكر «بساط الريح» صراحة. ففي قصص مثل «علاء الدين» و«السندباد»، يتكرر حلم الانتقال السريع من مكان إلى آخر، رمزًا للرغبة في تخطي الفقر والعجز والقيود الاجتماعية. ومع مرور الزمن، صار البساط رمزًا استعاريًّا لحلم الحرية والتحليق فوق الواقع.

  • 2. البساط كرمز للتحرر من الجسد وحدود المادة

في التحليل الأنثروبولوجي، يمثل بساط الريح تجسيدًا لحلم الإنسان في تجاوز الجسد، أي في تحقيق ما لا يستطيع الجسد القيام به. إن الانتقال الفوري يعني تحرير الذات من الزمن والمكان، وهو ما يوازي من الناحية الفلسفية التحرر من الوعي المادي نحو وعي متعالٍ.

يرى الباحث ميرسيا إلياد في كتابه Le Sacré et le Profane أن الأسطورة تمنح الإنسان وسيلة لتجاوز وضعيته المحدودة عبر الرموز. وبناءً على ذلك، يمكن قراءة بساط الريح بوصفه رمزًا للحركة الميتافيزيقية نحو المطلق، وليس مجرد وسيلة نقل سحرية.

فحين يمتطي البطل البساط، لا يغادر مكانه الجغرافي فحسب، بل يعبر إلى حالة من الوجود الحر — وجود لا يخضع للزمن، ولا تحكمه المادة، بل الإرادة والرغبة.

  • 3. من الأسطورة إلى التقنية: هل تحقق حلم البساط اليوم؟

اللافت أن فكرة السفر الفوري التي كانت تُعد سحرًا أو خيالًا، أصبحت اليوم موضوعًا لبحوث علمية جدية في مجالات مثل النقل الكمي (Quantum teleportation) والواقع الافتراضي (Virtual Reality).

إن بساط الريح، في ضوء الفكر المعاصر، يمكن اعتباره رمزًا مبكرًا لخيال التكنولوجيا: الرغبة في تجاوز الحواجز الفيزيائية وتحقيق الحضور في مكان آخر دون مغادرة الحيز المادي.

ويبدو أن الإنسان الحديث لم يتخلّ عن حلمه القديم، بل غيّر لغته فقط: فبدل البساط المنسوج من خيوط الريح، صار يستخدم الألياف البصرية وموجات الراديو. ومن ثم، فإن البساط الأسطوري ما زال يحلّق في المخيال العلمي المعاصر، ولكن تحت أسماء جديدة.

  • 4. قراءة رمزية: البساط بين الأرض والسماء

في المنظور الرمزي، يحتل بساط الريح موقعًا وسيطًا بين الأرض والسماء. فهو لا يُقلع كطائر، ولا يسير كحيوان، بل يحلق بلا جناحين ولا أقدام، في فضاء لا تحكمه قوانين الكائنات. هذا البين بين، يجعل منه رمزًا لـ التحول والعبور والانتقال بين العوالم.

ويشير عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي جيلبير دوران في تصنيفه للرموز (Les Structures anthropologiques de l’imaginaire, 1960) إلى أن كل رمز للحركة الصاعدة (كالطيران) يحمل دلالة على الرغبة في الانعتاق من ثقل الواقع. وبناء على ذلك، فإن بساط الريح يمثل التحرر الروحي من أسر الجسد، وتحقيق نوع من السمو الذي لا يُنال إلا بالخيال.

  • خلاصة:

إن بساط الريح، في جذوره، ليس مجرد اختراع أسطوري للتسلية أو العجب، بل هو صدى لأعمق ما يطمح إليه الإنسان العربي — بل الإنسان عمومًا: الانفلات من القيود المادية والزمنية، والسعي نحو فضاء أرحب، حيث تتحقق الحرية في أنقى صورها.

في المخيال العربي، لم يكن التحليق مجرد مغامرة، بل فعل مقاومة للثبات والسكون. وكل من جلس على بساط الريح، في القصص والأساطير، كان يسعى إلى ما وراء المرئي، إلى الخلاص من الجسد والزمن، إلى المعنى المطلق.

قائمة المراجع:

  1. إلياد، ميرسيا. المقدس والمدنس: طبيعة الدين ووظيفة الرموز. ترجمة فوزي العنتيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996. رابط التحقق
  2. دوران، جيلبير. البنيات الأنثروبولوجية للخيال. ترجمة مصطفى حجازي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2015. رابط التحقق
  3. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، 1988، ج 4، ص 44–45. رابط التحقق
  4. ألف ليلة وليلة، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر العربي، القاهرة، 2002.
  5. Eco, Umberto. The Infinity of Lists, Vintage, 2009.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى