الميثولوجيا والثقافة الشعبية

العين الزجاجية والتمائم: دراسة أنثروبولوجية حول الحدود بين الإيمان والخرافة

👁️

  • افتتاحية سردية:

في قريةٍ مطلّة على البحر الأبيض المتوسط، جلست امرأة عجوز تبيع حُليّا صغيرة من خرزٍ أزرق داكن، تتدلى منها عيونٌ زجاجية باردة. قالت وهي تناوِل إحدى الزائرات:

“هذه العين لا تنام، تراكِ حين يغيب عنك اللهيب.”

الزائرة ابتسمت في ارتباك، ولم تفهم هل تشتري قطعة زينة أم درعا روحيا؟
هذا المشهد البسيط يختزل قرونا من الممارسات البشرية التي مزجت بين الإيمان الشعبي بالحماية الإلهية والخوف البدائي من القوى الخفية.

التمائم، والعين الزجاجية تحديدا، ليست مجرد رموز زخرفية؛ إنها مفاتيح لأنظمة رمزية عميقة تقف بين المقدّس والسحري، بين الدين والأسطورة.

1. التميمة والعين: من الرمز إلى الوظيفة الاجتماعية

تُعرّف التميمة (Amulet) بأنها جسم مادي يحمل وظيفة رمزية أو سحرية للحماية من الشر أو الجلب للحظ.
أما العين الزجاجية أو “العين الزرقاء” فهي أشهر هذه الرموز في العالم المتوسطي والشرق الأدنى، وتُعرف بأسماء متعددة:

بحسب الأنثروبولوجي البريطاني إدوارد تايلور (Edward B. Tylor)، فإن الاعتقاد في العين والتميمة يمثل استمرارا لما سماه “بقايا الفكر السحري”، أي محاولات الإنسان الأولى لتفسير العلاقة بين النية والنتيجة، بين النظر والضرر.

لكن في المقابل، يرى عالم الاجتماع إميل دوركايم أن هذه الرموز ليست خرافة بقدر ما هي وسائط اجتماعية لإعادة إنتاج التماسك الجمعي؛ فهي تعمل كطقسٍ يومي يذكّر الجماعة بوجود حماية غير مرئية تشدّهم إلى إطارٍ رمزي مشترك.

2. العين كرمز أنثروبولوجي: من الشرق القديم إلى الإسلام الشعبي

تظهر العين رمزا للحماية منذ أقدم الحضارات:

  • في مصر القديمة، كانت عين حورس (Udjat) رمزا للشفاء والقدرة الإلهية، واستُخدمت على القبور والمقابر الملكية.
  • في بلاد الرافدين، وُجدت تماثيل صغيرة بعيون واسعة مفتوحة ترمز إلى يقظة الروح وحماية المعبد.
  • في اليونان القديمة، ظهر مفهوم “mati” أي العين الشريرة، التي تُصاب منها الضحية بنظرةٍ حاسدة أو مدمّرة للطاقة الحيوية.

في الإسلام الشعبي، رغم أن النصوص الدينية تحذّر من الممارسات الشركية، فقد استمر تداول التمائم والعين الزرقاء بوصفها ممارسات وقائية رمزية، تُرفق أحيانا بآيات قرآنية كريمة مثل؛ قوله تعالى: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم…}. (القلم: 51). إنها محاولة لدمج الحماية الإيمانية في إطار ثقافي رمزي قديم.

3. بين الإيمان والخرافة: جدلية المعنى والوظيفة

العين الزجاجية تمثل حالة رمزية حدودية بين الإيمان الديني والخرافة الشعبية. فالأنثروبولوجي الفرنسي مارسيل موس (Marcel Mauss) يصف هذه الحالة بأنها «سلوك اجتماعي ذي نية عملية ومضمون رمزي».

فالفرد لا يعتقد بالضرورة أن الزجاج يملك قوة خارقة، لكنه يجد في حمله طمأنينة روحية – شعورا بأن هناك ما يحميه من نظرةٍ معادية أو حسدٍ غير مفهوم.

تعمل التميمة هنا كـ”جهاز نفسي اجتماعي”، أكثر من كونها أداة سحرية. فهي لا تدرأ الشر فعليا، لكنها تنظّم الخوف، وتمنحه شكلا ملموسا يمكن السيطرة عليه.

4. الحدود بين المقدس والسحري

وفقا للأنثروبولوجي ميرسيا إلياده (Mircea Eliade)، فإن كل ثقافة تُنشئ فضاء من المقدّس في مواجهة المدنس.
لكن بعض الرموز – مثل التمائم – تعيش في منطقة وسطى، حيث يتداخل الطقسي مع التجريبي.

العين الزجاجية تمارس فعل الحماية، لكنها لا تستدعي قوة محددة بالاسم؛ إنها «رمز عام» يحيل إلى مفهوم الحماية الكونية، وبالتالي تظل متسامحة بين الدين والسحر.

في هذا السياق، يمكن القول إن التميمة هي وسيلة لاحتواء الخوف في قالبٍ جمالي – إنها جماليات الدفاع الروحي.

5. الحماية في زمن التقنية: تمائم رقمية؟

في العصر الرقمي، تتكرر الظاهرة ذاتها بأشكال جديدة:
أيقونات الحماية، الرموز الزرقاء في تطبيقات المراسلة، أو حتى “إيموجي العين” المستخدم لدرء الحسد في الإنترنت العربي.

يُعيد الإنسان الحديث إنتاج الطقوس القديمة في فضاء إلكتروني، حيث لا يختلف كثيرا عن أسلافه:
ما زال يبحث عن درعٍ رمزي ضد المجهول، فقط باستخدام أدوات رقمية بدل الزجاج والخرز.

  • خلاصة:

العين الزجاجية ليست مجرّد أثرٍ شعبي، بل رمز إنساني متجدد يعبّر عن حاجتنا الدائمة للحماية من المجهول، وعن حدود عقلنا أمام القوى التي لا نفهمها. إنها تعكس سؤالا فلسفيا أعمق: إلى أي حدّ يمكن أن يكون الإيمان درعا، والخرافة ملاذا؟

  • قائمة المراجع:
  1. Eliade, Mircea. (1959). The Sacred and the Profane: The Nature of Religion.
    Harcourt, New York.

  2. Durkheim, Émile. (1912). Les Formes élémentaires de la vie religieuse.
    Presses Universitaires de France.
  3. Mauss, Marcel. (1902). A General Theory of Magic.
    Routledge Classics, 2001 edition.
  4. Tylor, Edward B. (1871). Primitive Culture: Researches into the Development of Mythology, Philosophy, Religion, Art, and Custom.
    John Murray, London. – المجلد الأول (archive.org)
  5. Evil Eye in the Mediterranean Cultures — Encyclopedia Britannica. رابط التحقق
  6. Andrews, Carol. (1994). Amulets of Ancient Egypt.
    British Museum Press. موقع المتحف البريطاني
  7. Dundes, Alan. (1992). The Evil Eye: A Casebook.
    University of Wisconsin Press. موقع الناشر الرسمي
  8. Foster, George M. (1972). The Anatomy of Envy: A Study in Symbolic Behavior.
    Current Anthropology, 13(2):165–202. – JSTOR

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى