الأدباء وأوهام التكريم التافهة
من الأهم يا ترى المتنبي أم سيف الدولة؟ أأبو تمام أم المعتصم؟ ربما لا يشكل الطرفان معادلة متكافئة، إذ لا يساوي السياسيُّ الأديب مهما اعتلت رتبة السياسي، ومهما تواضع حضور الأديب، عدا أن السؤال يتوجه إلى شاعرين كبيرين وسياسيين كبيرين أيضا، فما بالك إذا كان السياسي متواضعا في أصل وضعه والأديب هو الأديب على كل حال؟
لم يمت سيف الدولة ولم يمت المعتصم؛ لأن الشاعرين الكبيرين لم يموتا، وظل شعرهما باقيا وخالدا. كثير من السياسيين الأبطال الذين عملوا أكثر مما عمل سيف الدولة والمعتصم، ولكن لم يتح لهم أن يرفع شأنهم شاعر كبير، فماتوا أو خنسوا خبرا في بطون كتب التاريخ. ولم يصبحوا شخصيات عامة وشعبية تحيا في ضمائر الناس جميعا. وربما من أجل ذلك رغب أصحاب السلطان في مدح الشعراء في كل زمان، وأجزلوا لهم العطايا والهبات وقربوهم. وكانوا حريصين على إيجاد منصب “شاعر البلاط” ولو ضمنيّا. ولن أبالغ لو قلت: إن شاعرا واحدا يساوي ألف وزير وألف والٍ وألف قائد شرطة، قديما وحديثا، وفي كل الظروف والأحوال.
تبدو لي المسألة بدهية في أهمية الأدباء وما أنتجوه من أدب، لقد كان الأدب هو المادة الأساسية للتعليم، وليس فقط ذا مهمة سياسية، والأدب وحده القادر على صنع شخصية المتعلمين؛ العقلية والنفسية، وربما لأجل هذه الأهمية في التربية والتعليم جاء القرآن الكريم كتابا أدبيا لافتا، وقال الرسول الكريم: “أدَّبني ربِّي فأحسن تأدِيبي”، فالقرآن الكريم بوصفه نصا أدبيا عاليَ القيمة والتأثير ساهم في صناعة الشخصية الإنسانية للإنسان العربي أولا ثم كل من انتمى إلى الإسلام.
ولم يقتصر التعليم على القرآن الكريم ونصوصه، بل كان الخلفاء والأمراء والولاة يتوجهون إلى شعر الشعراء من أجل أن تكون مادة تعليمية، فقد أوثر عن كثير منهم أن كلفوا الرواة أو المؤدبين بتأديب أولادهم، فعهدوا إليهم باختيار القصائد الجامعة، رفيعة المستوى ليؤدب بها الأولاد، ومن ذلك ما حدث في أمر ما عرف بالمعلقات، فقد شكلت بذرة أولية لمنهاج التعليم الأساسي لأولاد الخلفاء على اختلاف في رواية الرواة. هذه القصائد العشرة أو الاثنتا عشرة التي عرفت بالمعلقات أو المذهبات أو السموط، إنما هي مادة مختارة من أجل التربية والتعليم، وأظن أنه لا بد من دراسة تلك القصائد دراسة تربوية خاصة للكشف عن الأسباب الكامنة لتعيينها مادة تعليمية. فقد ذُكر أن المعلقات مثلا كانت تتميز باشتمالها “على معانٍ كثيرة، أو انتهاؤها بخاتمة بليغة”، عدا أنها من “أجود شعر صاحبها”.
لقد أصبحت هذه سنة مقررة لدى العرب فيما بعد وربما عند الفرس قبل العرب وعند الإغريق، فالنصوص الكلاسيكية القديمة ما هي إلا مادة التعليم المختارة في الصفوف الدراسية كما يشير أصل لفظ الكلاسيكية (Classic)، فتلك النصوص المتمتعة بصفات كبرى: الحق والخير والجمال تجعله أدبا ممتازا، إذ “يتميّز بالاتِّزان والوحدة الفنيّة والاعتدال والبساطة وتناسُب الأجزاء”. إن ما يربي النفسية الإنسانية ويصقلها جماليا وقيميا هو الأدب، شعرا ونثرا، وليست مواد الرياضيات والعلوم البحتة، بل إنه لا بد من الالتفات إلى أن هذه المواد لن تؤثر في نفس المتعلم وعقله إذا لم تكن مستندة إلى دائرة الحق والخير والجمال وتغذيها عبر منهجية متكاملة، وللقرآن الكريم أهمية عظيمة لا تضاهى في صياغة هذه العلوم بأسلوب متأدب مؤثر، يؤثر في الوجدان بالقدر نفسه الذي يؤثر في العقلية، ويدعوها إلى التفكير الناقد، وصولا إلى صقل الشخصية الإنسانية، ولعلني لا أبتعد عن الحقيقة عندما أقرر أن ولادة الأسلوب العلمي المتأدب في النثر العربي كان بسبب هذه الصياغة القرآنية المذهلة.
لقد توالى الاهتمام بحضور الأدب في مناهج التعليم على مر العصور، لأنه هو الأقدر على صياغة النفس الإنسانية، وتحرص كل أمة على أن يكون أدبها حاضرا في تلك المناهج، لأنه هو الطريقة المثلى في توحيد مشاعر النشء وعقلياتهم، فالأدب أيضا مادة صالحة للتفكير العقلي البحت بجانب تنمية المشاعر بمواكبة مستمرة لا تنفصل عن الناحية العلمية.
لأجل ذلك كان لا بد من الاهتمام بالأدباء جميعا، وتقدير دورهم وما أنتجوه من فكر وأدب، وألا يقتصر الأمر على تقدير آحاد الأدباء بتكريمات عشوائية وانتقائية كما يحدث هذه الأيام هنا وهناك، ويثير الأحقاد أكثر ما يبعث على البهجة والسرور، بل يجب أن تكون استراتيجية الدولة حريصة على احترام شخصية الأديب أي أديب، وليس أديب السلطة المناصر لها فقط، وتوفير حياة حرة وكريمة له، ومنحه كل ما من شأنه أن يرفع من مكانته في المجتمع، فليس من العدل أن يعاني الأديب من شظف العيش ويعاني الأمرين إذا ما مرض، وينبغي ألا يترك الأمر لمنحة الرئيس أو الملك دون أن يكون هناك تشريع عام يكفل للأدباء حق التطبيب المجاني، وأن يخصص لهم مرتّبات تحفظ لهم كرامتهم. فهم يستحقون الحياة الحرة الكريمة لعظيم أثرهم في الوجدان الجمعي، وليس التضييق والسجن والملاحقة والطرد كما يحدث في بلاد المتنبي ونزار قباني والعقاد ومحمود درويش.
إنه لمن المخجل أن ينتظر الأديب أن تتعطف عليه مؤسسة أهليّة، فنشيد بها إذا ما تبرعت بتوفير علاج لأديب مرض باعتبارها لفتة إنسانية، وما فتئت الحياة العربية المخجلة تصدم المثقف بمثل هذه الأخبار؛ تتحدث عبلة الرويني في كتاب “الجنوبي- سيرة أمل دنقل” عن معاناة زوجها خلال إصابته بمرض السرطان، ولم يكن توفير مصاريف العلاج أمر سهلا عليهما، ما اضطرهما أحيانا إلى الاستدانة، وأن تفكر الزوجة ببيع خاتم الزواج، أو أن يقع الشاعر تحت طائلة المنّ، عندما دفع أحد الموسرين التكاليف.
ولم يكن سهلا ميسورا أيضا أن تتبنى الدولة تشريعا يقضي بعلاج “المواطن” أمل دنقل على نفقة الدولة. لقد كان الأمر مزعجا كما تذكر الرويني عدم تقدير هذا المواطن “أمل دنقل”، وعدم التعامل معه في ذلك التشريع أو القرار على أنه شاعر ساهم في صقل الشخصية العربية، وليس المصرية فقط. ويبدو أن الحكومات العربية لم تتعلم الدرس، فكررته مع الشاعر رفعت سلام، هذا الشاعر والمترجم الكبير، ففي مرضه الأخير لم يجد استجابة سريعة من الدولة ليعالج على حسابها، فقرأنا المنشورات الداعية إلى مساعدته لتقوم أخيرا بذلك جامعة القاهرة وتتكفل بمصاريف العلاج. إن الأمر ليس مقتصرا على الدولة المصرية، بل يحدث في كل نظام عربي هزيل البنية منغلق الأفق، لقد غابت الدولة بالكلية بتشريعاتها التي تحفظ كرامة الأديب. بل إنها لا تنظر إلى حياة الأديب على أنها ذات قيمة معنوية وفكرية.
وليس فقط الدولة بل إن اتحاد الأدباء أو الكتاب لم يناضل من أجل أن يوفر للأديب “العاطل عن العمل” مرتّبا يكفيه ويغنيه، مع أنه ليس عاطلا عن العمل بالمفهوم العام، فهو الصانع والباني والمنتج الحقيقي، ولم يطالب، مثلا، بتأمين صحي مجاني له ولأسرته، بل إن ما يدعو إلى السخرية أن يوفر اتحاد أدباء ما في سلطة ما “شرائح جوال” للأدباء بعروض خاصة، وكأن الأديب سيقضيها (دردرشة) واتصالات، ولم يدرك هؤلاء المسؤولون أن “الهاتف أعدى أعداء الكاتب”. إن مثل هذا العرض لم يكن أكثر من ورقة تدعم تفاهة من يفكر بسذاجة فيقدم شريحة جوال لكاتب بعروض مخفّضة.
هذه الحادثة جعلتني أستذكر احترام إحدى الدول لكتابها، فتعطيهم امتيازات خاصة؛ تخفيضات تصل إلى نصف تذكرة في كل مناحي الحياة، بدءا من أجرة المواصلات العامة إلى فاتورة المطعم ومحل الملابس والتطبيب وغير ذلك، وتقدم لهم كل ذلك بوصفهم كتابا، دون أن تتوجه لآحاد منهم بالتكريم والامتيازات كونه محسوبا على فصيل سياسي متحكم أمنيا بالبلاد والعباد، أو لأنه ذو حظوة حكومية كما يحدث عندنا، ويحبّه الرئيس “المنتخب” ويقرّبه ويدنيه فيرفعه، وأصبح تكريم هذا الشخص أو غيره، رمزيا، علامة على تكريم الأدب والأدباء، إمعانا في التضليل والكذب والضحك على الذقون، بل إنه استتفاه للأديب واحتقار لدوره المؤثر في صناعة عقلية الإنسان ونفسيّته، ولكن سيحدث أكثر مما حدث عندما يكون “صاحب الكرسيّ” طفلاً، ولا يتقن سوى مصّ اللّهايات!
حزيران 2020