فكر وفلسفة

هيرمان هسّه – الشرق ملاذا روحيا وفكريا

يُعتبر هيرمان هسّه Hermann Hesse من أشهر الكتّاب الألمان وأبرزهم في القرن العشرين، وقد اكتوى بنارِ حربَيْن عالَميّتَيْن ممّا كان له الأثر العميق في نفسه، فعبَّر عن رفض تلك الحروب وما تُسبّبه من ويلاتٍ ودمارٍ للعالَم.

وفي مُعظم إبداعاته عبَّر هسّه عن محنة الإنسان في عصره، وهذا واضح من خلال كِتاباته التي تصطبغ بالصبغة النفسيّة المُعبِّرة عن مكنون الذّات وخلجات النَّفس.

عبّر هسّه عن رفضه الحرب عندما لجأ إلى سويسرا مُعارِضاً الروح العسكريّة لبلاده في الحرب العالميّة الأولى. وخلال مسيرته الحياتيّة والفكريّة ارتحل إلى الشرق مرّاتٍ عدّة، وبخاصّة إلى الهند، للتزوُّدِ بدفء الحضارة الشرقيّة، مُلتمِساً السكينة والراحة النفسيّة والعلاج. فقد زوَّده الشرق الساحر بأساطيره ورموزه بقوّة التأمُّل.

يُعبِّر هسّه عن عشقه للشرق وكيف أنّه يُمثِّل له مَلاذاً آمناً للفكر والروح، بقوله إنّه لم يستطع الحياة في بلادٍ باردة أبداً، وإنّ كلّ رحلات حياته التي قامَ بها كانت إلى الجنوب. ومن هنا كانت رؤية هسّه وميوله وفلسفته أقرب إلى روح الشرق وثقافته الروحيّة.

وفي حالاتٍ كثيرة نراه يقترب من تلك الروح التي يمتلكها الزهّاد والصوفيّون والعارفون باللّه في سلوكهم ونَهجهم، من حيث المَيل إلى الزهد والبساطة واللّجوء إلى الأماكن المعزولة.

ولم يتعمّد هسّه أن يتصنَّع إضفاء أيّ صفة على نفسه أو أعماله، بل كان هو وأعماله تعبيراً عن المزيج الإنساني العجيب بين الثقافات الإنسانيّة التي تطبع روح الإنسان المُحبّ للحريّة والخير، التوّاق إلى الجمال، الذي يستريح بطبعه إلى الهدوء والبساطة.

الشرق عند هسّه وطنٌ للروح وأرضُ المعرفة والحكمة. ويقصد دائماً بـ “رحلة الشرق” أنّها مرحلة التعبير بالرموز والكتابات. فقد كانت رحلات الشرق تأخذه عبر الماضي والحاضر والمستقبل. ومن الشرق استمدّ أعظم صفة وهي التأمُّل، ومن الشرق أَبدعَ عدداً من أهمّ كُتبه ورواياته.

وعلى الرّغم من المناخ الهندي الأسطوري الذي ينسجه المؤلِّف في هذه الرواية، إلّا أنّه بإمكانها أن تكون رواية كلّ إنسان يسير على طريق البحث عن ذاته، ويقوده بحثه في نهاية المطاف إلى معرفة الله.

  • سيرةٌ ومَسيرةٌ ورحلةُ حياة

وُلد هيرمان هسّه في العام 1877 في مدينة كالف الألمانيّة، الواقعة في منطقة جميلة في الغابة السوداء (فورتمبرغ) التي غَرست فيه حبّ الطبيعة على نحوٍ رومانسي لا يخلو من إفراطٍ في بعض الأحيان.

كان أبوه يُمارس مهنة التبشير، لذا اتَّجه هسّه في بداية الأمر إلى الدراسات الدينيّة، لكنّ الصراع والخلاف بين والدَيه جَعَلَهُ يتمرَّد على كلّ شيء، على البيت والمدرسة والدّين والتقاليد. ولا يقبل إلّا ما يتّفق مع مَيله إلى الخيال الجامح والحسّ الشعري.

كان هسّه متمّرداً بطبيعته ميّالاً إلى الخيال، ويتمسّك بكلّ فكرة راودته، مكوِّناً لنفسه عالَماً خاصّاً به يتّفق مع ميوله؛ ومن هنا أصبح التمرُّدُ سمةً من سِمات شخصيّته. فهو يتذكّر كيف دفعه والده إلى المدرسة اللّاتينيّة (المدرسة الأوليّة) في كالف، التي مكث فيها أربع سنوات من دون اقتناع.

فيقول عن تلك الفترة “لم أجد طوال الأعوام التي قضيتها في المدرسة إلّا مدرِّساً واحداً أحسستُ تجاهه بالحبّ والامتنان”. فقد كانت المدرسة في نظره العدوّ الذي يهجم عليه يُريد أن يُفسد عليه حياته ومَوهبته.

كان هسّه مُرهف الحسّ، لذا عشق الطبيعة وأراد أن يندمج في كائناتها ليَفهم حديث الزهور والحشرات والفراشات، ويتأمّل الشجرة وهي تنمو والحيوان وهو يَلِد.

وتعمَّق هسّه في الدراسة بعد خروجه من المصحّة النفسيّة في توبنجن، وبدأ بالتغلُّب على أزماته النفسيّة، ونَجَحَ في التخلُّص منها عندما عمل في مكتبة مدينة توبنجن، وركَّز جهده على القراءة والاطّلاع بغزارة على الكُتب.

وكان هسّه أيضاً غزير الإنتاج في التأليف، وصاحب موهبة في الكتابة. ولعلّ من أهمّ إبداعاته ومؤلّفاته: ديوانه الشعري “قصائد رومانسيّة” الصادر في العام 1899 وهو أوّل ما نُشر من أعماله، ومجموعته الشعريّة “ساعة بعد منتصف اللّيل”، وكِتاب “الحرب والسلام“، وهو سلسلة من ثماني مقالات ينتقد فيها الحرب، وكذلك رواية “رحلة إلى الشرق”.

وقد حظيتْ آخر رواياته “لعبة الكريات الزجاجيّة” الصادرة في العام 1943 بشهرةٍ واسعة. وفيها يُصوِّر هسّه ويتخيّل ما يجب أن يكون عليه العالَم البشري في العام 2400. وقد حصل هسّه على جائزة نوبل في العام 1962.

  • هسّه الكاتِب المُبدع

لعلّ العامل الأساسي الذي حوَّل هسّه وأفكاره تجاه العالَم، هو عمله في مكتبة مدينة توبنجن، التي احتوت على كُتبٍ في جميع المَعارف والعلوم، فنَهَلَ منها جالساً فيها لساعاتٍ، مُتنقّلاً بين أرففها، يقرأ ويُسجِّل ما يقرأ، ما ساعد في تشكيل أفكاره ورؤيته للعالَم والناس.

ولقد تأثَّر في تلك الفترة من حياته بالكتّاب الألمان مثل شيلّلر وغوته وليسنغ. كما دَرَسَ الميثولوجيا الإغريقيّة، وقَرأ كُتب نيتشه وتأثَّر بها، وركَّزَ على أعمال الرومانسيّين الألمان مثل كلمنس.

كلّ هذه العوامل أثَّرت في فكره ككاتبٍ شقَّ طريقه وسط الكثير من الصعاب، واكتنف حياته الكثير من التوتُّر بسبب نشأته، ومَيله إلى العزلة، وتخلّي أصحابه عنه.

كان هسّه كاتباً مُبدعاً في الكثير من رواياته ودواوين أشعاره. انصبَّ اهتمامه في مؤلّفاته على تصوير أحزان البشر ومَتاعبهم في عصره، وكانت له قدرة فائقة على تصوير خلجات النّفس الإنسانيّة وما يدور فيها من مشاعر وأحاسيس.

ولعلّ أصدق روايةٍ له في هذا السياق رواية “ذئب البراري”، التي تتحدّث عن الإنسان المُعاصِر الذي أصبح نصف جسد ونصف روح، ويعيش في عزلةٍ واغتراب بسبب عدم التآلف بين المُجتمع والطبيعة، عاكسةً الصراع الدرامي بين التسليم البرجوازي والتمرُّد الفطري الغريزي داخل الإنسان.

  • هسّه والشرق.. عشقٌ لا ينتهي

لقد لعب الشرق بأساطيره ورموزه دَوراً محوريّاً في فكر هسّه، بحيث شكَّلَ رؤيتَه للعالَم من حوله. ولمّا كان الشرقُ بالنسبة إليه ملاذاً روحيّاً وفكريّاً في أوقات الأزمات التي تعترضه، سافَرَ في العام1911 إلى الهند هرباً من الواقع البشع المُحيط به، ومن الأزمات التي بدأت تتوالى على أوروبا مُلقيةً بها في أتون الحرب العالَميّة الأولى.

سافرَ بحثاً عن ذاته وطَلَباً للاستجمام، بحيث أتاحت له هذه الرحلة مُشاهَدةَ التناقض الذي يُسيطر على دول العالَم، وأَثمرت مجموعةً من القصص أهمّها “بيت الأحلام”، ورواية “سدهارتا”. ومن هنا وَجَدَ هسّه في دراسة تراث الشرق القديم والرموز والأساطير ملاذاً وبلسماً وعزاءً روحيّاً وفكريّاً يقيه ويحميه من أزمات الحداثة الأوروبيّة.

فالشرق شكَّلَ فكرَه وجَعَلَه أكثر تأمُّلاً وهدوءاً. كما أعطاه دفعةً روحانيّة بعيداً من لهيب الحضارة الماديّة الأوروبيّة، مُضفياً على قصصه ورواياته المسحة الصوفيّة المُغلَّفة برموز الشرق. فكان هذا الشرق باختصار القوّةَ الدّافعة في رؤية هسّه وأفكاره التي جَعَلتْه مُتفرِّداً في كِتاباته التي حاولت تحقيق التوازن المنشود بين المادّة والروح.

صفوة القول إنّ هسّه عبَّرَ في مؤلّفاته عن أزمات الإنسان المُعاصِر واغترابه، واستطاع باقتدار أن يوجّه أنظارَ البشريّة إلى ما يُعانيه الإنسان من نكباتٍ وأزماتٍ أفقدته روح البراءة. كما كان الشرق برموزه وحضارته الروحيّة حاضراً في رواياته، فعبَّر عنه بروحٍ حضاريّة مثَّلت الخير والجمال، وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من قيَمٍ روحيّة.

د. عماد عبد الرازق: أكاديمي مصري

مؤسسة الفكر العربي

عماد عبد الرازق

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى