فكر وفلسفةمصطلحية ومعجمية

المصرَّح والمسكوت عنه في مفهوم “الأدلوجة” عند “عبد الله العروي”

  • مدخل أولي:

مباشرة بعد سقوط جدار برلين تهافت العديد من المعلقين والكتاب متحدثين عن “نهاية الإيديولوجيا”. أو نهاية الإيديولوجيات، إن أردنا تعبيرا عاما وشاملا ودقيقا. لكن ما الذي يعنيه هذا الأمر؟ وما نعنيه بالضبط بالإيديولوجيا؟ وهل نهاية الإيديولوجيا تعني انتصار الفكر الاقتصادي والسياسي الليبيرالي؟ وهل نهاية الإيديولوجيا فعلا هي إعلان عن هزيمة طرف وانتصار طرف آخر؟ وهل هو أمر متأصل في التاريخ البشري، أم مرتبط بالتطور السياسي لأنظمة وأحزاب بعينها؟ ومن أين يتأتى هذا البرادوكس (التناقض) الغريب.


حيث إن من يستعملون هذا المفهوم هم من يزعمون عدم وجوده؟… أسئلة وأخرى سنحاول تتبعها ونحن نقرأ منجزا أساسيا في تقريب الباحث والقارئ العربي إلى متاريس وتنوع البيئة التي تطور وتبلور فيها هذا المصطلح الشائك، ويتعلق الأمر هنا بكتاب المفكر والمؤرخ المغربي والعربي الأستاذ عبد الله العروي: “مفهوم الإيديولوجيا، الأدلوجة”[1].


إذ اختار أن يعرّب هذا المفهوم ويختار له وزنا قياسيا: “الأدلوجة”؛ حتى يتماشى مع صيغ الإعراب العربي، فنقول “الأدلوجة Idéologie وأدلوجي Idéologique وأدلوجياء (نظرية الأدلوجة) Théorie de l’idéologie، يُضاف إليها مُؤدلج والأدْلَجة…”. ومن زاويتنا ونحن نتبع خيوط تطورها كما يحدده العروي، سنستعين باقتراحه على مدى دراستنا هذه.


ظل إلى حدود بدايات القرن العشرين، اعتبار مصطلح “الأدلوجة” نوعا من الإهانة و”السُبّة”. إذ إن الأطراف المتعارضة تصف بعضها بعضا (الخصم) بالـ”مُؤَدْلجِ”، أي الخاضع لرؤية تنظر إلى الأمور بطريقة غير واقعية، كأن امتلاك أدلوجة معينة يعدّ نقصانا وتنقيصا وانتقاصا من قيمة الأفراد.


حيث تم النظر إليها باعتبارها نقيض الواقع، يقال “عليك أن تكون واقعيا!” و”ليس عليك أن تكون مُؤدلجا!”، وذلك انطلاقا من نظرية أننا إن كنا منغمسين كثيرا في الأفكار les idées فلن نستطيع رؤية الواقع le réel كما هو.


مبدئيا يمكننا أن نعتمد تعريف الأدلوجة باعتبارها نسقا من الأفكار أو تمثلا عاما للعالم، كما يدل هذا المفهوم على مجموع التمثلات الجماعية التي لا تعكس موضوعيا الشروط الواقعية للحياة. لهذا يمكننا أن ننظر إلى مصطلح الأدلوجة بكونه مصطلحا جامعا، كان يتم استعماله، في الغالب، للنقص من قيمة الخصم المنافس سياسيا أو اجتماعيا…

وللغوص عميقا في ما يعتري هذا المفهوم من تناقضات وتعارضات وتضاربات تاريخية وسياسية واجتماعية، سنحاول أن نعالجه تبعا لما تطرق إليه مجموعة من الفلاسفة الغربيين، كما أدرجهم عبد الله العروي في مؤلفه المذكور. أمثال نيتشه وماركس وفرويد وألتوسير وغيرهم…


  • ما الأدلوجة؟:

كم يبدو هذا المفهوم شائكا وعصيا على الإمساك رغم أننا نستطيع تتبع أصوله، وصولا عند أول من صاغه ونحته، ويتعلق الأمر بالفيلسوف الفرنسي ديستوت دو تراسي Destutt de Tracy (1754- 1836 م.) في كتابه “عناصر الإيديولوجيا”، إذ أراد به الدلالة عن علم دراسة صحة وخطأ الأفكار وكيفية عملها في العقل البشري.


وتاريخيا يعد نابليون بونابارت أول من جعل منه وصفا تحقيريا، وذلك حينما يقول بأن “الأدلوجيون” هم بعيدون كل البعد عن الواقع، مقللا من قيمة خصومه السياسيين الذين نعتهم بذلك. وسيظل المصطلح كما هو عليه مع نابليون، إلى حدود كارل ماركس.


هذا الأخير الذي سيستعمله لتمييز ووصف الأفكار والتمثلات الوهمية والعكسية التي يقوم بها الناس في حق ظروفهم الاجتماعية والسياسية. وإن “ماركس، كما يقول العروي، هو الذي أعطى لكلمة أدلوجة الأهمية التي تكتسيها اليوم في كل ميادين البحث”[2].


وهذا المفهوم ليس مفهوما عاديا يعبّر عن واقع ملموس فيوصف وصفا شافيا، وليس مفهوما متولدا عن بديهيات فيحد حدا مجردا. وإنما هو مفهوم اجتماعي تاريخي، وبالتالي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عديدة[3].


وإن يبقى أبسط تعريف متاح للأدلوجة يتمثل في كونها هي مجموعة من المُعتقدات والأفكار التي تؤثر على نظرتنا لـلعالم، أي تلك الشبكة المعقدة من التمثلات المكتسبة التي بفعلها نستطيع فَهم العالم… ما يجعلها قابلة للتغير والتبدل.


ومن جهة محايدة، فقد ذهب أنتوني جيدنز في تعريفه للأدلوجة أنها مجموعة من الأفكار والمعتقدات المشتركة، التي تعمل على تبرير مصالح الجماعات المهيمنة. وتوجد الأدلوجات في كافة المجتمعات، التي توجد بها نظم راسخة لعدم المساواة بين الجماعات. ويرتبط مفهوم الأدلوجة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم القوة؛ لأن النظم الأدلوجية تعمل على إضفاء المشروعية على تباين القوة، التي تحوزها الجماعات الاجتماعية.


ويبقى القول بأن كلمة الأدلوجة (الإيديولوجيا) دخيلة على جميع اللغات الحية، تعني لغويا، في أصلها الفرنسي، علم الأفكار، لكنها لم تحتفظ بالمعنى اللغوي، كما يقول العروي، إذ استعارها الألمان وضمنوها معنى آخر، ثم رجعت إلى الفرنسية، فأصبحت دخيلة حتى في لغتها الأصلية[4].


إذ غدت بشكل من الأشكال تعني مجموعة من أفكار تنظر إلى نفسها على أنها تطابق الواقع فيتم على أساسها خلق نسق معين يتبعه المنتمون إليها لتأويل الواقع والنظر إليه طبقا لها.


نقول إن فلان ينظر إلى الأشياء نظرة أدلوجية، نعني أنه يختبر الأشياء ويؤول الواقع بكيفية تظهرها دائماً مطابقة لما يعتقده الحق[5]. يمكن النظر بالتالي إلى الأدلوجة على أنها القناع وأيضا التفكير الوهمي[6] illusoire إذ تمّ استعمالها في تحليل قضايا المجتمع، فهي تعد ذات طبيعة نسبية، من حيث إنها صحيحة بالنسبة لحاملها وخاطئة بالنسبة لغيره. ما يجعل منها وعيا زائفا للذات، على حد تعبير ماركس، الذي سنعود إليه لاحقا.


  • مجالات الأدلوجة:

في مؤلفه، الذي نحن بصدد قراءته، والمكوّن من سبعة فصول (تمهيد، عهد ما قبل الأدلوجة، الأدلوجة/ قناع، الأدلوجة/ نظرة كونية، الأدلوجة/ علم الظواهر، استعمال مفهوم الأدلوجة في الغرب المعاصر، استعمال مفهوم الأدلوجة في العالم العربي)؛

يناقش عبد الله العروي تمثلات الأدلوجة بالنسبة لمجموعة من الفلاسفة الغربيين (ماركس، نيتشه، فرويد، ألتوسير، لوكاش، مانهايم، هيغل، فيبر…)، بالإضافة للرؤية العربية المتمثلة في الكتاب الضخم الذي نشره نديم البيطار سنة 1964 تحت عنوان “الإيديولوجية الانقلابية”.

وكذلك الكتاب الذي نشره العروي نفسه سنة 1967 تحت عنوان “الإيديولوجية العربية المعاصرة”… مبينا المجالات التي تعمل وتتأسس فيها الأدلوجة. إذ يسرح لنا صاحب الكتاب بأن للأدلوجة أربع مجلات الاستعمال، حيث إن كل استعمال لمفهوم الأدلوجة مرتبط بمجال وبعلة وبوظيفة يقود حتماً إلى نظرية ويخلق نوعا من التفكير[7].

ويذكر العروي المجالات الأربع على أنها مرتبطة بالسياسة وبالمجتمع وبالكائن ومن ثم بالمشترك بين المجالات السابقة.

أولا، الأدلوجة في ميدان المناظرة السياسية: تكتسي صبغة نسبية، إذ تعدّ سلبية أو إيجابية حسب هوية المستعمل. حيث إن أدلوجة المتكلمة تنير الطريق فتهدي الخلق إلى دنيا الحق والعدل بينما تعمي أدلوجة الخصم الناس على سبيل الحقيقة والسعادة[8].

وبالتالي تعد قناعا من الناحية الوظيفية. وتغلب عليها المصلحة، ولا يحكم عليها الدارس من زاوية الحق والباطل، وإنما يصفها فقط بالنظر إلى فعاليتها.

ثانيا، المجتمع في دور من أدوار التاريخية: بمعنى أنّنا ننظر إلى المجتمع، في هذه الحالة، باعتباره كيانًا واحدًا، يتّفق جميعُ أفراده في الولاء لقيمٍ اجتماعيّةٍ مشتركة، ويستعملون منطقًا واحدًا لفهم والتعامل مع الواقع إذ تحدد الأدلوجة أفكار وأعمال الأفراد والجماعات بكيفية خفية لاواعية.

ويقدم لنا عبد الله العروي مثالا، حيث يقول بأنه لو درسنا مثلًا إيديولوجيّةَ الخوارج في المجتمع الخارجيّ، فسنبحث في إيديولوجيّة ذلك العصر التي تحكّمتْ في أذهان الخوارج وأذهان أعدائهم، وجعلتهم يهتمّون بمشكلاتٍ محدّدة وأسئلةٍ معيّنة. هنا سيتمّ استخراجُ أدلوجة الخوارج بتأويل أعمالهم السياسيّة والأدبيّة وفهمها.


ثالثا، مجال الكائن: أي كائن الإنسان المتعامل مع محيطه الطبيعي، والبحث فيه هو من قبيل نظرية الكائن. وهنا أيضًا يمكن اعتبارُ هذه الوظيفة علميّة ومهمّة جدًّا، ولا يمكن اعتبارُها سلبيّةً بالمعنى الشائع للأدلوجة.

رابعا، المجال المشترك بين المجالات الثلاثة السابقة: ويتحقق عندما ندرس تأثير أية أدلوجة على الفكر فإننا نبحث في الحدود الموضوعية التي ترسم أفق ذلك الفكر. والحدود من أنواع ثلاثة: حدود الانتماء إلى أدلوجة سياسية وحدود الدور التاريخي الذي يمر به المجتمع ككل وحدود الإنسان في محيطه الطبيعي.

وبالتالي تتخذ الأدلوجة لنفسها حضورا مزدوجا في نفس الوقت، وصفي ونقدي. فتتطلّب إذن، مستوييْن بحثيّيْن: مستوى وصفيا، يصف فيه الباحثُ، بدقّةٍ وأمانةٍ، الأدلوجة كما تصف نفسَها؛ ومستوى نقديا، يدرس فيه الباحثُ الأدلوجة لا من حيث وصفُها الواقعَ على وجهه الصحيح، بل من حيث إنّها تعكس تصوّراتِها هي عنه.

وتتميز الأدلوجة بأنها غير ثابتة ثباتاً مطلقاً، وإنما تتمتع بخاصية الدينامية؛ لأنها تشهد عمليات نمو وتحول وربما اختفاء وظهور جديدة. لكن إذ استعملنا كلمة أدلوجة في الميدان السياسي فإننا نعني بالضرورة أن الأدلوجة تكشف الواقع لنا وتحجبه عن غيرنا.

وهنا تكمن ازدواجيتها. وكلما فكرنا في الأدلوجة، فإننا نفكر أساسا في واقع ما وحقيقة ما. ولا نحكم على الأدلوجة بأنها أدلوجة إلا بالنسبة لذلك الواقع وتلك الحقيقة. وعلى هذه الازدواجية سيتتبع العروي تطرقه إلى الأدلوجة عند مجموعة من الفلاسفة والمفكرين.


  • في “ما قبل الأدلوجة”:

ينتقل عبد الله العروي في الفصل الثاني من كتابه، إلى الفصل بين عصر ما قبل الأدلوجة وعصر الأدلوجة. وإذا كانت ترتبط الأدلوجة بالقرن الثامن عشر وما شاع فيه من رؤى نقدية لم يكن لها أي ظهور في العصور السابقة عليه، فإنه لم تكن تلك العصور بحاجة إلى أدلوجة حيث كانت تفسر الأخطاء إما بسبب خلل في العقل أو بسبب تدخل مصادر خارجية، وهذا ما كان عليه العصر اليوناني وما تلاه من العصور التي ورثت التفكير الأفلاطوني.

حيث إنه إذ اختلف شخصان في شأن حادثة وكان أحدهما صحيح العقل كامل الحس فلا يخلو أن يكون الآخر إما مريضا إما مستعبداً. لا وجود في هذه النظرة للازدواجية في المفاهيم وللإبهام في الأشياء. […] وإذ انتفت هذه العلة، أي إذا كان المرء سليم الحس والعقل ومع ذلك يرفض لحق بإصرار، كيف نبرر سلوكه؟ لم يبق في هذه الحالة إلا افتراض الغواية (أي أن قوة خارجية قاهرة تتعمد تغليطه). […] ومن الواضح أن فكرا كهذا لا يحتاج إلى مفهوم الأدلوجة[9]، كما يخبرنا صاحب الكتاب.

في جهة أخرى، وبحثا عن مصطلح يقابل الأدلوجة، وخاصة في العلوم الإسلامية، نجد كما يذهب إلى ذلك الأستاذ عبد الله العروي، لفظة لعبت دورا محورياً كالدور الذي تلعبه اليوم كلمة أدلوجة، وهي لفظة “الدعوة” في الاستعمال الباطني، غير أنه من المستحيل إحياؤها واستعاضة عن كلمة إيديولوجيا التي انتشرت رغم عدم مطابقتها لأي وزن عربي[10].

وقد جرب المجتمع الإسلامي مفارقة الفكر للواقع عندما ظهرت الفِرق وأوّلت حقيقة واحدة مبثوثة في كتاب منزل تأويلات متضاربة. لهذا يستحضر العروي عند هذا المستوى الفقيه والعالم الإسلامي أبو حامد الغزالي، انطلاقا من كتابه المشهور “فضائح الباطنية”.

حيث يكرر الغزالي من فصل إلى فصل أن الباعث على اعتناق الدعوة الباطنية هو دافع نفسي سابق لكل تدبر، دافع يرجع إلى عداوة مستحكمة ضد الدين الإسلامي.

بل يذهب إلى أبعد من ذلك ويرى أن الأمر لا ينحصر في قضية الاعتقاد، بل يتعلق بمؤامرة كونية تهدف إلى محو الحق وتثبيت الباطل[11]. وهنا يقترب من الصراع المذهبي الذي يكاد يكون صراعا أدلوجيا، حيث كل جهة ترى في فهمها للواقع الصحة والصواب، أما رؤية الخصم فهي يعمها الخطأ والوهم.


وهكذا، كما يذهب العروي، رغم وجود ملاحظات قيمة عند الغزالي حول أسباب التعصب الفكري، ملاحظات تفوق ما وجدنا عند الفلاسفة الأفلاطونيين، وإن كان الغزالي قد تجاوز الحكم على الأفكار في إطار الصواب والخطأ وإطار الفضيلة والرذيلة، رغم كل هذا فإنه لم يصل إلى تمثل مفهوم الأدلوجة بسبب فرضية الشيطان التي تمده بتفسير جاهز للاعوجاج الفكري[12].

فنجده (أي الغزالي) يطالب بتدخل السلطان لإيقاف الباطني عند حده، وإعمال البرهان حتى يقي المرء السليم من السقوط في وهق الدعوات الباطلة أما من سقط فلن يفيد فيه سوى وازع القوة.

أما في عصر الأنوار، فقد برزت الأدلوجة في التناقض الذي حصل على إثر الصراع بين الكنيسة وفلاسفة الأنوار، الذين كرسوا مفهوما “إيجابيا للعلم”. إذ يرى الفلاسفة في الكنيسة سلطة ظلمانية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور المعرفة والحرية حباً في الاستبداد وتعلقا بالسيطرة.

وترى الكنيسة في الفلسفة ثورة شهوانية على التربية الأخلاقية التي تكبح جماع النفس. وهذا ما مهد لظهور مفهوم الأدلوجة، حيث خرج الصراع عن الشيطنة واستحضار عامل خارج الصراع الفكري القائم بين الخصمين المتنازعين “أدلوجيا”. إذ بدأت بوادر التفكير بحرية، يقول دولباخ “إن التفكير بحرية معناه التحلل من الأحكام المسبقة التي يعتقد الطغيان أنها لازمة لحمايته ودعمه”.

وفي تلك الفترة وضع فرانسيس بيكون، أحد مؤسسي المنهج التجريبي، سؤالا منطقيا وسار كوندياك على أثر باعتناق تجريبية حسيّة صرفة. لكنه لم يلبث أن حوّر السؤال الأصلي: كيف نفكر تفكيرا سليما؟ إلى سؤال آخر: كيف نفكر؟ يبقى السؤال الأول في نطاق المنطق، أما الثاني فإنه يفتح الباب للبحث عن جمع المؤثرات في الفكر: الطبيعة الحسية والإنسانية الثقافية[13].

وإن هذا السؤال يستدعي البحث في المجال الذي حدده دو تراسي (واضع مصطلح الإيديولوجيا وتلميذُ كوندياك) فيقول: “يمكن أن نسمي العلم المقترح الأيديولوجيا إذا نظرنا إلى محتواه ونحوا عاما إذا نظرنا إلى وسيلته ومنطقا إذا نظرنا إلى هدفه”.[14]


يقودنا الحديث -في استحضار هذه المحطات الثلاثية- إلى استخلاص أن مفهوم الأدلوجة مرتبط ارتباطاً عضوياً بمفهومي المجتمع والتاريخ. الذي ظل ينقص تلك الرؤى جميعها. وإن مفهوم الأدلوجة لا ينتعش، كما يخبرنا العروي، ويتبلور إلا في نطاق نظرية اجتماعية ونظرية تاريخية متكاملتين.


  • ماركس، الأدلوجة والوهم:

إن رأت فلسفة الأنوار أن الظروف[15] تؤثر في الفكر وتجعله يرى الأشياء طبقاً لمنطقها هي، لا طبقا لمنطق الأشياء. فهي بالتالي حاجب، قناع، يمنع المرء من الوصول إلى “نور الحقيقة”[16]. فالأمر يتعلق بالنسبة لكارل ماركس، بفهم الميكانيزمات الاجتماعية والتاريخية، التي تقود إلى إنتاج وعي الكائن البشري، وخاصة، الوعي الواهم.

إذ لم يأخذ ماركس المفهوم مباشرة من فلاسفة الأنوار رغم تشبعه بتعاليمهم وإعجابه باتجاهاتهم. استعار المفهوم الرائج في الأواسط الاشتراكية الباريسية حيث عادت الأدلوجة تعني التفكير غير العقلاني، غير النقدي، الموروث في عهد الاستبداد. وقد تشبعت رغم ذلك، رؤيته تجاه هذا المفهوم بالفلسفة الألمانية، بحكم انتمائه لها.

أعطى ماركس لكلمة الأدلوجة أهمية كبيرة، إذ استعملها في معان مختلفة ومنا النظرية المتعلقة بالأدلوجة كوهم. وإن تأثر بفلاسفة الأنوار في تعاطيه مع هذا المفهوم إلا إنه كان وارثاً للفلسفة الألمانية والهيغلية خاصة. فماركس يثبت حقيقة الواقع بنقد أوهام الغير.

فنقده مضعّف، ينقد أقوالاً كانت ذاتها نقداً لأقوال أخرى. فيلاحظ ماركس أن المقالة المادية التي ترى أن الإنسان وليد الظروف والتربية، وبالتالي إن الإنسان يتغير بتغير الأوضاع وتجديد التربية، تنسى أن الإنسان هو الذي يغير الأوضاع وأن المربي نفسه محتاج إلى التربية.

فلا يجب أن ننقد الظروف القائمة بل يجب أن نحلل كيف تكونت تلك الظروف. ويذهب ماركس مذهبا في نقده للفكر الألماني إلى اعتباره أدلوجي، لأنه محدد أولا بكونه قومياً لأنه يحصر رؤيته في ألمانيا، وثنيا لكونه اجتماعياً إذ يعتبر فلسفة الأنوار حقيقة مطلق.

وهنا يختلف كلية مع فلاسفة الأنوار في تعاطيهم مع “الظروف” كمحددات للفكر والأدلوجة وكيفية التعامل معها، كما يختلف مع فلاسفة ألمانيا لكونهم في رأيه ظلوا حبيسي مشروع أدلوجي. وما منع الفكر الألماني من القفز على هذين الحاجزين جهله بحقيقة التاريخ كحركة ناتجة عن تناقض قاعدي[17].

وترى الماركسية في الأدلوجة على أنها كلها طبقية، تخدم المصلحة الطبقية، ولا تطلق الماركسية على نفسها هذه الصفة، لأنها تدعى أن البروليتارية طبقة كونية تمثل انحلال كل الطبقات فيها. وليست المصلحة هي سبب التيه عن الواقع بل الجهل بالحركة التاريخية. ويستعمل ماركس كلمة مصلحة في معنى خاص. لا يعني بها مصلحة فرد، بل يعبر بها عن قوى كامنة، في بنية العلاقات الإنتاجية حسب تعبير لاحق تكشفه الممارسة (البراكسيس).

يعني ماركس بمصلحة “الطبقة”: الطبقة التي تعمل غالبا في ذهن الفرد بدون وعي منه وتقوده أحيانا إلى أعمال تعاكس مصلحته الآنية. وإن مادية القرن الثامن عشر هي التي كانت تضخم دور الدوافع النفسانية والمصالح الفردية. أما المادية التاريخية فإنها ترى مصلحة الطبقة كقانون يتحكم من الخارج في النفس الفردية[18].

نجد ماركس يقول: “إن القوة الاجتماعية، أي القوة المنتجة المتعاظمة التي تنبثق بفضل نشاط مختلف الأفراد المشترك الذي يشترطه تقسيم العمل، – إن هذه القوة الاجتماعية تبدو لهؤلاء الأفراد، بحكم أن النشاط المشترك نفسه ينبثق عفوياً وليس طوعاً واختياراً، لا كقوة موحدة خاصة بهم، بل كسلطة ما غريبة قائمة خارجاً عنهم، لا يعرفون شيئاً عن أصلها، وعن اتجاهات تطورها؛ فلا يبقى في وسعهم،

بالتالي، أن يسودوا على هذه القوة، بل بالعكس، فإن هذه القوة تمر الآن بجملة من مراحل ودرجات خاصة بها في تطورها، لا تتوقف على إرادة الناس وسلوكهم، وليس هذا وحسب، بل بالعكس، توجه هذه الإرادة وهذا السلوك”[19].


ونقطة البدء لفهم هذا المعطى تتعلق بما يسميه ماركس بالإنتاج المادي، أي ما ينتجه الإنسان للعيش في كنف الطبيعة، وما يعكس في نظره، توزيعا للعمل، ويتحدث في كتابه المشترك مع انجليز “الإيديولوجيا الألمانية”، عن سلسلة من الافتراضات التي هي بالنسبة لنا، بعد قرن من العلوم الاجتماعية، تبدو اليوم بديهية:

 أولا، وجود تلك الفكرة الأساسية حيث إن التاريخ الإنساني يتضمن وجود الكائن الحي المنغمس في محيطه الطبيعي.

ثانيا، يجب أن نعي بأن الإنسان لا يتميز عن الحيوان ليس فقط عبر مميزات بديهية كالثقافة والدين والسياسية… لكن أساسا بظاهرة هي أصل كل ما سبق، وتتعلق هذه الظاهرة بكون الكائنات البشرية تنتج شروط وجودها الخالص. إذ ينتجون أدوات تطوّع الطبيعة وينظمون العمل في ما بينهم، ويشيّدون العالم الذي يعيشون فيه.

ثالثا، يضيف ماركس أن إنتاج الحياة المادية للإنسان يجب أيضا أن يتم إعادة إنتاجه في الزمن، وأيضا صياغة التاريخ والثقافة.

رابعا، هذه المنتوجات تتضمن علاقة الناس في ما بيهم، أي وضع علاقات فردانية بين الناس وعبرها يتبادلون المنافع والأفكار.

وهكذا ينطر إلى الفرد على أنه كائن لا يقوم بالإنتاج منعزلا، ولا يمكنه أن يقوم بذلك بشكل معزول عن الآخرين، فهو يحيا في مجتمعات وضمن طبقات، حيث إنه لا يوجد بالنسبة إليه الواقع إلا في ما يقيمه من علاقات اجتماعية والتي هو جزء لا يتجزأ منها. وفي كتابها المشترك يقترح ماركس وانجليز رؤية جديدة للتاريخ، لأنه عبر التاريخ نظم الإنسان حياته المادية وقام بتوزيع وتقسيم العمل.

حيث إن كل شيء يعتمد على الحياة المادية (إنتاج السلع، والحياة الاقتصادية…)، أي على الحياة الملموسة وليس على الأفكار… إذ ليست الأفكار والتمثلات هي التي تصنع الحياة، لكن العكس هو الصحيح، ونحن نكون في صلب الأدلوجة إن آمنا بالعكس.

ومنه فإن الأدلوجة في الاستعمال الماركسي، تعد منظومة تعكس بنية النظام الاجتماعي، كما يخبرنا العروي[20]. فينظر إلى الأدلوجة انطلاقا من البنية الباطنية للمجتمع الإنساني الذي يتميز بإنتاج وسائل استمراريته.

بالتالي يمكننا أن نخلص إلى كون الأدلوجة هي بمثابة لغة وتمثل لوعي الناس، الذي يترجم واقعهم، لكن بالشكل المعكوس، في الأدلوجة الماركسية الناس -وعلاقاتهم- ينظر إليهم كأن الكل يمشي ورأسه للأسف كما هو الحال في “القمرة المعتمة” (الكاميرة)، وهذا ما يتم فهمه انطلاقا من سيرورة حياتهم التاريخية.


  • نيتشه وغل المستضعفين:

استعمل نيتشه الأدلوجة من حيث إنها مجموع الأوهام والتعليلات والحيل التي يعاكس بها الإنسان/ الضحية قانون الحياة. فيُنظر إلى الأدلوجة (إذن) انطلاقا من الحياة كظاهرة عامة تفصل عالم الجماد عن عالم الأحياء. وذلك باعتبار أن العقل (في التصور النيتشوي) عاجز عن خلق أية قيمة إذا لم يرتبط بالحياة[21].

فمن يعادي الحياة، بالنسبة لنيتشه، يلجأ إلى قيم زائفة ووهمية. ويعتبر نيتشه أن كل ما أنتجه الإنيان من معارف وحقائق عبارة عن أوهام نسينا أنها كذلك لأنها لا تنتج بفعل سوء استخدام العقل بل إنها ناتجة عن رغبة لا شعورية في حفظ البقاء فكثيرا ما تقدم الأوهام نفسها على أنها حقائق وهي تصدر عن شيئين:

أولا، العقل الذي كما قلنا يظل عاجزا إذا لم يرتبط بالحياة، ولا يتم استخدام العقل لاكتشاف الحقيقة بقدر ما يوظف للإخفاء والتظليل خاصة حين يكون في الكشف عن الحقيقة خطرا يهدد حياة الإنسان.

لذا يلجأ العقل إلى الكذب والوهم ويغلفها بقالب منطقي صارم يخفي الوظيفة الأساسية على مستوى الصراع الاجتماعي الذي يقتضي أن تقوم فئة الضعفاء بإنتاج سلسلة من الأفكار والمعارف التي تشوه الأوهام وذلك بغاية الاحتماء من بطش الأقوياء.

ثانيا، اللغة؛ إذ يبحث نيتشه عن اشتقاق الكلمات المستعملة في القاموس الأخلاقي، فيكشف أن الصالح يعني في مبادئ اللغات القوي النبيل وأن الفاسد يعني الضعيف المغلوب العامي[22].

ويخلص هذا الفيلسوف في كتابه “جينيالوجيا الأخلاق” إلى أن الوعي بالعالم الخارجي وبالذات يتم التعبير عنه عبر الخطاب. والخطاب لا يكون مطابقا للواقع نظرا لأن اللغة هي عبارة عن تشبيهات واستعارات وضعها الفكر ولا تكون وسيلة للكشف،

بل هي فقط وسيلة يستعمله المستضعفون من الناس للتعبير عن القيم والعقائد الوهمية التي يحتمون بها من اعتداء الأقوياء،

وذلك في لغة شعرية خطابية جذابة. ويشير نيتشه إلى أن التخلص من الوهم أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا على عكس الخطأ الذي يمكن تصحيحه لأن ينتج عن سوء استخدام العقل، بينما الوهم فهو موضوع رغبة وهذا هو السبب الذي يجعل الإنسان يتشبث به ويعتبره حقيقة. ومن جهة أخرى لا يمكن التخلص من الأوهام لأنها بحسب صاحب “هذا هو الإنسان”، عبارة عن أوهام نافعة ينظر إلى أنها أثبتت فعاليتها في مملكة الصراع من أجل البقاء.

وبالتالي فنيتشه يتخذ سبيلا مختلفا تماما في تعاطيه مع مفهوم الأدلوجة، خلافا لما ذهبت إليه الماركسية، حيث يرى ماركس أن هناك علاقة وطيدة، كما سبق وتطرقنا لذلك، بين الوعي كأفكار وتمثلات وأدولجة من جهة، والحياة المادية الاجتماعية من جهة أخرى. ويذهب إلى أن الحياة المادية هي التي تحدد الوعي وليس العكس.

غير أن الأدلوجة في نظره تقلب الواقع ولا تقدم صورة حقيقية عنه. بل إن الاشتراكية، كما يخبرنا الأستاذ عبد الله العروي، في نظر نيتشه ما هي إلا صورة أخرى من صور غل وحسد الضعفاء. لذلك نراه يرسم مهمة الإنسانية المعاصرة في إحياء روح الأسياد الذين يسمعون لصوت الطبيعة متجاوزين مفهومي الفضيلة والرذيلة.

تقوم النظرية النيتشوية إذن على أن الأوهام الإنسانية تبرز ذاتها اعتمادا على البيولوجيا والاشتقاق اللغوي والتاريخي الوقائعي، وهي أدلوجة مبنية على نقد الأدلوجات. وعموما فالأدلوجة عند ماركس قناع يخفي قانون تقدم التاريخ، وعند نيتشه ستار يُبعد عن الحياة[23].

ومن بين أهم الفلاسفة المعاصرين الذين تطرقوا للأدلوجة ووظائفها، نجد فيلسوفا معاصرا، لم يتناوله عبد الله العروي في كتابه، وإن يتقاطع بشكل كبير مع النظرية النيتشوية ويختلف وإياه من حيث أهمية صفة الوهم كوظيفة للأدلوجة، حيث يميز الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بين ثلاث وظائف للأدلوجة، وتشتغل هذه الوظائف بمستويات مختلفة، بواسطة آليات التشويه والتبرير والإدماج.

الآلية الأولى تعتمد تشويه الواقع، إذ تعمل الأدلوجات على إنتاج صورة معكوسة عن الواقع، أما الآلية الثانية وهي التبرير، فتعمل الطبقة المسيطرة عبره على إعطاء مبررات لأفكارها، وإضفاء المشروعية على مخططاتها ومشاريعها.

واتضحت للعالم هذه الآلية من خلال تجربة السلطة التوتاليتارية[24]. وبالنسبة لبول ريكور إن ظاهرة السيطرة السياسية، عندما تتغذى بالرعب، تكون ظاهرة أشمل وأكثر إثارة للخوف من ظاهرة الصراع الطبقي… أما الآلية الثالثة، فهي متعلقة بوظيفة الإدماج، أي إدماج الأفراد في هوية الجماعية، حيث يتم الاحتفال بالأحداث المؤسسة لهذه الهوية ومحاولة ترسيخها لدى الأفراد، وتكوين بنية رمزية للذاكرة الجماعية.

يخلص بور ريكور إلى استنتاج قائل بأن وظيفة الإدماج هي أهم وظيفة تقوم بها الأدلوجة، لأنها تتضمن في طياتها الوظيفتين السابقتين، أي التبرير والتشويه، إذ يقول بأنه يجب علينا أن ندعم بقوة، الفكرة القائلة، ليس عنصر الوهم أكثر الظواهر أهمية في عمل الإيديولوجيا، بل هو فقط تشويه وفساد يصب في عملية التبرير، هذه العملية التي تتجذر داخل الوظيفة الإدماجية للإيديولوجيا[25].


  • فرويد ومنطق الرغبة:

وبالمقابل نعثر على روح النظرية النيتشوية في فلسفة العالم النفساني الشهير سيغموند فرويد، إذ نجد عبارات نظن أول الأمر أنه نقلها عن نيتشه، نقرأ مثلا: “علينا نحن بني الإنسان ألا نهمل الحيواني في طبعنا”[26]. لا غرابة في ذلك إذا تذكرنا أن نيتشه كان يعتقد أن الإنسان يحتاج إلى أطباء أكثر مما يحتاج إلى فلاسفة[27].

يعمل فرويد في تحليله النفسي كحفار يبحث عن المسي تحت التربة/ الوعي الإنساني، يحفر السطح لبلوغ العمق/ الأحقاب المنسية، لبلغ درجات اللاوعي الذي لم يسبق سبر أغوار طبقاته الدفينة. إذ يرى فرويد بأنه ولأن التاريخ الحضاري أو الواعي للإنسان، قصير جدا بالنسبة إلى ماضي الحياة، فإن الدوافع المكبوتة لم تغرق في بحر النسيان.

ويلعب الماضي في التحليل النفسي (عند فرويد) دورًا أساسيًّا، لا لأنه يخلق الحاضر فحسب، بل لأنه مصدر لكل محتويات الوعي والشعور. ونجد لديه مبدأ أساسيا مفاده أن الماضي حاضر في الحاضر، ونجد نفس المبدأ عند كل من ماركس ونيتشه، لكن بكيفية مختلفة. فالتحليل النفسي الفرويدي يرى بأن كل ما يبدو لنا صغيرا وتافها، قد يكون له دور كبير في بناء بنية اللاوعي واللاشعور، بل قد يكون له دور فعال في العلاج النفسي، بما في ذلك حالات الهيستيريا.

ويدخل في هذه الأمور التي تبدو “الصغيرة والتافهة”، ما راكمه من داخل ما يسميه بـ”نفسانية جموعية مشتركة”. يقول فرويد: “يشارك كل فرد الآخرين في مجموعات متعددة: الجنس، الطبقة، الدين، الشغل… وبعد كل هذا فقط يكتسب، إنّ هو يكتسب، ميزة يستقل بها”، ويمضي قائلا: “إننا نستطيع أن نحدد متى انفصلت النفسانية الفردية عن النفسانية الجموعية collective، متى استقل الفرد نسبيا عن الحشد”[28].

فيبدو أن الفرد يتأثر بشكل كبير بالحشد الذي ينتمي إليه، بل الحشود التي ينتمي إليها على اختلاف المجالات التي يتلاقى وإياها.

وعندما يكون الفرد في حشد فإن نفسه تكون مسرحا لعمليتين: أولا، التماهي مع الآخرين لأن الكل قلق بنفس القدر. وينتج عن التماهي التآخي والشعو بالقوة والتغلب على الوحدة والخوف والقلق. ثانيا، تشخيص الأنا-الأعلى في القائد. وينتج عن هذه العملية رضوخ إرادي وتخلّ عن قيود العقل وإطراح أعباء المسؤولية[29].

بالتالي فالأدلوجة تحضر عند فرويد باعتبارها مجموع الفكرات الناتجة عن التعاقل الذي يبرر السلوك المعاكس لقانون اللذة الضروري لبناء الحضارة. فينظر إلى الأدلوجة انطلاقا من اللذة وهي ميزة الحيوان وبالتالي ميزة الإنسان الأول. ما يسمح بالقول إن الأفكار (حسب فرويد) أوهام تخدعنا بها الرغبة الإنسانية لتصل إلى هدفها. وتعرية الأوهام من صبغة الحق التي يلصقها بها العقل المخدوع وهي واجب العلم في رأي فرويد.


  • الأدلوجة المعاصرة بين الغرب والعرب:

يستحضر الأستاذ عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الإيديولوجيا، الأدلوجة”، فلاسفة ومفكرين غربيين معاصرين[30] كان له دور كبير في تحديد آليات عمل الأدلوجة وتفسيرها. إذ يرى عالم الاجتماع كارل مانهايم أن المجتمع السياسي ميدان للدعوة من أجل المصالح وليس مديانا للحق، ولكي تكتسب أي أدلوجة أتباعا لا بد أن تنظر إلى نفسها باعتبارها حقيقة مطلقة وأن تعتبر المنافسين لها يمارسون التزوير والخداع ومن هنا فإن الماركسية أدلوجة الطبقة البروليتارية،

ويعتقد مانهايم أن مفهوم الأدلوجة يقترب كثيرا من مفهوم الطوباوية إلا أنّ الأول يتعلق بوضع تم تجاوزه بينما مفهوم الطوباوية يمكن تحديده باعتباره يتعلق بوضع مستبعد التحقق.

وصحيح أن نظرية النقد الإيديولوجي (عند مانهايم) ليست بعيدة تمام العد عن سوسيولوجية المعرفة. إلا أنها تظل في نزر مانهايم متميزة عنها أشد التميّز. يقول: “يرتبط علم اجتماع المعرفة ارتباطا وثيقا بالنظرية الإيديولوجية ولطنه يتميّز بكل وضوح عنها، تلك النظرية التي ظهرت وتطورت في عصرنا الحاضر”[31].

بينما نجد لدى لويس ألتوسير موقف مغاير، حيث ينتقد ألتوسير أطروحة ماركس التي تربط الأدلوجة بالوعي، ويعتبرها على العكس من ذلك صورا وموضوعات ثقافية تفرض نفسها على الناس كبنيات لاواعية.

والأدلوجة في نظره لا تعبر عن العلاقة الحقيقية للناس بظروف عيشهم، بل تعبر عن تأويلات وقراءات فكرية تصور عالما ممكنا ووهميا أكثر مما تصف واقعا فعليا وحقيقيا. وبالتالي فإن الأدلوجة هي بنية[32] لاواعية، إنها صور وخيالات ناتجة عن عمليات ودوافع لاواعية.

وكما رأينا أن ماركس كان يرى، اعتماداً على مَثَل الاقتصاد السياسي أن العلم يكتسب بنقد الأدلوجة. أما ألتوسير فإنه فصل العلم عن الأدلوجة وجعل لكل منهما أصلا خاصا وميدانا متميزا.

إن العلم دائما في متناول الذهن البشري بشرط أن يخضع لحركة الموضوع. والأدلوجة ملازمة للإنسان لأنه يتوهم أنه حر ووهم الحرية شرط تكوين المجتمع كهيئة موضوعية مستقلة عن إرادات الأفراد. إن الأدلوجة المواكبة للوجود الإنساني تحجب العلم عن الإنسان، لكنها عاجزة عن نفي العلم الذي هو ملتصق بالموضوع[33].

ويختار عبد الله العروي في مؤلفه المذكور من بين الكتابات المعاصرة التي استعملت مفهوم الأدلوجة  كتاب “الإنسان الأحادي” للفيلسوف هاربرت ماركوزه لاعتبارات عدة منها أنه لم يقف موقفا فلسفيا متحجرا رغم تكوينه الفلسفي، ولأنه يركز البحث حول أدلوجة المجتمع الصناعي المتقدم، وكذلك لأنه لا يقدم تحديدا مجردا للأدلوجة بل يستعمل المفهوم بكيفية عملية لدراسة ذهنية المجتمع الصناعي المتقدم[34]،

ويلاحظ أن العقلية التي تمكن المجتمع الصناعي الغربي من الاستمرار في التطور حسب قوانينه الضمنية تتمثل في التخلص من كل ما يعارض تلك القوانين وهي تتجسد أساسا في وسائل فكرية سلوكية تنظيمية خلقية، ويعتقد أن عقلية المجتمع الصناعي تتميز بالصبغة العملية الأداتية آلتسييرية، واللغة المتداولة تمثل خير دليل على ذلك سواء في البحث العلمي، أو في الإشهارات الدعائية، أو في التعبير الأدبي..  حيث تصف تلك اللغة السلوك والحركة والعمل ولا تشير أبدا إلى الجوهر أو الحالة الدائمة،

إنها تستبدل الجمل الإسمية بجمل فعلية، والماضي بصيغة الأمر ومضارع الحال بمستقبله؛ فهي مثلا لا تقول للمرأة: الجمال جذاب، بل تقول لها: خذي مسحوق كذا وكذا لجذب الرجال، ولا تقول للعامل العمل متعب بل تقول له: اشرب كل صباح كأسا من المشروب الفولاني لكي لا تشعر بالتعب .

ويرى ماركوزه أن هذه اللغة تملأ الذهن بالصور وتعرقل نمو المفاهيم العقلية وقدرة الإنسان على التعبير عنها ، وهي تجعل الأشياء تفقد هويتها لتصبح أدوات وكذلك يصبح الأنسانُ بين تكل الأدوات  مجردَ أداة أخرى، وهذه النظرة تعم المجتمع الغربي بعدوتيه الشرقية والغربية، ويعتقد أن إنقاذ المجتمعات الغربية المعاصرة من هذه الحالة لا زال ممكنا ويتمثل في استعادة الفلسفة الغربية لروح النقد والرفض.

وتلك المهمة يمكن أن يتولاها الشباب والأقليات العرقية والثقافية فتلك القوى هي التي بمقدورها أن تنقذ المجتمع الغربي من سجن الاستهلاك والجنس والنظرة المادية الرخيصة، وليس الطبقة البروليتارية أو الرأسمالية. وبالتالي لا يعزل ماركوزه في نقده للأدلوجة بين الرأسمالية والاشتراكية. ويدخل في تحليل ماركوزه كل من تحليلات ماركس وفرويد ومانهايم، ما يجعل نقد نقدا متعدد الأبعاد لدراسة الأدلوجة بكل موضوعية.

أما عربيا، فيأخذنا عبد الله العروي خارج أرض نشأة وتطور مفهوم الأدلوجة، وذلك لدراستها في بيئة تختلف عن الغرب في التعاطي مع مجموعة من المفاهيم، وأيضا سعيا منه لمعرفة الكيفية التي تم استقبلها عربيا. إذ إن أغلبية الكتاب العرب المعاصرين يقفون أولا، الموقف من يضع فكره خارج نطاق المفهوم؛ وثانيا موقف من يقبل المفهوم بكل مضموناته؛ وثالثا موقف من يستعمله كأداة تحليلية مجردة من أي اختبار فلسفي[35].

ويذكر المؤلف كتابين اثنين ظهرا في هذا الصدد هما كتاب الأيديولوجية الانقلابية لنديم البيطار وكتاب الأيدولوجية العربية المعاصرة للكاتب عينه.

إذ نعثر على أنه يعتقد نديم البيطار أن العالم العربي لم يعرف أي انقلاب منذ ظهور الإسلام حتى اليوم، وأن الوضع الذي يوجد فيه الآن هو وضع انتقال، وهو يستلزم تبني أيديولوجية انقلابية ثورية تحل محل الأدلوجة التقليدية ويجب أن تتحلى بالشروط التالية: أولا، أن تنسف الفلسفة التقليدية وتستبدلها بنظرية ثابتة ومطلقة عن طبيعة الإنسان ؛ ثانيا، أن تتجاوز الحاضر لإحياء الماضي في المستقبل وتحمل تصورا لمسار التاريخ يقضي على التصور الديني التقليدي؛

ثالثا، أن تنفي كل ما يخالفها على كل المستويات وتقدم أخلاقية جديدة لتعوض الأخلاقية المهارة ؛ رابعا، أن تشكل البداية الحقيقية للحرية في المجتمع الإنساني. ويتضح أن المؤثر الأول في ذهنية البيطار هو نيتشه عبر قصص مالرو وسارتر.

أما التاريخ المقارن فإنه يستعمله للإقناع فقط، ولا يلعب أي دور في تمحيص مفهوم الأدلوجة. وأما كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة الصادرة سنة 1967، كان يعبر عن دوافع تماثل إلى حد كبير دوافع البيطار، إلا أنه عكسَ اهتماما أكبر بمسألة المنهج واستعمل بكيفية أوسع مواد التاريخ العربي. ويبقى إذن بحث الأيديولوجيا العربية المعااصرة في مستوى اجتماعيات الثقافة.

يربط المنظومات الفكرية الجارية عند العرب من قرن ونصف (عن صدوره) بالأوضاع الاجتماعية وبالظرف التاريخي، ولا يطرح بكيفية منفصلة مشكلة طرق المعرفة أو مسألة مكونات الكائن وإن أشار إليها عندما يقتضي الأمر بذلك. ولهذا السبب يستعمل البحث مفهوم الأدلوجة في المعنى الذي يشترك في الماركسية والاجتماعيات الألمانية، المعنى الذي بلورته أعمال مانهايم ولوكاتش[36].


  • ريكور أو المسكوت عنه عند العروي:

بهذا يكون الأستاذ والمؤرخ عبد الله العروي قد وضع كرطوغرافيا شاملة لنشأة وبلورة مفهوم الأدلوجة داخل بيئتها الأولى (الغرب) وخارج بيئتها (العرب نموذجا)، مستحضرا أهم الفلاسفة والمواقف الفكرية التي حاول أن تفحص وتحلل وتنقد هذا المفهوم الشائك، والذي أسس على أساسه مجموعة كبرى من التيارات والمذاهب والرؤى التي حاولت فهم العالم والإنسان جماعة وفردا. لكن سكت العروي عن ذكر أفكار بول ريكور الهامة في هذا الميدان والتي كان لها صداها وصيتها الهام..

إذ يعدّ من أهم الفلاسفة المعاصرين الذين تطرقوا للأدلوجة ووظائفها، نجد فيلسوفا معاصرا، وإن يتقاطع بشكل كبير مع النظرية النيتشوية ويختلف وإياه من حيث أهمية صفة الوهم كوظيفة للأدلوجة، حيث يميز الفيلسوف الفرنسي بول ريكور[37] بين ثلاث وظائف للأدلوجة، وتشتغل هذه الوظائف بمستويات مختلفة، بواسطة آليات التشويه والتبرير والإدماج.

الآلية الأولى تعتمد تشويه الواقع، إذ تعمل الأدلوجات على إنتاج صورة معكوسة عن الواقع، أما الآلية الثانية وهي التبرير، فتعمل الطبقة المسيطرة عبره على إعطاء مبررات لأفكارها، وإضفاء المشروعية على مخططاتها ومشاريعها. واتضحت للعالم هذه الآلية من خلال تجربة السلطة التوتاليتارية[38].

وبالنسبة لبول ريكور إن ظاهرة السيطرة السياسية، عندما تتغذى بالرعب، تكون ظاهرة أشمل وأكثر إثارة للخوف من ظاهرة الصراع الطبقي… أما الآلية الثالثة، فهي متعلقة بوظيفة الإدماج، أي إدماج الأفراد في هوية الجماعية، حيث يتم الاحتفال بالأحداث المؤسسة لهذه الهوية ومحاولة ترسيخها لدى الأفراد، وتكوين بنية رمزية للذاكرة الجماعية.

يخلص بور ريكور إلى استنتاج قائل بأن وظيفة الإدماج هي أهم وظيفة تقوم بها الأدلوجة، لأنها تتضمن في طياتها الوظيفتين السابقتين، أي التبرير والتشويه، إذ يقول بأنه يجب علينا أن ندعم بقوة، الفكرة القائلة، ليس عنصر الوهم أكثر الظواهر أهمية في عمل الإيديولوجيا، بل هو فقط تشويه وفساد يصب في عملية التبرير، هذه العملية التي تتجذر داخل الوظيفة الإدماجية للإيديولوجيا[39].

يتضح لنا، وكما يذهب عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الإيديولوجيا، الأدلوجة”، في هذه الاستعمالات المتنوعة لهذا المفهوم الشائك والعصي (الاستعمال الماركسي، استعمال نيتشه، استعمال فرويد)، تتغاير التعابير (تقليد، روح، بنية، وهم، تعاقل) وتختلف المطلقات التي تميز الأدلوجة عن الحق (عقل فردي، تاريخ عام، مجتمع إنساني، حياة، حيوان)، لكننا نلاحظ فيها تشابها بنيوياً، يضاف إليها الآليات التي أوضحها الفيلسوف ريكور، والتي سكت عنها العروي.

وكل استعمال يفرق بين الظاهر والخفي، بين الملموس والحقيقي، بين الوجود والقيمة، ويحدد بالتالي الأدلوجة انطلاقا من الحق الثابت، فيرفع قناع الأدلوجة عن الحقيقة الباطنية. وهكذا يكشف الليبرالي عن أكاذيب سلطة التقليد، ويفضح الماركسي تعليلات البورجوازية المكشوفة، ويرفع النيتشوي النقاب عن أوهام المستضعفين… إلخ.


[1]  عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا.. الأدلوجة، دار الفرابي للنشر والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1980.

[2]  المرجع نفسه، ص 29

[3]  المرجع نفسه، ص 5.

[4]  المرجع نفسه، ص 9.

[5]  المرجع نفسه، ص 10.

[6]  يُعرّف الوهم Illusion بكونه الظن الفاسد، وقد يطلق على الخداع الحسي، أو التمثل الكاذب الناتج عن الانخداع بالظواهر، كما يطلق على الأفكار التي لا مقابل لها في الواقع.

[7]  المرجع نفسه، ص 12.

[8]  المرجع نفسه، ص 10.

[9]  المرجع نفسه، 18 -19.

[10]  المرجع نفسه، ص 9.

[11]  المرجع نفسهن ص 21.

[12]  المرجع نفسه، ص 22.

[13]  المرجع نفسه، ص 23.

[14]  ذكره العروي من كتاب:

George Lukacs, Histoire et conscience de classe, édition de minuit, Paris, 1960, p. 71.

[15]  كلمة عامة تعني كل ما يجده المرء قائماً أمامه من أنظمة اجتماعية وأفكار موروثة مسيطرة.

[16]  العروي، م. م.، ص 29.

[17]  المرجع نفسه، ص 34.

[18]  المرجع نفسه، ص 35.

[19]  كارل ماركس، الفصل الأول من الأيديولوجيا الألمانية، الحوار المتمدن، العدد 6269، 2019/6/23.

[20]  عبد الله العروي، م. م.، ص 103.

[21]  المرجع نفسه، ص 38.

[22]  المرجع نفسه، ص 37.

[23]  المرجع نفسه، ص 39.

[24]  نظام سياسي شمولي تفرض فيه الدولة قوتها على المجتمع دون إشراك المواطنين في تدبير الشأن العام.

[25]  رجاع كتاب:

Paul Ricœur, Du texte à l’action, Essais d’herméneutique, éd. Seuil, 1986.

[26] Sigmund Freud, Psychologie collective et analyse du moi, Payot, Paris, 1962, p. 176.

[27]  عبد الله العري، م. م.، ص 40.

[28]  ذكرها عبد الله العروي عن كتاب فرويد “النفسانية الجموعية وتحليل الأنا”، ترجمة فرنسية، بايو، باريس 1962، ص 93 وص 102.

[29]  العروي، م. م.، ص 42.

[30]  ارتأينا المرور بسرعة عند بعض منهم، وذلك نظرا لكون مجموعة من النظريات تتقاطع مع ما سبق وتم ذكره.

[31]  عبد السلام بنعبد العالي، الميتافيزيقا، العلم والإيديولوجيا، دار الطليعة، بيروت، ط. 2، 1993، ص 49.

[32]  هي نسق يتكون من مجموعة من العناصر المنظمة التي تدخل فيما بينها وفقا لعلاقات محددة بحيث تتوقف كل علاقة على باقي العلاقات الأخرى.

[33]  عبد الله العروي، م. م.، ص 97.

[34]  المرجع نفسه، ص 110.

[35]  المرجع نفسه، ص 127.

[36]  المرجع نفسه، ص 126.

[37]  لم يتناول أفكاره الأستاذ العروي في كتابه المذكور.

[38]  نظام سياسي شمولي تفرض فيه الدولة قوتها على المجتمع دون إشراك المواطنين في تدبير الشأن العام.

[39]  راجع كتاب:

Paul Ricœur, Du texte à l’action, Essais d’herméneutique, éd. Seuil, 1986.

عز الدين بوركة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى