الأسس الإبستيمولوجية لفلسفة ابن الهيثم الرياضية
- مقدمة:
ربما لا يكون تناول القول الهيثمي والأرض التي يتجذّر فيها فكرُه سهـلاً وبديهيّاً، ولا سّيما أنّ إعادة فتح سيرة صاحب المناظر من جديد في زماننا هذا قد يصطدم في بدايته بجملة من الإشكاليات لعلّ من أهمّها: ما الأسس الفلسفيّة لبحوث ابن الهيثم العلميّة؟ وأنّى لنا أن نعتبر الرياضيّات أفقاً ملائماً لاستشكال موقف فلسفي؟
إنّ التّوجّه بالمسألة جهة النّظر الفلسفي هو ما نعتقد أنّه سيجعلنا نقترب من القول الهيثمي في مداه الأصلي وتخومه الإشكاليّة، لذلك ارتأينا أن نولي وجهنا شطر هذا الضّرب من النّظر كشرط لتحديد منزلة المواضيع الرياضيّة من المتن الهيثمي وطريقة تلقيه للرياضيّات اليونانيّة والعربيّة السائدة في عصره.
- أولاً: في ماهية الكائن الرياضي ووجوده
لعلّ من أهمّ المشكلات الّتي يثيرها القول الهيثمي هي مشكلة التّعرّف إلى خواص الـ «كائنات الرّياضيّة» وماهياتها. فلئن جرى الاهتمام بهذه القضيّة منذ إقليدس، فإنّ ابن الهيثم في إجابته عن سؤال ما معنى أن نفكّر في خواص الـ «كائنات الرّياضيّة» وماهياتها؟ يُميّز بين نوعين من النّظر، فإذا كان الفيلسوف – من وجهة نظره – يطمع في إثبات وجود إنيّات الموجودات، فإنّ العالِم يُمكن أن يكون كلامه مركّباً من الفلسفة والعلم.
بيد أنّه، إذا كنّا نعرف اهتمام ابن الهيثم بـإقليدس الّذي أفرده بمؤلّفات كاملة، شرحاً لأصوله ومعانيه ومصادراته، فإنّ ذلك لا يعني قبولاً غير مشروط لأطروحاته، بل لعلّ الشّكوك التّي أثارها ابن الهيثم منذ مدخل مؤلَّفه الموسوم بكتاب في حلّ شكوك كتاب إقليدس في الأصول وشرح معانيه كفيلة للتّدليل على ذلك.
ففي تعليقه على حدّ إقليدس للنّقطة بأنّها «شيء لا جزء له»[1]. نجده يناقش هذا الحدّ منطقيّاً من حيث هو حدّ من الحدود المنطقيّة، وفلسفيّاً من حيث ماهية النّقطة ووجودها، حيث اعترض على إقليدس لكونه عرّف النّقطة من دون أن يبرهن على وجودها[2].
كما اعترض على «الفصل» المنطقي، وهو «لا جزء له»، ووصفه بأنّه غير كافٍ، «لأنّ ما لا يتجزأ هو أشياء كثيرة. وإنّما المتجزّئ من جميع الموجودات هو المقادير فقط، وما سوى المقادير فليس يتجزّأ كالوحدة والهيولى الأولى وكالعقل الفعّال وكالعدم»[3] لا يتجزّأ مع أنّه يسمّى شيئاً، فليس تنفصل به النّقطة عمّا سواه.
فإذا كان عيب إقليدس في رأي ابن الهيثم أنّه لم يُبيّن أنّ النّقطة موجودة، فكيف عالج صاحب المناظر هذا الأمر؟ وهل أضاف إلى حدود إقليدس شيئاً جديداً؟
في جوابه عن هذا الإشكال يبيّن ابن الهيثم أنّ الكلام في مشكلة وجود الكائنات الرّياضيّة، وإثبات إنيّتها ليس بحثاً هندسيّاً، ولا يجب على المهندس إثبات وجود النقطة، «ولا إثبات وجود شيء من المقادير الّتي يستعملها، لأنّ إثبات وجود إنيّات الموجودات إنّما هو على الفيلسوف لا على المهندس»[4].
ولكن، إن كان واجباً على المهندس تبيينه بما هو مهندس، فقد يجوز له أن يُبيّن إنيّة النّقطة «بما هو متكلّم كلاماً فلسفيّاً بل كلاماً مركّباً من الفلسفة والهندسة»[5]. وبهذا المعنى، فإنّ ابن الهيثم يُميّز بوضوح بين الجانب التقني، أي الجانب الرّياضي المحض، والجانب الفلسفي، ولكنّه يُجيز التّركيب بين القول الفلسفي والقول الهندسي.
مغزى هذه الإشارة أنّه إذا لم تكن ثمّة هندسة محض فلسفيّة، فإنّه ليس ثمّة مع ذلك هندسة خالية من الفلسفة، وهذا عصب نقد ابن الهيثم للقول الإقليدي.
وفي إثر عرضه لأصول إقليدس ومعانيها، يتناول ابن الهيثم الخطوط المستقيمة والمستديرة والبسيطة، معتبراً أنّ كلّ نقطتين من النّقط الّتي على الخطّ المستقيم فالجزء من الخطّ الّذي بين تلك النقطتين هو أقصر الأبعاد التي بين تلك النّقطتين، وهذا القول هو حدّ للخطّ المستقيم، وهو موجود في التّخيّل.
لأنّه «إذا تخيّل المتخيّل الخطّ ولم يستصحب في تخيّله شيئاً من السّطح ولا عرضاً من الأعراض التّي تعرض في سطوح الأجسام الطّبيعيّة كالألوان وكالخشونة والملاسة والصِقل، وما يجري مجرى ذلك ممّا يُدرك بالحسّ في نهايات الأجسام سمّي ذلك الخطّ خطّاً تعليميّاً، فالخطّ التّعليمي إذن هو مقدار ذو بعد واحد وهو موجود في التّخيّل»[6].
ولأمر كهذا، يتمثَّل ابن الهيثم هذا النّموذج بخيط مشدود بقوّة من طرفيه لكن هذا النّموذج لا يصلح إلا لمُساعدة «التّخيّل» على تصوّر المُستقيم، من دون أن يستطيع البتّة إثبات وُجوده. ومن أجل ذلك، ساغ التّساؤل حول كيفيّة إثبات خواص الكائنات الرياضيّة وإقامة الدليل على وجودها.
للإجابة عن هذا السؤال يستهلّ ابن الهيثم هذا الأمر بتحديد ماذا يريد بالحدّ، وفي ذلك يقول: «إنّا نريد بالحدّ القول الدّال على المعنى، لا ما يُشير إليه المتفلسفة من تقرير لفظ الحدّ وترتيبه»[7].
وهذا معناه أنّ الرّجل لا يُريد بالحدّ الّذي يُشترط فيه أن يدلّ على الماهية بالجنس والفصل على طريقة المتفلسفة والمناطقة، بل إنّ الحدّ في نظره قول محض يدلّ على المعنى الذي يُنتزع من المقادير الرّياضيّة.
وعليه، فإنّ إقامة الدّليل على وجود الكائنات الرّياضيّة لا نتوصّل إليه عبر تحليل القضايا في صورتها المنطقيّة المتّصلة أو المنفصلة، بل على الضد من ذلك،
يظلّ كشف خواصها وهيئاتها وكيفيّة حدوثها اقتضاء تداوليّاً، وليس دليـلاً صوريّاً نتوصّل إليه بصرف النّظر عن الحالة التي يوجد عليها في الواقع. فكلّ القضايا التي تُسند محمولات إلى موضوعات تنبني على اقتضاء منطقي.
بيد أنّ اقتضاء الجنس والفصل لا يمكن أن يثبت الوجود الفعلي للكائنات الرياضيّة، لأنّه يقف عند خواص لا تدخل في تقويم ماهياتها، وإنّما تتبدّى كمحمولات للماهية. كما لا يصحّ حمل محمول أو نفيه عن موضوع، صحيحاً كان أو خاطئاً، إلّا إذا تحقّقنا من الاقتضاء الوجودي، الذي يفضي إلى القول: إنّ القضيّة بعد ذلك صادقة أو كاذبة.
ويبدو من كلّ هذا، أنّه أراد أن يعيد النّظر في مفترضات فلسفيّة شغلت الذّهن الفلسفي مبنية على القول بأنّ الحدّ يتمّ بالجنس والفصل، وهو ما يجعلنا نفهم أنّ كلامه عن الحدّ هو أدخل في باب الفعل العقلي منه في باب الحمل الواصف لمحمولات الماهيّة الذاتيّة.
ومعنى هذا أنّ ابن الهيثم غلّب الاعتبارات الدّلاليّة على الاعتبارات المنطقيّة في تصوّره لما يكونه الحدّ.
ومن أجل الاقتراب من المقصد الذي نروم تلمّس بعض أبعاده الدّلاليّة، أي كيفيّة تحديد خواص الكائنات الرّياضيّة وهيئاتها وكيفيّة حدوثها، مثل حقيقة الدّائرة أو غيرها من الأشكال بمعناها الرّياضيّ الدّقيق، يُمكن القول، إنّ كلّ هذا راجع في تقدير صاحب المناظر إلى الإبداع العقليّ أو ما عبّر عنه بـ «الصورة التي تحصل في التّخيّل»[8].
بعد أن انتُزعت وجُرّدت من «المقادير المحسوسة»[9]، وصارت مقادير خياليّة. فطريق البحث عن خواص المعاني، غير ممكن إلّا إذا حصلت في التخيّل وصارت معقولةً.
فالنّقطة مثـلاً «موجودة في العقل والتّخيّل ولا يجوز أن توجد بغير العقل والتّخيّل، لأنّها ليست من ذوات المواد، فليس يجوز أن توجد بالحسّ. وإذا كانت لا يجوز أن توجد إلّا بالتّخيّل والتّمييز وقد وُجدت بالتّخيّل والتّمييز، فقد تبيّن أنّ إنيّة النّقطة موجودة»[10].
وبهذا التّقدير، فإنّ «الموجود على التّحقيق هو الموجود بالتّخيّل والتّمييز، أمّا الموجود بالحسّ فليس بموجود على التّحقيق»[11].
وكذلك يكون وجود جميع المقادير التّعليميّة إذا حصلت لهذه المقادير صورة في التّخيّل معقولة مفهومة عند التّمييز أمكن للقوّة المُميّزة تخيّلها وتجريدها من المادة «من غير حاجة إلى التّوسّل والتّدرّج في كلّ وقت»[12]. ولكن، ما هي أسباب اعتراض ابن الهيثم على شهادة الحواس؟