هوامش الفكر العربي – عن أسماء غيّبها النسيان
في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات حظينا بتدريس ثلة من الأساتذة الشباب في شعبة الفلسفة (وغيرها) كانوا قد ولجوا الجامعة محملين بطموحات فكرية كبرى سوف نعيش معهم وهجها وإحباطاتها بشكل أو بآخر.
كان الأساتذة المصريون عمومًا يسيطرون على شعبة الفلسفة في جامعتيْ فاس والرباط، من بينهم أسماء شهيرة كمحمود سامي النشار ونجيب بلدي وحسن حنفي، وأسماء أخرى.
وكان جمال الدين العلوي وإدريس المنصوري ومحمد ألوزاد ومحمد المصباحي وعبد السلام بن عبد العالي وغيرهم، من بين الأسماء الشابة التي كان عليها بناء شعبة الفلسفة من جديد، في وقت كانت فيه تلك الشعبة أقوى المسالك في الجامعة وأكثرها عددًا وأشدها تأثيرًا في محيط الجامعة.
- أحلام التأسيس
كان جمال الدين العلوي مهتمًا بابن رشد وبتحقيق نصوصه، وكان يدرّسنا الفلسفة في الغرب الإسلامي، لا من خلال محاضرات عامة وإما من خلال تحليل نصوص ابن رشد وابن باجة. وكان محمد ألوزاد يدرسنا مصطفى عبد الرازق والفكر العربي في عصر النهضة.
كنا أكثر من خمسمائة طالب في السنة الأولى، أما في السنة الثانية فلم يبق من هذا العدد أكثر من ستين طالبًا سيتوزعون لاحقًا بين علم الاجتماع والفلسفة العامة وعلم النفس. فلقد قام عاهل البلاد حينئذ بالإجهاز على الفلسفة وعلى تدريسها باعتبارها وكرًا لإنتاج المثقفين والسياسيين اليساريين،
وفرض في قلب كلية الآداب إنشاء شعبة جديدة (إلى جانب كلية الشريعة وأصول الدين التقليدية) تسمى شعبة الدراسات الإسلامية سوف تستقطب “الهاربين” من شعبة الفلسفة.
سوف يختطف الموت مبكرًا جمال الدين العلوي وهو في بدايات عقده الرابع ليئد مشروعه الطموح في تحقيق مؤلفات ابن رشد وغيره من فلاسفة الغرب الإسلامي. كما سيختطف بعده، سنوات بعد ذلك، تباعًا إدريس المنصوري ومحمد ألوزاد وهما في عزّ نضجهما الفكري.
تخلى إدريس المنصوري عن استكمال أطروحة عن ابن عربي، ولم ينشر لسوء الحظ إلا مقالات قليلة باللغة الفرنسية، تفصح عن فكر وقّاد وعن ثقافة عميقة وعن حس نقدي نادر؛ فيما اكتفى محمد ألوزاد بالنشاط في مجال جمعية الدراسات الرشدية وببعض الدراسات والتحقيقات.
- ما الذي أحبط هذا الجيل، عدا المرض؟
- بورتريه جيل محبط
كان محمد ألوزاد يبدو لنا شخصًا متوحّدًا، يقوم بمحاضراته عن فكر عصر النهضة ومصطفى عبد الرازق بعمق وبتحليل وأسئلة لم نتعودها آنذاك في المرجعيات التي كنا نعتمدها. كان بلحيته الكثة وهو يلقي محاضراته المميزة، أو ونحن أمامه لحظة الامتحانات الشفهية لا يوجه نظره لنا، كأنه سابح في عالم من الوحي الرباني. هؤلاء الأساتذة الشباب، كنا طلبتهم الأوائل بعد تعريب شعبة الفلسفة، ولم تكن لدينا فكرة كبيرة حينئذ عن مشروعهم.
حين التقيت محمد ألوزاد بالصدفة بعد العودة من الدراسات بفرنسا وتبادلنا أطراف الحديث حول قهوة، اكتشفت شخصًا وديعًا وذا مشروع فكري كبير بدأه في أطروحته التي أنجزها تحت إشراف سامي النشار، وسار بها حثيثًا في إطار مركز الدراسات الرشدية الذي أنشأه في بدايات الألفية الجديدة بالكلية.
كانت الدراسات التراثية في ذلك الوقت في عز التأسيس والجدل الفكري والإيديولوجي، تحملها أسماء من قبيل حسين مروة والطيب تيزيني في المشرق، ومحمد عابد الجابري وجمال الدين العلوي في المغرب. وكان اهتمام الباحثين المغاربة الشباب ينصب على الغرب الإسلامي (ابن باجة وابن رشد وابن طفيل وابن مسرّة وغيرهم)، الذي يعتبره ألوزاد مشابهًا في وضعيته لما عاشه المشرق في ذروة التفلسف.
وهو يقول مبررًا هذا الاهتمام: “نحن أقرب إلى هذا التراث، ليس بالصّفة الوطنية، أو بالمعنى الضّيق والشوفيني. فأنا شخصيًا لا أميل إلى مثل هذه النظرة، ولكنني أعتبر نفسي منتسبًا إلى هذه المنطقة كلها، أقصد المغرب والأندلس.
فهناك نسب لهذه المنطقة يفرض عليّ بعض الواجبات، منها الاهتمام العلمي بها. ليس فقط بتراثها الفلسفي، فلو كنت في ميدان تخصصيٍّ آخر لكانت عنايتي بالمنطقة من هذه الزاوية التخصصية، جغرافيتها مثلًا، أو العناية بطقسها”.
- من النقد إلى بناء المنظور
كان أول ما قرأت لألوزاد قبل أن أحظى به أستاذًا، مقال نبهني إلى نفاد بصيرته وحسه النقدي واهتمامه الكبير بالفكر في الغرب الإسلامي. ففي مقال بعنوان “هوامش حول مشروع قراءة الجابري للفارابي”، لا يتورع المفكر الشاب في الوقوف على “أسلوب” الجابري، ومواطن ضعفه.
ويمكننا اعتبار هذا النقد الجريء حينها تنبيهًا استشرافيًا لما سيقف عليه سنوات بعد ذلك نقاد الجابري، وخاصة منهم جورج طرابيشي.
يقول ألوزاد عن الجابري: “ترجع أهمية هذا البحث، في اعتقادنا، لكونه يقترح منهجًا جديدًا في الدراسات الإسلامية، ويريد الخروج بنتائج ليست مألوفة في فلسفة الفارابي والفكر الإسلامي (…).
ورغم أن مقصد الأستاذ الجابري مما لا ينكره أحد من المهتمين الجادين بالدراسات الإسلامية لإخراجها من حالة العقم وإنعاشها بما يجدّ في الميدان العلمي خاصة ميدان العلوم الإنسانية، إلا أن الملاحظ أن هذا العمل لم يرافقه الحذر العادي في استخلاص الأحكام وتعميمها،
مما أدى إلى صدور مجموعة من الآراء تفتقر إلى دليل أو أن أدلتها واهنة”. في هذا المقال، يقف الباحث الشاب على تحجيم الجابري لأعمال معاصريه: “وكان الأسلم علميا تمييز الدارسين، مستشرقين وغير مستشرقين إلى مستويات بحسب إدراكهم لبنية الفكر الإسلامي المتميزة”.
وهو بذلك أدرك الاستراتيجية التي تبناها الجابري في عزل نفسه ومنح نظرته طابعًا علميًا، وهو الطابع الذي يؤكد ضمنيًا أنه يعود بالأحرى إلى أسماء من قبيل أركون ورودنسون… كما أكد على تفخيم الجابري من فلسفة الفارابي وكأنها الفلسفة السائدة في الفكر الإسلامي.
لا يركز نقد الباحث الشاب للجابري على الجانب المنهجي وإنما على الفاعلية الإجرائية، مستنطقًا المتن والشروط التي جاء فيها، ليقدم عناصر قراءة عارفة بموضوعها. ولا أدري لماذا نشرت المجلة حينها هذه القراءة الثاقبة في مجال المتابعات مع أنها تستحق النشر في الصدارة، مما جعلها لا تظهر في فهرس العدد.
كانت قراءات ألوزاد منذ يفاعتها ترتكز على الوعي بالانتماء لمحيط الغرب الإسلامي، وتنادي للاهتمام بفكره وفلسفته. وكما يقول أحد المهتمين القلائل به: “العودة للفترات الأولى ولحظات النشوء التي يعدّها البعض، وبكل بساطة.
لحظة سذاجة العقل المغربي الأندلسي، كانت استراتيجية عمل محمد ألوزاد، التي تخترق رغبته البحثية لأجل مداورة عقدة رسم التاريخ الفكري للمنطقة من جديد، بطريقة تتفوق على ما هو موجود من كتابات الاستشراق الغربي.
لقد أدرك الباحث أن بناء مشروعه الفكري في البحث يلزم أن يمارس التفكيك على القراءة المتأدلجة للفلسفة الإسلامية بالمغرب (الجابري) كما بالمشرق (محمود قاسم). فهو قد اعتبر أن الفلسفة الإسلامية لا تبدأ بالكندي وتنتهي بابن رشد، بحيث يصرح قائلًا: ما أريد أن أضيفه هنا، هو أن المقصود ليس بتاتًا أن نظل متعلقين بابن رشد، فذلك سيكون بمثابة دوران في حلقة مفرغة”.
ففي الوقت الذي كان فيه أغلب الباحثين يصبون دراساتهم على ابن رشد ويحققونه ويسوقون لفكره، كان هذا الأخير يصب اهتمامه على إبراز فيلسوف مغربي آخر هو ابن باجة، ساعيًا إلى نفض الغبار عن مصنفاته، ومنحه صورة جديدة تعيد ترتيب خارطة الفكر في الإسلامي. فلقد كان هذا السعي إخراج ابن باجة من مساحة الظل التي غيبته فيها الأنوار المسلطة على ابن رشد.
لقد جاء إنشاء مركز الدراسات الرشدية لهذا الغرض بالضبط، أي لإعادة ترتيب خارطة الفكر الإسلامي ومواقعه. والمفارقة هي أن هذه المؤسسة التي تحمل اسم ابن رشد قد كرسها ألوزاد لأسماء هامشية حجبها هذا الاسم الوازن كابن الصائغ وابن باجة.
فاهتمامه بابن باجة كان تسليطًا للضوء على مفكر إسلامي وأحد الروافد الهامة لفلسفة ابن رشد، وتحقيقه للكتب المهملة لابن الصائغ في المنطق، توكيدا لمفهوم النشأة والتبلور وتفكيكًا لمفهوم البنية.
وكأننا بصاحبنا قد أدرك أن مهمة الباحث هي استكشاف المغمور وبيان المجهول. فلقد تابع هذه المهمة منقبًا ومحققًا أعمال المغمورين حتى الإنهاك.
ولا شك أنه حمل معه إلى القبر، وهو في عز العطاء، ما حمله معه زميلاه في الجامعة نفسها، جمال الدين العلوي وإدريس المنصوري من مشاريع، لو لم يوقفها المرض القاتل، لأبانت عن أسماء مؤسسة لأفق جديد في البحث والفكر.
ومن المؤسف أن ما بلغ لسمعي من أن إرثه كاملًا، من كتب ومخطوطات وصور، قد بيع في سوق سقط المتاع، أمر أكده لي العديد من المقرّبين منه.
تلكم شذرات عن حيوات أسماء غيّبها النسيان، يلزم منحها ما تستحق، ومتابعة استراتيجياتها، حتى لا نظل أسرى تكريس أخرى أخذت الصدارة غصبًا في ثقافة قصيرة الذاكرة وتتسربل بالنسيان والاكتفاء بالسطح.
مقال ممتع ومفيد، أرجو أن تدلني على دراسات أو كتب أو أطروحات حول ابن مسرة الأندلسي من فضلكم.
وشكرا