فكر وفلسفة

هارتمت روزا: التسارع واقتصاد الزمن

يهدف المقال إلى التعريف بهارتمت روزا. وهو فيلسوف وعالم اجتماع ألماني معاصر(1965)[1]، وممثّل الجيل الرابع لمدرسة فرنكفورت أو ما يُعرف بالنظرية النقدية[2].

يتحرّك روزا في نشاطه الفكري ضمن المساحة عينها التي جابها مؤسسو المدرسة الأوائل والجيلان الثالث والرابع حيث التزم النقد عندهم ثوابت مركزية، أهمّها مراجعة المشروع الحداثي وما تفرّع عن ذلك من نقد للمجتمعات الحديثة، بخاصة بعد عصف التحوّلات الذي زحف نحوها وما استتلاه من متحوّرات تتالت بالتعاقب وإن بأشكال متجددة على هذه المجتمعات وأفرادها.

نقول متحوّرات لأنّ مفكرّي النظرية انهمكوا بالمعاينة النقدية لإفرازات الحداثة الغربية بعد أن انطلقوا من ثابتة موحية وولّادة لمعظم طروحاتهم الفكرية، وهي أن الاستبشار بوعود الحداثة لم يصل إلى خواتيمه المرتجاة، بل أصابه التوعّك والانحراف فانتكس، ليعود القهقرى ويقع في النكوص مرتدًّا إلى ما انقلب عليه أي الأسطورة، فأحيا أسطورته الخاصّة وهي التقنية[3].


ليست الأخيرة بحدّ ذاتها هي ما تآكل المشروع الحداثي، بل العقلانية الكامنة وراء تسييرها وتوجيهها وتوظيفها وهي عقلانية السيطرة التي تجد بذورها في النزوع المركزي التفرّدي للعقل الغربي الذي احتوى على بذور الاستئثار فنمت وتعاظمت وصارت إلى لوغوس قائم بذاته يثوي في شكل الدولة ومؤسّساتها، وفي السّوق وآلياته، وفي الثقافة والفن يصنّعهما ويطوّعهما في استعمالاته، وفي الفرد الحديث ينسلّ إلى دواخله وكيانيته فيشوّهها.


مفرزات الحداثة المنحرفة أو المحرّفة عن منطلقاتها، هي بالنسبة لأجيال المدرسة الأربعة انعطابات بنيوية أسفرت عن باتولوجيات مرضية على المستويين الفردي والاجتماعي. صوّر كل واحد من فلاسفة النظرية النقدية معطوبية العوالم الحداثية، بلغته الخاصّة؛ فمن “التنظيم اللاعقلاني” بحسب تعبير هوركهيمر، و”العالم الإداري” كتوصيف لأدورنو، مرورًا “بمجتمع البعد الواحد” بلغة ماركوزه، أو “استعمار العالم المعيش أو الفضاء العمومي” كما سمّاه هابرماس، وصولًا إلى “مجتمع الاحتقار” الذي يختصر رؤية هونيث للوجود الاجتماعي، وليس انتهاء “بالقفص الفولاذي” لهارتمت روزا.


تختلف التسميات والتوصيفات المفاهيمية، لكنّها تعبّر عن ذهاب الأزمة في المجتمع الرأسمالي الذي بات منظومة كونية عابرة للحدود والجغرافيا والثقافة والدولة، والزّمن ربّما كما أراد روزا، إلى مزيد من تأزيم أزمته. تتفشّى في هذه العوالم الأنطولوجية المعتلّة، ظواهر غير أصيلة صارت إلى براديغمات متنوّعة وصياغات ومقاربات فكرية أثرت النظرية النقدية على طول امتداد تاريخها منذ عام 1920 إلى اليوم. ونحن بصدد التعريف ببراديغم “التسارع”Accélération في الزمن الذي يوصّف عبره روزا النمط العولمي المبتلع للمجتمعات الحديثة الرأسمالية في لحظتها المعاصرة.


  • الزمن المتسارع

يقول روزا:” إنّ الوقت الزمني، أو الوقت على مدار السّاعة لا يتغيّر. هو لا يسير بسرعة ولا ببطء؛ اليوم أربع وعشرون ساعة، والعام ثلاث مائة وخمسة وستون يومًا. لذا فإنّ الشعور بأنّ الوقت يمرّ بسرعة لا بدّ من تفسيره بأسباب نفسية، إنّه ظاهرة نفسية. لكن هذه الظاهرة لها أسباب اجتماعية”[4].


هذه الإشكالية-المفارقة هي ما يقوم روزا بتحليلها في كتابه “الاستلاب والتسارع، نحو نظرية نقدية للحداثة المتأخّرة”Aliénation et accélération, vers ..une théorie critique de la modernité tardive فلم يقترن تسارع الزمن بالحداثة ليصبح أحد خصائصها؟


في كتابه المذكور، يسلّط روزا الضوء على أسئلة الحياة المعيشة، وعلى انهماكات الإنسان في العالم الحديث المتأخّر. فهو يبحث في طبيعة الحياة المعاصرة، ويفحص بنية حياتنا ونوعيتها، مكثّفًا تركيزه على الأنماط الزمنية كما يعيشها الأفراد بشكل خاص. فكل جوانب معيشتنا معلّقة كما هو واضح بمنحى زمني.


والبنى الزمنية ترتبط بتوجهاتنا وأفعالنا والتي تظهر متناسقة ومتوافقة بضرورات نظامية للمجتمعات الرأسمالية الحديثة. وبالتالي فإن هذه الوضعية الزمنية مشدودة إلى معايير وقيود وكوابح صارمة، تفتقد بحسب هارتمت روزا إلى المعاني الأخلاقية. فالانشغالات والاهتمامات التي يعرضها العالم الحديث، محدّدة من قبل قواعد وهي محكومة ومسيطر عليها وموجّهة بمنظومة وقت، يصفها روزا بأنها غير مرئية وغير قابلة للنقاش، وملتبسة.


من هنا افتقادها إلى الوضوح الأخلاقي الذي يضفي عليها معنى بما هو يتعلّق بالإنسان وبكيفية ممارسته لعيشه. منظومة الوقت الحاكمة والمتحكّمة هذه يمكن تحليلها استنادًا إلى محرّك واحد ووحيد، وهو منطق التسارع الاجتماعيLa logique de l’accélération sociale.


لا يشكّل الوقت Le temps بحدّ ذاته وبمفهومه المجرّد محطّ اشتغال روزا، بل هو يبحث في الزمن كما صيّرته الحداثة ومتغيّراتها، أو كما يعيشه الإنسان المعاصر الذي لمّا يزل يحيا استمرارية الفعل المستمر للحداثة. يقول روزا:”لقد ظهرت مؤخّرًا تجربة جديدة في أفق الحداثةLa modernité، تتمثّل في الشعور بل وفي الاقتناع الخاص بأنّ زمن عصرنا هذا أصبح مضطربًا، وأنّ الأزمة التي تعرفها الحداثة مردّها إلى أزمة متعلّقة بالزّمن”[5].


ويوصّف روزا الحضور المكثّف للزمن والتاريخ في مرحلة الحداثة، رابطًا إيقاع الزّمن ببدايتها وبتاريخيّتها وبما يحفل به ميدانها من اكتشافات علمية، واختراعات صناعية استطاعت أن تفرض متحوّلًا عصف بالمفهوم التقليدي للزّمن، فاختلفت تشخيصاته التي شهدت تتابعات بوتيرة متسارعة، واستتباعات تجلّت في المجتمعي، فهو يقول:”القرن الثامن عشر كان حاسمًا بهذا الغرض.


في الواقع يمكننا أن نرى أن التكنولوجيات الجديدة لم تكن سببًا في التسارع الاجتماعي، بل إنّ التكنولوجيات الجديدة من المحرّك البخاري والسكّة الحديدية، والثورات الصناعية كانت إجابات على الوعي المتغيّر بالزمن، وعلى الحاجة الجديدة إلى السرعة”[6].


والآن ما هي تمظهرات التسارع الزمني والأشكال المتعدّدة التي يبدو عليها في عالمنا الاجتماعي المعيش، كما حلّلها هارتمت روزا؟


  • التسارع كما نعيشه أو يعيشنا

هذا الزمن اللاهث القلق الذي يتسارع ويجرف الإنسان والمجتمع معه، تتجلّى انعكاساته في الثقافة والاجتماع والأخلاق والاقتصاد وفي التربية وفي المجالات كافّة:” ماذا يعني تسارع في المجتمع الحديث؟، فنحن نلمس إشارات التسارع في سرعة الحياة، في التاريخ، والثقافة، في الحياة السياسية والاجتماعية، وفي الزمن نفسه أيضًا…في ممارسة الرياضة، في الموضة، في مونتاج الفيديو والمواصلات وفي تسلسل الوظائف.”ّ[7]


ولكن يدعونا روزا هنا للتنبّه اليقظ الذي تتطلبه صعوبة مفهومية مرتبطة بعلاقة التسارع بالمجتمع. فهل يمكننا التحدّث عن تسارع المجتمع نفسه بمؤسساته ومفعّلاته ومجالاته، “أو فقط عن تسريع العمليات داخل نظام اجتماعي هو نسبيًا غير مستقر؟”[8].

يهدف روزا من هذا السؤال التوضيحي أن يفصل بين المجتمع بكليّته وخصوصية واقعه كمجموع ميادين للفاعلية الاجتماعية وللنشاط البشري، والذي كان هذا حاله دائمًا في تاريخ البشرية، وبين التسريع الذي أُقحم به في زمن الحداثة، والذي آل إلى وضعية مسستمة، أو منظومة أو نهج حياتي شامل.


ولكن عرضية ظواهر التسريع واعتبارها من الطوارئ التي فرضتها الحداثة، لا يمنع من كونها “تتبع منطقًا منهجيًا، فهي أي هذه الأشكال الكثيرة للتسارع في المجتمع، تتقارب في خاصيات مشتركة تسمح بتجميعها معًا في إطار مفهوم واحد للتسارع الاجتماعي. ولكن ليس بشكل مباشر في رأيي، فعندما يراقب المرء عن كثب هذا النطاق من الظواهر، يصبح من الواضح إلى حدّ ما أنه يمكنه فصلها إلى ثلاث فئات متميّزة تحليليًا وتجريبيًا”[9]. هذه الفئات الثلاث التي يقترحها روزا ليبيّن أشكال التسارع، منتقلًا من النظري، ليردفه بما هو تجريبي، فهي:

  • التسارع التقني.
  • التسارع في التغيّر الاجتماعي.
  • التسارع في إيقاع الحياة.

  • التسارع التقنيL’accélération technique

إنّ أشكال التعجيل أو التّسارع التي يمكن لحظها بسهولة ووضوح، هي تلك الظاهرة في العمليات الموجّهة نحو مجالات النقل والاتصالات والإنتاج. وهذه جميعها داخلة في نطاق التسريع التقني Accélération technique. ويضيف روزا إلى هذه النطاقات، الأوجه الجديدة للتنظيم والإدارة المصمّمة خصّيصًا للتسريع المتعمّد و”الموجّه نحو هدف”.

وتشير الإحصاءات إلى تزايد نسبة السرعة في مجالات الاتصال والنقل الشخصي ومعالجة البيانات، والتي تظهر آثارها على الواقع الاجتماعي هائلة بلا شك. يلفت روزا النظر إلى ملاحظة مثيرة تتعلّق بأنتروبولوجيا الفضاء Anthropologie de l’espace، فالتسارع طال “النظام الزماني والمكاني للمجتمع”، “فالتصوّر الذي اعتدنا عليه والذي كان مقياسًا لتنظيم المكان والزمان في الحياة الاجتماعية، وكان متجذّرًا في إدراك البشر وفي أعضائنا الحسّية، قد تبدّل نتيجة التسارع…


ففي عصر العولمة حيث يتغلّب تأثير الإنترنت كعنصر ضغط يمكننا أن نطرح فكرة “تدمير الفضاء”. فهذا الأخير يتقلّص تقريبًا بسبب من سرعة النقل والاتصال”[10]. وبسبب من هذا التقليص يفقد الفضاء أهميته من نواح متعدّدة في زمن الحداثة المتأخرة. “فلم تعد الأنشطة والتطوّرات محلية، والأماكن الحقيقية كالفنادق والبنوك والجامعات والمراكز الصناعية تمسي بلا تاريخ وبدون هويّة، ووحيدة بلا علاقات”[11].


  • تسارع التغيّر الاجتماعي L’accélération du changement social

وفي حين أنّ توصيف ظاهرة الفئة الأولى من التسارع يشخّصها على أنها عمليات تسريع داخل المجتمع، يمكن اعتبار ظاهرة الفئة الثانية بمثابة تسريع للمجتمع نفسه. ففي بداية القرن السابع عشر لم يلق التقدّم التكنولوجي المذهل كبير اهتمام، بل إنه شكّل مصدر إزعاج بسبب من فرضه وتيرة متسارعة للتغيرات الاجتماعية بحيث اهتز ثبات الهياكل الاجتماعية ومؤسساتها التي صارت عرضة لعدم الاستقرار.

أفرز هذا التحوّل المتزايد لأنماط الارتباط الاجتماعي، ولأشكال الممارسة الحياتية، ولجوهر المعرفة الشكل الثاني للتسارع الملحوظ في التغيّر الاجتماعي. ويتجلّى التسارع داخل المجتمع نفسه في “المواقف والقيم والعلاقات والالتزامات الاجتماعية، وفي مجموعات الطبقات واللغات الاجتماعية ، بقدر ما تغيّرت أشكال الممارسة والعادات بمعدّلات متزايدة”[12].


فكل ما تطالعنا به الحياة المعاصرة، وتقذفه أمامنا من معارف في القطاعات الحياتية كافة؛ السياسية والمهنية والتقنية وكذلك الجمالية والقيمية، لا تصمد أمام التسارع الذي يطيح بها ويرمي بها إلى التدهور. فكل شيء قابل للتبخّر، وكل مايتمّ إنتاجه فقاعات قصيرة المدى الزمني، لا شيء ثابت ولا شيء مستقر، الأشياء تتبدّل وتذوي ويذروها التسارع “كالعناوين وأرقام الهواتف والأصدقاء والعلاقات، وساعات العمل في المكتب أو المتجر…وشعبية النجوم الحزب والسياسيين، والوظائف و…”[13].


وللدّفاع عن أطروحته وبرهنة ما يرمي إليه حول التغيّرات البنيوية التي مُنيت بها المؤسسات الاجتماعية تحت مطرقة التسارع، يركّز روزا على “نقطة مرجعية أساسية، وهي المؤسسات التي ترعى عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج، كمؤسستي الأسرة والعمل وذلك لأنّها تشكّل الهياكل الأساسية للمجتمع”…”[14]


الأسرة على سبيل المثال هي نموذج ساطع لاختراق التسارع لبنيتها. ويقيم روزا مقاربة يبيّن فيها تحوّلات الأسرة وأحوال الإيقاع التاريخي الذي تبدّلت عبره. فالبنية الأسرية النموذجية للمجتمع الزراعي بقيت مستقرّة نسبيًا لقرون عدّة، وحتّى التغيّر الذي طالها في مرحلة “الحداثة الكلاسيكية” كان “سليمًا”، بمعنى أنّ إيقاع دورانه تماشى متساوقًا مع مقتضيات الحداثة.


لكن، “في الوقت الحالي فالتغيير في هذين المجالين؛ الأسرة والعمل، اتّخذ مسارًا متصاعدًا، من تسارع بين الأجيال في أوائل العصر الحديث intergénérationnel، إلى تسارع ضمن الجيل نفسه générationnel في الحداثة الكلاسيكية، إلى إيقاع عابر للأجيال في الحداثة المتأخّرةintragénérationnel”.


من جانب موازٍ فيما يتعلّق بعالم العمل فقد حصل الأمر نفسه. ففي مجتمعات ما قبل الحداثة وبدايات العصر الحديث، كان يتمّ توريث مهنة الأب للإبن واستمرّ الأمر على هذا النحو لأجيال عدّة. في المقابل، تميل الهياكل المهنية في الحداثة الكلاسيكية إلى التحوّل؛ فالأبناء والبنات لاحقًا أحرار في اختيار مهنتهم أو عملهم، ولكنهم يمتهنون صنعة أو وظيفة اجتماعية واحدة وإلى الأبد.

ويدخل المشهد في الحداثة المتأخرة منحى أكثر تصاعدًا نحو التسريع، فلا يلبث المرء أن يبدأ بعمل في مكان ما حتّى ينتقل إلى آخر، فإيقاع تغيّر المهن أعلى من الأجيال نفسها.

  • التسارع في التغيير الاجتماعيL’accélération du rythme de vie

يقول روزا:”ربّما كان الجانب الأكثر قمعًا وذهولًا في التسارع الاجتماعي هو “المجاعة الزمنية”Famine temporelle  المذهلة والوبائية للمجتمعات الغربية الحديثة. في الحداثة، يشعر الفاعلون الاجتماعيون بشكل متزايد أنّ الوقت ينفد منهم وأنهم يستنفدونه. يبدو الأمر كما لو أنّ الوقت كان يُنظر إليه على أنّه مادّة خام قابلة للاستهلاك مثل البترول، وأنّه بالتالي سيصبح نادرًا ومكلفًا بشكل متزايد.


هذا الإدراك للوقت هو في قلب النوع الثالث من أنواع التسارع الذي يكتسح المجتمعات الغربية”[15]. وتنطوي “المجاعة الزمنية” على تناقض أو مفارقة مفادها هو “تعاظم الرغبة والحاجة إلى القيام بالمزيد من الأعمال، في وقت أقل”.  ففي تسريع إيقاع الحياة الاجتماعية يشعر الفرد بأن الوقت يتسرّب منه ولا يملك منه ما يكفيه لإنجاز أعماله. ولكن كيف نقيس وتيرة الحياة؟ يسأل روزا.

من وجهة نظر موضوعية، يمكن قياس التسارع في الحياة الاجتماعية بطريقتين؛ الأولى هي أنّ ضغط الوقت يصير قابلًا للقياس من خلال رصد الأعمال التي نقوم بها في وحدة زمنية ما. فنحن بتنا نكثّف أعمالنا ونمارسها في وقت متزامن ومحدود، “فالتسارع يعني أننا نقوم بالمزيد من الأشياء في وقت واحد”.

من هنا يظهر أنّ توجيه الدراسات حول كيفية استخدام الوقت مهمًّا وملحًّا. وينبّه روزا إلى مظاهر دالّة على تغيّر نمط الحياة الشخصية والتي صارت نمطًا اجتماعيًا دارجًا ومُعمّمًا. “فنحن على سبيل المثال، نميل بوضوح إلى تناول الطعام بشكل أسرع، والنوم أقل، والتواصل مع أفراد الأسرة بوتيرة أخف مما كان عليه أسلافنا”.


والطريق الثانية لاستكشاف تسارع وتيرة الحياة الموضوعية، هي قياس الرضوخ الاجتماعي الذي صار نمطًا حياتيًا لضغط التجارب والإجراءات، والتي تُسمّى تعدّد المهام. يدخل عنصر التكنولوجيا هنا كعنصر تسريع المهام وليس الوقت، فيتقاطع الشكل الأوّل من أشكال التسارع ذي الطابع التقني، مع الثالث ذي المجال الاجتماعي حيث يتفاعل “ضغط الاجراءات والتجارب في الحياة اليومية”.

فمثلًا “مشاهدة التلفاز، المكالمات الهاتفية، التواصل الاجتماعي التقني، المواصلات، القيام بالأعمال الإدارية”، هذه كلّها تحصل بسرعة متواترة بسبب من التكنولوجيا التي تيسّرها. وهكذا “يمكن تعريف التسارع التقني على أنه زيادة الكفاءة لكل وحدة زمنية، أي عدد الكيلومترات المقطوعة في الساعة، أو عدد بايتBytes البيانات المنقولة في الدقيقة، أو عدد السيارات المنتجة في اليوم.


لذلك فإنّ التسريع التقني يعني بالضرورة تقليل الوقت اللازم لإنجاز الإجراءات والعمليات اليومية للإنتاج والتكاثر، والاتصالات والنقل وكمية المهام…”[16]

هذه هي النماذج أو الأحوال الثلاثة المؤشرة على نمط التحوّل الذي عرفه مفهوم الزمن في الحداثة المتأخّرة كما عرضه روزا. وبعيدًا عن الحكم المبكر لتقييم هذه الظاهرة التي ارتأى ممثّل الجيل الرابع تسميتها “بالتسارع”، فإنه يسمح لنفسه و”كقناعة خاصّة”، بأن يصف العصر الذي يصطبغ بها بأنه “مضطرب”، وبأنّ هذا الاضطراب يقود العصر الحديث إلى “أزمة متعلّقة بالزّمن”.


وفي خضمّ تسعير الحركة واصطهاجها، وبالرّغم من هيجان الزمن وعصابية ناسه الذين يعيشونه، يعلن روزا “نهاية الحركة”، فغلواء الحركة وغلوّها لا يدلّان في العمق إلا على نهايتها وانحدارها نحو التلاشي. فالعصر الراهن بحسب تعبير روزا صار “قفصًا فولاذيًّاCage d’acier لا متحرّكًا، لا يشهد أي تحوّل أساسي ولا يعرف أي جديد يُذكر. ويوشك في هذه الحالة أن يظهر ضجر مخيف خال من كل حدث أو معنى.


  • التسارع والاستلابAccélération et Aliénation

يتركّز النظر النقدي عند روزا إذًا في مدار الحداثة، كما كان الأمر دائمًا وبالتوارث في مدرسة فرنكفورت. لكنّ ممثّل الجيل الرابع ينبري لوضع عنوان متمايز وخاص لاجتهاده النقدي تحت مسمّى “التسارع”، “ليس من شك أنّ تاريخ الحداثة يزخر بالشكاوي المتكرّرة بخصوص تسارع وتيرة الحياة بشكل مسعور، حيث أصبح هذا التسارع مُسبّبًا للعديد من الأمراض الاجتماعية ومصدرًا للتهيّجات الفائقة”[17].


وهنا أيضًا يتبلور موقف روزا كمنتمٍ للنظرية النقدية، عندما ينهمّ باستنباط الأضرار الناجمة عن جائحة التسارع، وفشوّها عبر أمراض اجتماعية كالاستلاب الذي لطالما كشف منظّرو النظرية النقدية عن أشكاله التي تتحوّل وتتبدّل تبعًا لخصوصية اللحظة التاريخية، وما تحمله من جديد بخاصة في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة الولّادة للأزمات.

فعندما يكفّ الزمن عن أن يكون زمن الفرد، وعندما يتفوّق الوقت على الإنسان فلا يكاد يشعر بسيلانه، ويعجز عن التقاطه عبر تحقيق ذاته وخلق معنى لوجوده في الزمن ولحظاته الثلاثة؛ الماضي والحاضر والمستقبل، يغرق الفرد حينذاك في الاستلاب.


فابتلاع التسارع والتسريع لانشغالات الأفراد والتي عرضنا لأشكاله الثلاثة، يشلّ قدرتهم على الفعل في زمنهم الخاص فيغتربون عنه وعن أنفسهم، “في المجتمع الرأسمالي المعاصر، يزول الطابع التزامني أو الزمن السّيري Temps biographique للوقت، ويطفو طابع متنافر وغير متوافق. هذا الطابع السائد في المجتمع يجعل الأفراد يدركون زمانهم على المستويات الثلاثة التي أشرنا إليها سابقًا، وكأنّهم مستلبين، وبالتالي يفقدون القدرة على على دمج وجودهم الشخصي ضمن ماضٍ غنيّ بالدلالات وبمستقبل حامل للمعنى”[18].


فالإشكال الأساسي الذي يتغذّى عليه الاستلاب، يتفاقم في المفارقة التالية:” كلّما ظننّا أننا ربحنا وقتًا أكثر، كلّما افتقدناه بشكل أكثر”. “فتسارع التغيّر الاجتماعي يجعل الأفراد أمام المشكلة التالية: يجب عليهم تخطيط حياتهم على المدى البعيد حتّى يحقّقوا استقرارًا زمنيًا، غير أنّه يتعذّر عليهم في الوقت نفسه تحقيق هذا الإجراء العقلاني بسبب عرضية الشروط الاجتماعية المتزايدة”[19].


يميل روزا إلى السّير في فرضية استغراق المنظومة الرأسمالية للزمن واستثمارها له، وذلك من ضمن ما ابتلعته في دائرتها الواسعة. فالوقت دخل بقوّة في عجلة النسق الوظيفي الأداتي الذي هو السّمة المتغلّبة والمسيطرة للمجتمع الرأسمالي المعاصر حتّى بات بإمكاننا الحديث عن “اقتصاد الزمن”.


هكذا يفقد الوقت طابعه التزامني والسّيري التقليدي، ويكتسي منظورات زمنية نظامية ومؤسساتية حدّدتها بنية نظامية يُمسك بها “في أغلب الأحيان رؤساء مؤسسات اقتصادية واقتصاديون كبار، ومسؤولون سياسيون”[20]. هؤلاء من يقبضون على كل شيء، ويسيّرون الرغبات والأفراد والزمن والميول والنوازع.


وهم يلومون ويحاسبون أو لنقل يعاقبون كلّ من يبدي تصلّبًا أو عدم قبول طوعي أو ممانعة أو “تثاقل” حيال هذه العمليات النظامية للوقت. فعلى الكل أن ينساق وأن يضبط إيقاع زمنه، وعقارب ساعته بحسب الوظيفة المنوطة به للإنتاج.


يخلص روزا إلى الاستنتاج بأنّ كل هذه المعطيات تضع أمام الدراسات السوسيولجية مناقشة جدية لفرضية باتت أقرب إلى الحقيقة، مفادها الاعتراف بوجود قطيعة فيما يخصّ تطوّر الحداثة، وأننا دخلنا طور “الحداثة الثانية” أو الحداثة الليبرالية الموسّعة”، أو “الحداثة المتأخّرة” أو “ما بعد الحداثة”.


ويقول روزا:” بهذا الصّدد، يجدر بنا أن نشير إلى وجود نقاش دائر الآن في ميدان العلوم الاجتماعية بخصوص مفهوم القطيعة التي أشرنا إليها سابقًا: هل هذه القطيعة بنيوية؟ متى وأين بدأت من الناحية التاريخية؟ هل تمثّل بداية لعصر جديد؟ وإذا كان الأمر كذلك، متى بدأ هذا العصر؟ وهل يتعلّق الأمر بقطيعة ضمن الحداثة نفسها، أم قطيعة مع الحداثة؟”[21].


هكذا يبقى روزا ضمن مدار التقليد الفرنكفورتي المميّز ولو بخطوطه العريضة وعناوينه الواسعة المنسجم والمتّصل مع الشّغل النقدي الذي انغمس فيه المنظرون المتعاقبون على مدرسة فرنكفورت.


[1] – هارتمت روزا، فيلسوف وعالم إجتماع ألماني معاصر(1965). يشغل حاليًا منصب أستاذ بجامعة فريدريش شيلر بمدينة إيينا الألمانية، وهو أستاذ زائر في في جامعة كولومبيا. وهو ممثّل الجيل الرابع لمدرسة فرنكفورت، من أهم كتبه: Accélération, une critique sociale du temps. Traduit de l’allemand par Didier Renault, Paris, La Découverte, 2010. Et : Aliénation et Accélération, vers une théorie critique de la modernité tardive, La Découverte, 2012.

[2] – عُرفت بداية بمعهد البحوث الاجتماعية الذي تأسس المعهد بتمويل  من مجموعة من الماركسيين كجورج لوكاتش و كورش وغرونبرغ، الذين أخذوا على عاتقهم تفعيل الخطاب الماركسي وإعادة زخمه. وقد اتخذ نشاط المعهد مع المؤسّسين اللاحقين تسميات عديدة وعرف بالنظرية النقدية تأثّرًا بمؤلّف مديره الأبرز ماكس هوركهيمر(1895-1973) “النظرية التقليدية والنظرية النقدية” (1937) ومن الجيل الأوّل نذكر أيضًا تيودور أدورنو(1903-1969) وهربرت ماركوزه(1895-1973).

[3] – تعدّ هذه الأطروحة الأساسية لكتاب “جدل التنوير”(1944)، الذي ألّفه كلّ من ماكس هوركهيمر(1895-1973) وتيودور أدورنو(1969-1903).

[4]https://lareviewofbooks.org/…/social-acceleration-and

[5] – Aliénation et Accélération, vers une théorie critique de la modernité tardive, op. cit, p.28.

[6]https://lareviewofbooks.org/…/social-acceleration-and

[7] – Aliénation et Accélération, vers une théorie critique de la modernité tardive, op.cit, p.12.

[8] – Ibid,p.12.

[9] -Ibid,p.14.

[10] – Ibid,p.15.

[11] – Ibid,p.15.

[12] – iBid,p.17.

[13] -Ibid,p.20.

[14] – Ibid,p.20.

[15] – Ibid,p.21.

[16] – Ibid,p.22.

[17] – Ibid,p.33.

[18] – Ibid,p. 35.

[19] – Ibid,p.42.

[20] – Ibid,p.54.

[21] – Ibid,p.61.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى