النّاقد الدّكتور صلاح فضل يتتبّع الشّعريّة العربيّة
عُرف النّاقد الدّكتور صلاح فضل- رحمه الله- للجمهور العربيّ المهتمّ بالشّعر والشّعراء من خلال حلقات برنامج “أمير الشّعراء”، وهو مسابقة عربيّة غير مسبوقة في جماهيريّتها وترقّب المشاهد العربيّ لحلقاتها، فقد كان د. فضل أحد أعضاء لجنة التحكيم فيها، وكان لشخصيّته النقديّة المميّزة المطبوعة بطابع الفكاهة حضور لافت للمشاهد العربيّ ما أكسبه شهرة مضاعفة تخطّت أسوار الجامعة وأتباع النقد الأكاديميّ وأوساط النخب الثقافيّة الكلاسيكيّة، وكنت قد توقّفت عند الموسم الثالث من مواسم برنامج “أمير الشعراء”، وبيّنت جانباً من شخصيّته وملحوظاته النقديّة في كتاب “بلاغة الصنعة الشعريّة”[1].
أمّا في هذه الوقفة فسأتحدّث عن كتاب الدّكتور فضل “تحوّلات الشّعريّة العربيّة”[2]. ويصنّف الكتاب ضمن النّقد التّطبيقيّ، مع اهتمام النّاقد المتمرّس الدّكتور صلاح فضل في الغالب بالنّاحيتين التّاريخيّة وتاريخ الأدب خلال تقديمه للنّماذج الّتي تناولها في كتابه.
وتتشكّل مادّة الكتاب من مجموعة مقالات كتبت على فترات متباعدة، وبعضها ألقي في محاضرات أو ندوات، أو كتبت في مناسبات معيّنة، ويرصد من خلالها التّحوّلات الشّعريّة الّتي دخلت على القصيدة العربيّة المعاصرة بدءا من شوقي وما بعده، راصداً تلك التّحوّلات بدراسة النّماذج الشّعريّة الممتدّة لما يقارب القرن من الزّمن. فيلاحظ كلاسيكيّة شوقي ونظرائه من أتباع الاتّجاه الكلاسيكيّ في الشّعر العربيّ المعاصر ومنجزات القصيدة الكلاسيكيّة في تلك الفترة وأهميّة تلك المرحلة، ثم يتابع تاريخيّاً رصد التّحوّلات الشّعريّة، فيتوقّف عند نقّاد شوقي وما أحدثه الاتّجاه الجديد كذلك من تراكيب وأنماط شعريّة جديدة كان لها أثرها في حركة الشّعر العربيّ.
وفي المقالات الآتية يتوقّف النّاقد عند شعراء عرب أحدثوا حسبما يرى تحوّلات ذات قيمة في القصيدة العربيّة سواء على صعيد الشّكل أم على صعيد المضمون أو تركيب الجملة، فيدرس شعر نزار قبّاني وما أحدثه في عالم المرأة من اهتزاز في البنية الاجتماعيّة الّتي كانت تنظر نظرة مغايرة للمرأة، ثم يتوقّف عند خليل حاوي وإنجازاته الشّعريّة في الشّكل والمضمون، في وقفتين؛ الأولى يتناول فيها ما أطلق عليه تكوير الشّعر وهندسة الجمل، فيرى فضل أنّ “كيان القصيدة لديه يتجسّد في حركات منتظمة يحقّقها نسق كلّيّ متضافر…، يدخل فيه الشّكل الحسيّ للأصوات والأقوال،… والتّكوير البارز للمواقف والأحوال”[3].
أمّا الجانب الثّاني فيتعلّق بالمضمون الّذي يجد له حضوراً فيما أطلق عليه “الصّور النّحويّة والبطانة الفلسفيّة”، ويقدّم الدّكتور فضل للتّدليل على ما نظّر له في هذا الباب تحليلاً لقصيدة حاوي “لعازر 62” الّتي يراها “حافلة بالإشارات المكثّقة من الكتاب المقدّس”[4].
وفي المقالة الخامسة يتناول بالتّحليل النّقديّ العميق “شعريّة الوطن” عند الشّاعر العراقيّ عبد الوهّاب البياتي، فيناقش مفهوم الوطن في الشّعر والفكر عقب ما تردّد من سحب الجنسيّة العراقيّة من الشّاعر البياتي آنذاك، كما يشير النّاقد نفسه، وهنا يأخذ النّقد التّحليليّ بالارتباط العضويّ مع حدث خارجيّ يقع ضمن المؤثّرات الخارجيّة الّتي تساهم في تخليق الشّعر والموقف الشّعريّ، فيتتبّع النّاقد حضور الوطن/ العراق في شعر البياتي، فيما أطلق عليه النّاقد بالبنط العريض كعنوان فرعيّ للدّراسة “عراق البياتي”، وكأنّ هناك عراقاً غير هذا، إنّه ما يلّخصه عنوان الدّراسة “شعريّة الوطن”.
لينتهي إلى موقف أقرب إلى الموقف الاجتماعيّ أو السّياسيّ المتهكّم على هذا التّصرّف الّذي قامت به الدّولة العراقيّة في حينه، يقول الدّكتور فضل: “ولأنّ السّلطة الجاهلة هي الّتي تقتل شعبها وهي تحسب أنّها تهشّ عنه الذّباب…. فقد كان لا بدّ أن تسحب منه الجنسيّة مرّة أخرى”[5].
وتوقّف كذلك بالدّراسة والتّحليل عند شعريّة العديد من الشّعراء على امتداد الوطن العربيّ، فمن الكويت حضر الشّاعر محمّد الفايز، فتحدّث عن استفادة الشّاعر من التّراث الشّعريّ القديم حيث حاور الفايز كلّا من المتنبّي والمعريّ، فأضاف رؤيته الحديثة، ولم يظلّ أسير الرّؤية القديمة، على ما بيْن الشّاعر وذينك الشّاعرين من بون في الصّناعة والعمق الفلسفيّ، وخاصّة عند المعريّ، أو الغرور والشّعور بالذّات عند المتنبّي.
ويعود مرّة أخرى للنّفس الكلاسيكيّ في الشّعر عند الشّاعر السّعوديّ حسن عبد القرشيّ، فتوقّف طويلاً عند قصائد القرشيّ في مصر ونيل مصر، ليعدّه مصريّاً ومنتمياً للتّاريخ والحضارة المصريّة، فقد بدا القرشيّ كلاسيكيّاً ولم تظهر في شعره، كما قدّم النّاقد، أيّ ملامح بارزة لتحوّلات ذات قيمة في القصيدة العربيّة المعاصرة، سوى أنّه طوّع الشّكل الكلاسيكيّ للقصيدة العربيّة للحديث بسهولة وانسيابيّة عن موضوعات قوميّة ووجدانيّة، ويقف جنباً إلى جنب مع كلّ تلك القامات الشّعريّة الّتي تحدّثت عن مصر ونيلها.
وفي ذات السّياق القوميّ يتناول الكتابُ تجربة الشّعر الأردنيّ من خلال نماذج من الشّعراء الأردنيّين وهم: عبد الرّحيم عمر وإبراهيم نصر الله وعزّ الدّين المناصرة[6]، مجلّياً بعضاً من مظاهر التّحوّلات الشّعريّة في شعر إبراهيم نصر الله في كثير من القضايا الفنّيّة والشّكليّة وتكوين العبارة الشّعريّة المستندة إلى السّرد، ليعود ويقف عند هذا الشّاعر في المقالة الثّانية عشرة، ويبيّن أثر الرّوائيّ في الشّاعر وكيفيّة انطباع القصيدة بآفاق جديدة حيث “تشعير السّرد” غدا واضحاً في شعره.
كما يتناول النّاقد تجربة الشّاعر اليمنيّ عبد العزيز المقالح، ويقف عند ديوانه “كتاب صنعاء”، ويلاحظ حضور المدينة وخطابها في شعره وكيفيّة هذا الخطاب، ومقارنة صنعاء بغيرها من المدن ومقارنتها بنفسها قديماً وحديثاً، ليربط النّاقد كلّ تلك التّحوّلات الخارجيّة بتحوّلات في القصيدة ومزاج الشّاعر غير الرّاضي عن وضع صنعاء الّتي بدّلت وجهها لتبتعد عن نفسها.
ومن الشّعراء المصريّين تناول النّاقد صلاح فضل تجارب متنوّعة، فتوقّف عند محمّد إبراهيم أبو سنة، وكمال نشأت وأربعة أصوات شعريّة من الإسكندريّة، يتناول تجاربهم في مقال واحد، ويتنبّأ لأحمد بخيت ليكون الشّاعر المصريّ الأوّل في السّنوات القادمة[7]، ومشيداً بإنجاز الشّاعر شريف الشّافعي الّذي قدّم شكلاً شعريّاً فجّر فيه “الشّكل العرفيّ للتّقصيد دون أن يقترح مكانه شكلاً آخر”[8].
ولذلك يرى الدّكتور فضل أنّ هذه المحاولة كانت “فوضى مريعة”، وعلى الرّغم من “الموهبة الشّعريّة الخارقة الّتي يمتلكها المؤلّف”، كما قال فضل، إلّا أنّ هذه “الإمكانات الحقيقيّة لم تُوظّف في تخليق منظومات أو أنساق شعريّة مركّبة تصنع كيانها العضويّ دراميّاً وملحميّاً أو حتّى غنائيّاً بما يمكن أن يمثّل نقلة نوعيّة في الإبداع الجديد للشّباب”[9].
ويقف في المقالتين الأخيرتين عند تلك الضّجّة من المحاكمات الدّينيّة والاجتماعيّة والجنائيّة للشّعر والشّاعر من خلال ما ناقشه من تجربة الشّاعرة الكويتيّة عالية شعيب وتجربة الشّاعر الأردنيّ موسى الحوامدة، فيردّ الدّكتور فضل عنهما التّهمة، محاولاً وضع تلك المحاكمات في سياقٍ يدينها بناء على أنّ اللّغة الشّعريّة لا تؤخذ كما يؤخذ الكلام العاديّ[10].
وأشير كذلك إلى أنّ حضور المرأة الشّاعرة أيضا كان باهتا؛ إذ تمثل في الشّاعرة الكويتية عالية شعيب الّتي حوكمت بسبب الشّعر، ولم يكن للمرأة ذلك الحضور الّذي يبيّن أثرها في التّحوّلات الشّعريّة للقصيدة الحديثة، على الرّغم من ارتباط حركة التّجديد في القصيدة العربيّة بشاعرة، وهي الشّاعرة العراقيّة “نازك الملائكة”، وإن ظلّت بعض العقول الّتي لا ترتاح لريادة امرأة في أيّ مجال تقحم معها الشّاعر العراقيّ بدر شاكر السّيّاب.
ويؤكّد هذا الحضور الباهت للمرأة الشّاعرة في كتاب الدّكتور فضل، ما كنتُ ناقشته في الفصل الثّالث من كتاب “بلاغة الصنعة الشعريّة”[11] من حضور المرأة المتواضع في دراسات النّقّاد، كما لم يكن لها ذلك الحضور البارز في المجاميع الشّعريّة الّتي توقّفت عندها. كما أنّ الدّكتور صلاح فضل لم يُعِر قصيدة النّثر الاهتمام المجلّي كتطوّر تاريخيّ للقصيدة خرج عن كلّ الموروث الشّعريّ القديم والمعاصر، عدا ما تخلّل التّحليل النّقديّ من الإشارة لهذا النّوع من الشّعر تبعاً لوجود نماذج منه (كانت هامشيّة) في شعر الشّعراء الّذين توقّف عند شعرهم.
وأخيراً، فإنّ هذا العرض لا يغني بأيّ حال من الأحوال عن قراءة الكتاب والاستمتاع بلغته النّقديّة العالية الّتي وظّف فيها الدّكتور صلاح فضل اللّغة والمصطلحات النّقديّة بعيداً عن التّعقيد المدرسيّ، بل كانت شخصيّة النّاقد الخبير البصير بما يريد حاضرة جليّة، فيعبّر بلغة يفهمهما جمهور المثقّفين، ويستفيد منها كلّ شاعر شابّ أو شاعر محنّك، عدا ما اختاره من نصوص شعريّة تدلّ على تلك الذّائقة الفنّيّة المدرّبة والواعية جماليّاً.
وهو قبل ذلك كلّه وبعده، يقدّم خريطة لتطوّر الشّعر العربيّ وتحوّلات الشّعريّة العربيّة، وإن بدا هذا الهدف باهتا أحياناً في بعض المقالات الّتي تناولت بعض الشّعراء الكلاسيكيّين أو عندما تحدّث عن الشّعراء الشّباب (شعراء الثّغر، وأحمد بخيت) مثلاً، أو عندما حضرت المضامين على حساب الهدف العامّ من الكتاب أو عنوانه كما حدث في مناقشة الشّعر القوميّ عند مجموعة من الشّعراء الأردنيّين، إلّا أنّه ربّما اشتمّ منها النّاقد بعض خيط يجمعها بالعنوان الأكبر في “تحوّلات الشّعريّة العربيّة”، ولن يُعجز ناقداً فذاً كالدّكتور صلاح فضل أنْ يجد رابطاً بين كلّ تلك المادّة المتشعّبة.
الهوامش:
[*] توفي الدكتور صلاح فضل- رحمه الله- بتاريخ: 10 ديسمبر 2022.
[1] يُنظر الكتاب، طبعة دار روافد للنّشر والتوزيع، القاهرة، 2020، من ص471-485.
[2] صدر الكتاب عام 2013 عن دار رؤية للنّشر والتّوزيع، في القاهرة، ويقع الكتاب في (275) صفحة من القطع المتوسّط.
[3] السّابق، (ص75)
[4] السّابق، (ص80)
[5] السّابق، (ص98)
[6] هؤلاء الشّعراء، ومعهم موسى الحوامدة شعراء فلسطينيّون، مقيمون في الأردنّ.
[7] يبدو أنّ نبوءته لم تتحقّق، فقد انطفأ وهج الشّاعر بعد أن سطع قليلاً خلال مشاركته في برنامج “أمير الشّعراء”، لينضمّ إلى بقيّة الشّعراء المتوارين في الظّلّ.
[8] تحوّلات الشّعريّة العربيّة، (مرجع سابق)، (ص216)
[9] السّابق، (ص227)
[10] ناقشت هذه المسألة في الفصل الرّابع من كتاب بلاغة الصّنعة الشّعريّة، يُنظر الكتاب ص 324-325.
[11] ناقشت هذه القضيّة في كتاب “بلاغة الصّنعة الشّعريّة”، الفصل الثّالث “وهج المرأة الشّاعرة”. يُنظر الكتاب ص 118-207.