إدغار موران: كورونا أدخل البشرية في مغامرة مذهلة وجعلنا نُدرك أننا نعيش في عالَم الشك والمأساة
يأمل الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع إدغار موران أن “يجعلنا هذا الوباء القاتل ندرك أننا ندخل مغامرة مذهلة للبشرية”، و أن “ندرك أيضا أننا نعيش في عالم الشك والمأساة على حد سواء”.
ويقول موران، في حوار مطول مع جريدة “لوموند” الفرنسية، “ستكون مرحلة ما بعد الوباء مغامرة غير محسوبة العواقب، حيث ستتطور قوى الشر وقوى الخير، ولا تزال هذه الأخيرة ضعيفة ومتفرقة. دعونا نعلم أخيرا أن الأسوأ غير مؤكد، مع إمكانية حدوث ما هو غير وارد في الحسبان”.
ويقول موران، في حوار مطول مع جريدة “لوموند” الفرنسية، “ستكون مرحلة ما بعد الوباء مغامرة غير محسوبة العواقب، حيث ستتطور قوى الشر وقوى الخير، ولا تزال هذه الأخيرة ضعيفة ومتفرقة. دعونا نعلم أخيرا أن الأسوأ غير مؤكد، مع إمكانية حدوث ما هو غير وارد في الحسبان”.
ويحذر موران من “الانتشاء بجنون ما بعد الإنسانية” الذي “يحملنا إلى ذروة أسطورة الضرورة التاريخية للتقدم وتحكم الإنسان في الطبيعة، وحتى في مصيره، من خلال التنبؤ بأنه سيبلغ الخلود والسيطرة على كل شيء بواسطة الذكاء الاصطناعي.”.
ويرى موران أنه ما زال “ليس واضحا إلى حد الآن، بعد نهاية العزل، أن السلوك والأفكار المبتكرة سيكتب لها النجاح، وستؤدي إلى ثورة سياسية واقتصادية، أم أن النظام المهتز سوف يستعيد مكانته”.
ومع ذلك يتوقع موران أن الأزمة الحالية ستؤدي لا محالة إلى تحولات-سواء كانت تقدمية أو رجعية- وقد تتطور إلى ثورة. ويقول “كل أزمة في المجتمع يترتب عنها عمليتين متناقضتين، الأولى تحفز الخيال والإبداع للبحث عن حلول، وأما الثانية تتنوع بين البحث عن طريق للعودة إلى الاستقرار كما كان في الماضي، أو التماس العناية الإلهية وكذلك شجب المذنب أو التضحية به”.
ويلاحظ الفيلسوف الفرنسي أنه بدأت تنتشر بعض “الأفكار المضللة والضعيفة في كل مكان: كالعودة إلى السيادة، دولة الرفاهية، الدفاع عن الخدمات العمومية ضد الخصخصة، إعادة التوطين، تفكيك العولمة، مناهضة الليبرالية الجديدة، الحاجة إلى سياسة جديدة. ويتم تحديد الأشخاص والأيدلوجيات كجهات مذنبة”.
ويذهب موران إلى أن هذه الأزمة أكدت مرة أخرى بأن العلم ليس مرجعا للحقائق المطلقة، على عكس الأديان، لأن نظرياته قابلة للتلاشي تحت تأثير الاكتشافات الجديدة.
وعن تجربة الحجر المنزلي يقول موران بما أنه ليس قسريا فقد “سمح للسكان بالانتقال داخل الحي، بينما كان العزل في “الغيتو” بمثابة إعداد للموت. أما هذا الحجر الذي نعيشه هو دفاع عن الحياة”. ويختم “باختصار يجب أن يشجع العزل الذاتي على تحرير العقول”.
وفي حواره هذا يحكي موران لأول مرة عن حيتاته الشخصية وكيف خرج إلى الوجود بصعوبة من بطن أم أصيبت بالأنفلونزا الإسبانية ونصحها الأطباء بعدم الحمل، وبعد إجهاض مرتين حملت بموران الذي اختنق بحبله السري داخل بطن أمه قبل خروجه إلى الوجود، وظل الطبيب يصفعه لمدة نصف ساعة قبل أن يطلق صرخته الأولى في الكون.
ويثني موران في هذا الحوار على شريكة حياته وزوجته المغربية “صباح” التي قال إنها منحته دافع المقاومة.
وفيما يلي نص الحوار:
هل كان من الممكن التنبؤ بجائحة بهذا النوع من فيروس كورونا؟
انهارت جميع الدراسات الاستشرافية للقرن العشرين التي تنبأت بالمستقبل عن طريق الانتقال إليه عبورا بالحاضر. ومع ذلك، مازلنا نتوقع ما سوف يحدث في 2025 و 2050 علما أننا لازلنا غير قادرين على فهم ما يحدث في 2020. أظهرت تجربة حالات الطوارئ على مر التاريخ أنها لم تكن مقنعة لوعي الناس. ومع ذلك كان من المحتمل حدوث ما هو غير متوقع، ولم يكن من الممكن التنبؤ بطبيعته على وجه التحديد.
من هنا أعاود تأكيد قولي الدائم: “توقع ما هو غير متوقع”. علاوة على ذلك، كنت من الأقلية التي تنبأت بالكوارث المتوالية المترتبة عن جموح العولمة التقنية الاقتصادية، بما في ذلك تلك الكوارث الناتجة عن تدهور المحيط الحيوي وتدهور المجتمعات. لكنني لم أتوقع كارثة فيروسية بهذا النوع، بل كان هناك من تبنأ بهذه الكارثة، إنه بيل غيتس، حيث أعلن في مؤتمر عقد في أبريل 2012 أن الخطر المباشر على البشرية ليس هو الخطر النووي، بل الخطر الصحي. وقد لاحظ في وباء الإيبولا الذي تم احتواءه بسرعة، إعلانا لخطر عالمي محتمل بسبب فيروس شديد العدوى. وقد استعرض بيل غيتس التدابير الوقائية اللازمة، بما في ذلك معدات المستشفيات الملائمة. لكن على الرغم من هذا التحذير العام، لم يتم فعل أي شيء في الولايات المتحدة الأمريكية أو أي مكان آخر لأن الراحة الفكرية والعادة تكره الرسائل المزعجة.
كيف تفسرون عدم الاستعداد الفرنسي؟
في الكثير من الدول بما فيها فرنسا، حلت الاستراتيجية الاقتصادية محل التخزين، وتركت نظامنا الصحي يفتقر للأقنعة الواقية وأدوات الاختبار وأجهزة التنفس. بالإضافة إلى العقيدة الليبرالية وخصخصة المستشفى وتخفيض إمكانياته، التي ساهمت كلها في تعزيز المسار الكارثي للوباء.
أي نوع من الطوارئ غير المتوقعة وضعتنا هذه الأزمة في مواجهتها؟
يجلب لنا هذا الوباء الكثير من الشكوك، فنحن لسنا بعد على دراية أكيدة بأصل هذا الفيروس: هل من سوق غير مأمون في ووهان أو مختبر هناك؟ إلى حدود الآن لا نعرف الطفرات التي مر بها الفيروس أو التحولات التي من المحتمل أن تلحق به خلال فترة تفشيه. لا نعرف إلى حدود الآن متى سوف ينجلي الوباء أم أن الفيروس سوف يبقى معنا لفترة طويلة. لا ندرى حتى متى وإلى أي مدى سيجعلنا العزل نعاني من القيود والعوائق. ونحن لسنا على إلمام بالعواقب السياسية والاقتصادية الوطنية والعالمية للقيود التي فرضها هذا العزل. ولا ندرى هل يتعين علينا توقع الأسوأ أم الأفضل أو هما معا على حد سواء؛ أكيد أننا متجهون نحو شكوك جديدة.
هل هذه الأزمة الصحية العالمية معقدة للغاية؟
تتضاعف المعارف بشكل واسع، لكن فجأة تتجاوز قدراتنا أكثر مما نعتقد خاصة أمام تحدي التعقيد: كيفية التحقق من هذه المعرفة واختيارها وتنظيمها بشكل ملائم تستوجب ربطها دون إهمال عامل الشك. بالنسبة لي يكشف هذا مرة أخرى عن نقص نمط المعرفة الذي تم غرسه فينا، مما يجعلنا نفصل ما لا ينفصل ونقوم بالاختزال إلى عنصر واحد، يشكل في الوقت ذاته الكل والمتنوع. في الواقع، توحي الاضطرابات الساحقة التي نمر بها بأن كل ما هو منفصل بدا مترابطا، أي أن كارثة صحية تسببت في سلسلة من الكوارث ذات صلة بكل ما هو بشري. ومن المأساوي في حضارتنا أن يسيطر التفكير القطعي والمختزل ويسود على السياسة والاقتصاد.
هذا النقص الحاصل أدى إلى أخطاء في التشخيص والوقاية، بالإضافة إلى إصدار قرارات لا تتسم بالمسؤولية. كما أن الهوس الربح لدى القادة أدى إلى إهمال المستشفيات والتخلي عن إنتاج الأقنعة الواقعية كما حدث في فرنسا. بالتالي أعتقد أن أوجه القصور في التفكير، فضلا عن الهيمنة المتعطشة إلى الربح، بلا شك هي المسؤولة عن عدد لا يحصى من الكوراث البشرية بما فيها الوباء الذي يواصل تفشيه منذ فبراير 2020.
كانت لدينا رؤية موحدة، ومع ذلك تتزايد الخلافات بشأن علاج الوباء.
هل أصبح علم الطب الحيوي ساحة معركة جديدة؟ أن تقوم السلطات باستدعاء العلم من أجل مكافحة الوباء هي مسألة ذات طبيعة شرعية. ومع ذلك، اطمأن المواطنون في البداية، خاصة مع العلاج الذي أعلن عنه البروفيسور راؤول، لكنهم وجدوا لاحقا آراء مختلفة ومتضاربة حول فعالية هذا العلاج. ولا يجب أن ننسى أن هناك من المواطنين من يعلمون جيدا أن بعض العلماء الكبار لديهم علاقات نفعية مع لوبيات صناعة المستحضرات الصيدلانية التي تتمتع بالقوة بين الدوائر الحكومية ووسائل الإعلام، ولها القدرة على إثارة حملات سخرية عندما يتعلق الأمر بأفكار غير متوافقة.
دعونا نتذكر البروفيسور مونتانييه الذي قام بمعية بعض زملائه باكتشاف فيروس نقص المناعة البشرية المسبب لمراض فقدان المناعة “سيدا”، وقد وقفوا في مواجهة رجال الدين. إنها مناسبة جيدة لنؤكد أن العلم ليس مرجعا للحقائق المطلقة، على عكس الأديان، أي أن نظرياته قابلة للتلاشي تحت تأثير الاكتشافات الجديدة. بالتالي تصبح النظريات المقبولة معتقدات في المحافل الأكاديمية، خاصة لأولئك العلماء الاستثنائيين الذين يساهمون في تقدم العلم، بدء من باستور إلى أينشتاين و داروين ، وكريك وواتسون، مكتشفا الحمض النووي.
كل شيء يتقدم من خلال التجربة والخطأ والابتكارات غير المألوفة التي أسيء فهمها وتم رفضها في البداية. يبدو الأمر أشبه بمغامرة علاجية ضد الفيروسات، إذ من المحتمل أن تنبثق علاجات من رحم اللا متوقع. وينبغي التأكيد على أن تمزق العلوم إلى كم هائل من التخصصات، هو إغلاق للمعارف المتخصصة وتقسيمها بدلا من كونها قنوات للتواصل فيما بينها. فوق كل ذلك، قام الباحثون المستقلون بتأسيس علم الوباء منذ البداية، ويتعاونون حاليا بشكل مكثف مع أخصائيي الأوبئة والأطباء حول العالم. العلم يعيش على التواصل، لكن الرقابة تمنع ذلك، لذا يجب أن نتطلع إلى عظمة العلم المعاصر، وفي نفس الوقت يجب أن نكتشف نقاط ضعفه.
إلى أي مدى يمكننا الاستفادة من الأزمة؟
من خلال مقالي المعنون بـ”فلامريون” حاولت أن أثبت أن الأزمة، تجلب معها عدم الاستقرار وعدم اليقين، متجليا في فشل النظام في حفظ استقراره، بالتالي يذهب إلى قمع الانفلات (ردود فعل سلبية). وبعد وقف القمع فإن حالة الانفلات (ردود فعل إيجابية) تصبح مواقف نشيطة، في حالة ما إذا تطورت فإنها تهدد أكثر فأكثر بتعطيل النظام في خضم الأزمة.
في النظم الحيوية وخاصة الاجتماعية منها، فإن تطور الانفلات الذي أصبح موقفا سيؤدي لا محالة إلى تحولات-سواء كانت تقدمية أو رجعية- وقد يتطور إلى ثورة. كل أزمة الأزمة في المجتمع يترتب عنها عمليتين متناقضتين، الأولى تحفز الخيال والإبداع للبحث عن حلول، وأما الثانية تتنوع بين البحث عن طريق للعودة إلى الاستقرار كما كان في الماضي، أو التماس العناية الإلهية وكذلك شجب المذنب أو التضحية به. قد يكون المذنب ارتكب أخطاء تسببت في الأزمة، أو يكون متخيلا، وقد يكون كبش فداء وجب التضحية به.
تنتشر الأفكار المضللة والضعيفة في كل مكان: كالعودة إلى السيادة، دولة الرفاهية، الدفاع عن الخدمات العمومية ضد الخصخصة، إعادة التوطين، تفكيك العولمة، مناهضة الليبرالية الجديدة، الحاجة إلى سياسة جديدة. ويتم تحديد الأشخاص والأيدلوجيات كجهات مذنبة. وفي ظل غياب السلطات العمومية نلحظ انتشار الخيال التضامني: نظرا للنقص الحاد في الأقنعة تبادر بعض الشركات والصناع الحرفيون إلى إنتاج البديل، تسليم المنازل مجانا، المساعدة المتبادلة بين الجيران، تقديم وجبات مجانية للمتشردين، ورعاية الأطفال، علاوة على ذلك فإن الحجر الصحي يحفز قدرات التنظيم الذاتي لعلاج فقدان حرية الحركة من خلال القراءة والاستماع للموسيقى ومشاهدة الأفلام وهكذا يعمل العزل على تحفيز الاستقلالية والابتكار، على حد سواء.
هل نشهد إدراكا حقيقيا لماهية عصر العولمة؟
آمل أن يجعلنا هذا الوباء القاتل ندرك أننا ندخل مغامرة مذهلة للبشرية، ليس هذا فحسب، بل ندرك أيضا أننا نعيش في عالم الشك والمأساة على حد سواء. إن الاعتقاد بأن المنافسة الحرة والنمو الاقتصادي هما الدواء الشافي للقضايا الاجتماعية يلقي بظلاله على مأساة التاريخ البشري التي يزداد سوءًا بسبب هذا الاعتقاد.
الانتشاء بجنون ما بعد الإنسانية يحملنا إلى ذروة أسطورة الضرورة التاريخية للتقدم وتحكم الإنسان في الطبيعة، وحتى في مصيره، من خلال التنبؤ بأنه سيبلغ الخلود والسيطرة على كل شيء بواسطة الذكاء الاصطناعي. الآن نحن لاعبون\ ألعاب، مالكون\ مماليك، أقوياء\ حمقى. حتى لو استطعنا تأخير الوفاة بعد بلوغ الشيخوخة، لا نستطيع أبدا الحد من الحوادث المميتة التي تحطم أجسامنا، لن نتمكن أبدا من التخلص من البكتيريا والفيروسات التي تتكيف باستمرار عن طريق مقاومة العلاجات والمضادات الحيوية ومضادات الفيروسات واللقاحات.
أولم يتفاقم الوباء بعد الانكماش المحلي والإغلاق الجيوسياسي؟
أدى الوباء العالمي إلى تفاقم الأزمة الصحية في بلادنا، كما خنق الاقتصاد، وتحول نمط الحياة المنفتح على الخارج إلى الانطواء في المنازل، ووضع نظام العولمة في أزمة عنيفة. علما أن هذه الأخيرة أنتجت ترابطا متبادلا، دون أن يكون هذا الترابط مصحوبا بالتضامن.
الأسوأ من ذلك أن نظام العولمة أتسم، خلال العقود الأولى من هذا القرن، بالتضييق على أساس العرق والقومية والدين، وكنتيجة لذلك تحولت الدول القومية إلى شؤونها الداخلية، في ظل غياب المؤسسات الدولية وحتى الأوربية القادرة على إبداء تجاوبها مع العمل التضامني. حتى أن جمهورية التشيك قامت بسرقة الأقنعة الطبية التي كانت متجهة صوب إيطاليا، وعملت الولايات المتحدة الأمريكية على تحويل شحنة من الأقنعة الصينية لصالحها والتي كانت في الأصل مخصصة لفرنسا.
أدت الأزمة الصحية إلى سلسلة من الأزمات المتوالية. وغالبا ما تتجاوز الأزمات المتعددة أو الأزمة الكبرى ما هو معيشي لتمتد إلى ما هو سياسي، مرورا بالاقتصاد، من الفردي إلى العالمي، مرورا بالعائلات والمناطق والدول. باختصار، تسبب فيروس صغير في مدينة تم تجاهلها بالصين في إحداث اضطراب عالمي.
ما هي ملامح هذا الانفجار العالمي؟
تسلط هذه الازمة العالمية الضوء على مصير جميع البشر الذي لا ينفصل عن المصير الإيكولوجي لكوكب الأرض؛ في الوقت نفسه تزداد حدة أزمة الجنس البشري الذي لن ينجح في إعادة تشكيل وجوده، في ظل أزمة اقتصادية تهز المبادئ التي تتحكم في الاقتصاد، وتهدد بتفاقم حالة الفوضى والعجز في المستقبل.
أما هذه الأزمة الوطنية فتكشف اللثام عن السياسة التي تفضل رأس المال على نحو يعيق العمل، وتضحي بالوقاية والاحتياطات اللازمة من أجل زيادة الربح والقدرة التنافسية. أما الأزمة الاجتماعية فتسلط الضوء على غياب المساواة بين أولئك الأطفال والآباء الذين يعيشون في مساكن صغيرة، وأولئك الذين تمكنوا من الفرار إلى إقامتهم البديلة بالمناطق الخضراء.
تدفعنا الأزمة الحضارية إلى فهم أوجه القصور في التضامن وكذا التسمم الاستهلاكي الذي طورته حضارتنا، كل هذا يستدعي منا التفكير في سياسة الحضارة ( سياسة الحضارة، سمير ناير، آرليا 1997). كما تكشف لنا الأزمة الفكرية عن الثقب الأسود الهائل في ذكائنا، لذلك تبدو التعقيدات الواضحة في الواقع غير مرئية بالنسبة لنا.
أما الأزمة الوجودية فتدفعنا للتساؤل حول أسلوب حياتنا واحتياجاتنا الحقيقية وتطلعاتنا الحقيقية المخفية في عزلة حياتنا اليومية، كما تدفعنا هذه الأزمة إلى إحداث فرق بين الترفيه الباسكالي الذي يبعدنا عن حقائقنا والسعادة التي نجدها في القراءة أو الاستماع أو رؤية روائع تدفعنا لمواجهة مصيرنا الإنساني.
قبل كل هذا، يجب أن تفتح هذه الأزمة عقولنا خلال الوقت الراهن على ما هو أساسي وثانوي وعديم الجدوى: أي الحب والصداقة من أجل النماء الفردي والمجتمعي وتضامننا معا، فضلا عن مصير الإنسانية حيث كل واحد منا يشكل جزء منه. باختصار يجب أن يشجع العزل الذاتي على تحرير العقول.
ماذا يعني الحجر بالنسبة إليك؟
أو بالأحرى كيف نعيشه؟ إن تجربة الحجر المنزلي المفروض على المواطنين لفترة طويلة هي تجربة لا تصدق. تحيلنا كذلك على عزل اليهود في “الغيتو” بوارسو، لكن هذا العزل سمح للسكان بالانتقال داخل الحي، بينما كان العزل في “الغيتو” بمثابة إعداد للموت. أما هذا الحجر الذي نعيشه هو دفاع عن الحياة.
من جهتي أيدت هذه التجربة وفق شروط مميزة؛ في شقة بالطابق الأرضي مع حديقة حيث استطيع أن آخذ حمام شمس وأستمتع بالربيع في هذا الفضاء المحمي، رفقة زوجتي صباح، والجيران الطيبين، وفي تواصل مع الأقارب والأصدقاء. عبر تطبيق السكايب أدلي برأيي التشخيصي للوسائل الإعلام المسموعة والمرئية. لكنني أعلم مسبقا أن الكثير من الناس لا يستطيعون تحمل الحجر في مساكن ضيقة مكتظة، وأما المتشردون فهم الضحايا الحقيقيون لهذا الحجر.
ما هي الآثار المترتبة عن الحجر لمدة طويلة؟
أعلم أن الحجر لمدة طويلة سيشكل بدوره عائقا كبيرا. لا يمكن لمقاطع الفيديو أن تحل محل ارتياد السينما، ولا يمكن أبدا أن يعوض “التابليت” زيارة المكتبات. كما أن التطبيقات الرقمية مثل “سكايب” و”زوم” لا تشكل بديلا لضرورة الاتصال الحقيقي المباشر. حتى أن الطعام المنزلي على الرغم من جودته، لا يعوض الرغبة في الذهاب إلى المطاعم. والأفلام الوثائقية بدورها لا تلغي الشغف بمشاهدة المناظر الطبيعية بأم العين والتجوال في المدن وزيارة المتاحف.
لن تنجلي رغبتي في زيارة إيطاليا وإسباني؛ لا ننسى أن النقص في الأساسيات يمنح تعطشا لأمور غير ضرورية. كما آمل أن تسهم تجربة الحجر في التخفيف من هوس الترحال، والهرب نحو بانكوك من أجل جلب ذكريات تُحكى للأصدقاء. أتمنى أن يساعد ذلك على الحد من النزعة الاستهلاكية والطاعة العمياء للحوافز الدعائية، لصالح الأطعمة الصحية واللذيذة والمنتجات المستدامة وليس تلك الصالحة للاستعمال مرة واحدة. لكن هذا الأمر سيتطلب بواعث أخرى ووعي جديد لإحداث ثورة في هذا المجال، ومع ذلك هناك أمل في تسارع هذا التطور الذي بدأ بالفعل.
انطلاقا من وجهة نظركم، كيف سيكون عالم ما بعد كورونا؟
بادئ ذي بدء،حري بنا التساؤل حول: ما الذي سيتبقى لنا نحن المواطنون؟ وما الذي سوف يتبقى للسلطات العمومية من تجربة الحجر؟ مجرد جزء فقط؟ أم سيتم نسيان كل شيء؟ ما يبدو مرجحا للغاية هو الانتشار الرقمي، الذي توسع نطاقه خلال فترة الحجر (العمل عن بعد، وتنظيم اللقاءات عن بعد عبر “سكايب” والاستخدام المكثف للانترنيت) سيستمر هذا الانتشار الرقمي مع جوانبه السلبية والإيجابية، التي ليست موضوع هذا الحوار.
دعونا نصل إلى ما هو أساسي؛ هل سيكوم الخروج من الحجر بداية للخروج من الأزمة الكبرى أو تفاقمها؟ انتعاش أم اكتئاب؟ أزمة اقتصادية كبرى؟ أو أزمة غذاء عالمية؟ استمرار للعولمة أو تراجع تلقائي لها؟ ماذا سيكون مستقبل العولمة؟ وماذا عن النيوليبرالية المهتزة، هل سوف تستعيد سيطرتها؟ وهل ستقاوم الدول العظمى بدرجة أقوى من الماضي؟ هل ستزداد حدة النزاعات المسلحة أم أن الأزمة سوف تُضعفها؟ هل سيكون هناك تعاون على الصعيد الدولي؟ هل سيشهد العالم نموا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كما حدث بعد فترة وجيدة من نهاية الحرب العالمية الثانية؟ هل ستمتد يقظة التضامن التي أثارتها ظروف الحجر، ليس فقط بالنسبة للأطباء والممرضين، بل حتى لدى المتطوعين وعمال النظافة، وموظفي البنوك وعمال المناولة والموزعين، هؤلاء لولاهم لما استطعنا البقاء على قيد الحياة؟ هل سيتوسع نطاق الممارسات التضامنية التي عهدناها قبل انتشار الوباء؟ هل سيستأنف المنعتقون من العزل دورتهم الاستهلاكية المتسارعة الموسومة بالجشع والأنانية؟ أم ستشهد حياة الود والمحبة ازدهارا جديدا نحو حضارة تتغنى بقصيدة الحياة وتتقوى أواصر المحبة بين الفرد والجماعة؟
ليس واضحا إلى حد الآن، بعد نهاية العزل، أن السلوك والأفكار المبتكرة سيكتب لها النجاح، وستؤدي إلى ثورة سياسية واقتصادية، أم أن النظام المهتز سوف يستعيد مكانته.
أما الانحدار العام الذي حدث خلال عشرين سنة الأولى القرن الحالي (أزمة الديمقراطية، انتصار الفساد والديماغوجية، الأنظمة الاستبدادية الجديدة، النزعة القومية، كراهية الأجانب والعنصرية) من شأنه أن يشكل مدعاة للقلق الشديد. كل هذه الانحدارات (والركود بتعبير أفضل) محتملة طالما لم يظهر المسار الجديد المٌوجه من قبل النزعة الإنسانية المتجددة في المجال السياسي، الإيكولوجي، الاقتصادي والاجتماعي.
هذا المسار من شأنه أن يعزز الإصلاحات الحقيقية، ليس على مستوى تخفيض الميزانيات، وإنما سيقود إصلاحات تهم الحضارة والمجتمع والحياة بشكل عام. ومن شأن هذا المسار أن يدمج بين المتناقضات: “العولمة” (لأجل كل ما هو تعاوني) و “تفكيك العولمة” (من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي وانقاد الأراضي من التصحر)، “النمو” (اقتصاد الأساسيات، الاستدامة، الزراعة العضوية)، “تراجع النمو” (الاقتصاد التافه، الوهمي، وغير المستدام)، التنمية (كل ما يحقق رفاهية العيش والصحة والحرية)، و”الالتفاف” (حول التضامن في المجتمع).
انطلاقا من معرفتكم بأسئلة كانط: “ماذا يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب فعله؟ ما الذي يمنحني الأمل؟ ما الإنسان؟” ما هو الموفق الأخلاقي الذي يجب أن نتبناه لمواجهة كل ما هو غير متوقع؟
ستكون مرحلة ما بعد الوباء مغامرة غير محسوبة العواقب، حيث ستتطور قوى الشر وقوى الخير، ولا تزال هذه الأخيرة ضعيفة ومتفرقة. دعونا نعلم أخيرا أن الأسوأ غير مؤكد، مع إمكانية حدوث ما هو غير وارد في الحسبان، وأنه في خضم الصراع الجسيم الذي يصعب إخماده بين عدوين متلازمين وهما “إيروس” و”ثاناتوس” يكون القرار السليم هو التحيز لصالح “إيروس”.
والدتكم لونا كانت قد أصيبت بالافلونزا الإسبانية. كما أن صدمة ما قبل الولادة التي افتتحتم بها كتابكم الأخير، منحتكم قوة الحياة وقدرة استثنائية على مقاومة الموت، وفق تعبيركم. هل مازلتم تشعرون بقوة الحياة في خضم هذه الأزمة العالمية؟
الإنفليوانزا الإسبانية تسببت لأمي في ضرر على مستوى القلب، إثر ذلك نصحها الأطباء بعدم الإنجاب. وقامت بالإجهاض مرتين، إلا أن المحاولة الثانية فشلت، وكاد الطفل أن يموت جراء الاختناق بالحبل السري. ربما في رحم أمي اكتسبت قوة مقاومة الموت التي ظلت معي طوال حياتي، لكنني تمكنت من البقاء على قيد الحياة بمساعدة الآخرين، فقط ظل الطبيب يصفعني طوال نصف ساعة قبل أن أطلق صرختي الأولى، كما ساعدني الحظ لتحمل الصدمات، ثم فيما بعد شريكتي وزوجتي “صباح” منحتني دافع المقاومة. صحيح أن “قوة الحياة” لا زالت تلازمني، بل ازدادت بالفعل خلال هذه الأزمة العالمية التي تحفزني بقوة.
حاوره: نيكولاس ترونج
ترجمه إلى العربية: عبد الحكيم الرويضي
لتحميل كتب ومؤلفات إدغار موران