الطبري: سيرة مثقف مسلم في القرون الإسلامية المبكرة
في السنوات القليلة الأخيرة، أتيحت الفرصة أمام القارئ العربي للاطلاع على عدد قليل من الكتب التي تتناول سيرة العلماء والمثقفين المسلمين في القرون الإسلامية المبكرة واللاحقة من منظور آخر، ورغم أنّ مؤلفي هذه الكتب جاؤوا ليقولوا، كما نرى في كتاب «ترجمة النفس» تحرير دويت رانيولدز، إنّ السير الذاتية لم تكن شيئا غريبا عن العالم الإسلامي، وإنما عرفت باسم التراجم.
إلا أنه لا يمكن نفي أن إعادة كتابتهم، وجلهم يعمل في جامعات غربية، لسير بعض المثقفين المسلمين كالسيوطي والغزالي وياقوت الحموي، قد جاءت بقراءات غنية، سواء على صعيد جمع وتركيب مادة غزيرة حول ما كتب عن هذه الشخصيات، وكذلك في إعادة تأويل بعض صورها وتكوين قراءات أشمل عن هؤلاء الأشخاص، الذين لعبوا دورا مهما في الفضاء العام الإسلامي، وكمثال عن هذه القراءات أشير هنا، إضافة لمؤلف رانيولدز السابق، إلى كتاب المؤرخ نيمرود هورفيتز «ابن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي» الذي قدم لنا قراءة بديعة حول يوميات ابن حنبل في بغداد، على صعيد علاقاته بالناس، ومعرفته بالطعام وثقافته،
وطبيعة حياته، وزيجاته، وتفاصيل صغيرة أخرى تتعلق بحياته، وهي معلومات كانت بمثابة مدخل مهم لفهم دور ابن حنبل لاحقاً، الذي تحوّل وفق تعبير رضوان السيد إلى واحد من أهم المناهضين لفكرة فرض تعريف أو تفسير معين من قبل السلطة للإسلام في المجال العام، لكن كما ذكرنا، وما ميز كتاب هورفيتز أنه استطاع من خلال كتب الطبقات الحنبلية إعادة تشكيل صورة أقرب عن حياة هذا الرجل، ما مكننا من فهم حياة المثقفين في الفترة العباسية، وطبيعة دخلهم ومصادره وعلاقتهم بالعامة.
ومن الكتب أو الدراسات المهمة التي نشرت في هذا السياق، ما كتبه المستشرق الألماني فرانز روزنتال حول سيرة الطبري في مقدمة ترجمة «تاريخ الطبري» للإنكليزية، وهي دراسة كان يأمل روزنتال أن تصدر في مجلد منفصل.
وقد وفّرت لنا هذه الدراسة (150 صفحة) التي نشرت في عام 1989، صورة أكثر قرباً عن حياة وطبيعة شخصية هذا المؤرخ الكبير في القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري، ونظراً لأهمية هذا الصورة، فقد ذهب مؤخراً الباحث المصري أحمد العدوي بالتعاون مع دار تراث للبحوث والدراسات إلى ترجمة هذه السيرة في كتاب صدر بعنوان «الطبري/حياته وآثاره» ما يمثل إضافة جيدة للإلمام بحياة هذا العالم وكتاباته لاحقاً، التي كانت محل دراسات وكتب عديدة، ترجم أحدها قبل سنوات للعربية بعنوان «شعرية التأريخ الإسلامي: تفكيك تاريخ الطبري» وحاول فيه مؤلفه بواز شوشان إعادة تفكيك كتاب الملوك والرسل للطبري «بوصفه نصا وليس خزائن معلومات» أي بمعنى النظر إليه بوصفه مشروع بحث لغوي ومجالاً لقراءة الأطروحات الأيديولوجية والفكرية لذاك الزمن.
- الطبري والعامة والطعام
في حياة الطبري التي يرويها روزنتال، نعرف أن الطبري ولد في إقليم طبرستان (أذربيجان حالياً) في شتاء 839، وكان الخليفة في بغداد آنذاك هو المعتصم بالله، وكان والده جرير من ذوي الأملاك، وإن لم يكن ثرياً، وفي طفولته انتقل للدراسة في الرّي (بالقرب من طهران اليوم) وقد مكث هناك قرابة خمس سنوات، تلقى فيها الأسس الفكرية التي جعلته العالم الذي سيكون عليه لاحقا، وقصد بغداد بعد سنة تقريبا من وفاة أحمد بن حنبل، وربما اعتمادا على ما جمعه روزنتال وهورفيتز عن ابن حنبل، يمكن المقارنة بين حياة الرجلين في بغداد، على مستوى المعيشة والحياة اليومية، وكيف كان يعيش مثقفو وفقهاء ذلك الزمن.
واستكمالاً لسيرته، يروي روزنتال رواية مفادها أن ما جذب الطبري إلى بغداد هي رغبته في الدراسة على يد ابن حنبل، لكن الأخير كان قد توفي قبيل دخول الطبري، وبالتالي فهو يرى أن هذه الرواية قد تكون مصطنعة، وضعت بغرض نزع فتيل العداوة التي نشبت لاحقا بين الطبري والحنابلة، وأياً يكن الأمر، سرعان ما غادر الشاب بغداد صوب الكوفة والبصرة، التي كانت تضم آنذاك علماء (حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ العقدي) بلغ بعضهم العقد الثامن على الأقل،
لاحقاً سيغادر إلى الشام ومصر وهو في العقد الثالث من عمره، ويبدو أنه لم يكن متزوجاً أو ينوي ذلك، وهذا ما تكشف عنه طرفة من طرائف اللهجة المصرية؛ إذ لما كان الطبري يبحث عن أثاث لبيته، اقترحوا عليه شراء أشياء غريبة من شاكلة «حمارين» فرد عليهم قائلا: «إنه لا إرب له في اقتناء الحمير» بينما كان المصريون يقصدون بذلك إطار السرير الخشبي، لكن روزنتال يرى أن عدم زواجه في هذه السن لم يكن غريباً آنذاك، إذ لم يتزوج ابن حنبل إلا بعد أن تجاوز الأربعين من عمره.
وعن علاقته بالعامة، يبين روزنتال أنها كانت جيدة مع الجيران، وعلى الرغم من رفعة مقامه، فإنه حلو المعشر، وكان يخرج مع جيرانه للنزهة أحياناً.
ييبين روزنتال أن الطبري رفض العمل في أي منصب حكومي عرض عليه، وأن موقفه هذا لم يكن مجرد تجسيد للصورة الذهنية التي تقضي بأنه ينبغي على العلماء أن يتجنبوا الوظائف العامة ما وسع ذلك، بل كان رفضه نابعا من رغبته في التفرغ للكتابة والتدريس.
الطريف في ما يجمعه روزنتال أيضا هي الصفات الجسمانية للطبري، إذ ينقل عن بعض المصادر أنه كان أسمر البشرة، ذا عينين كبيرتين، ولحية طويلة لم يصبها الشيب طوال حياته، وكان طويل القامة نحيف القوام، وهذا أمر لا يتعلق بصفة وراثية كما يعتقد المؤلف، إذ كان الطبري واعياً بأهمية الحمية في الغذاء، ولذلك تجنب تناول الدهون واللحم الصرف والسمسم والعسل والتمر المجفف من باب أنها تساهم في تخريب الأسنان، ويفسر روزنتال أن هذا الأسلوب الغذائي ناجم عن تأثر الطبري بالذوق العالي في تناول الطعام، الذي انتشر على نطاق واسع بين أبناء الطبقة العليا والنخبة من المثقفين في المجتمع (ما يشبه واقع بعض النخب اليوم) وقد يبدو كلام روزنتال هنا مستعجلاً بعض الشي، إذ يمكن قراءة نصائح الطبري الغذائية بوصفها تعكس ما كان متوفراً للعامة آنذاك من طعام، فاللحم والزبيب لم يكن متوفراً للجميع، كما قد يخيل للبعض.
وكذلك حال العسل، ولذلك ربما فضل الطبري هنا إظهار الجانب الصحي المتوفر في طعام العامة مقارنة بطعام النخب العباسية، والذي يظهر من خلال كتب الطبيخ، التي وصلتنا في فترة متأخرة، أو عبر بعض ما دونه المؤرخون، أن اللحم مثلاً كان جزءاً أساسيا من مكوناته، ويمكن تفسير ذلك من باب أن فعل الطبخ بحد ذاته ارتبط بوجود اللحم، وفق ما يراه عدد من الأنثروبولوجيين التطوريين، كما يبدو أن الطبري لم يسر في هذه الخيارات من باب الورع والزهد الذي مارسه بعض المتصوفة، وهذا ما نراه في سلوك ابن حنبل الغذائي أيضا (القريب من فترة الطبري) إذ يرى هورفيتز أن عادات الأخير في تناول أصناف الطعام لم تقتصر على الخبز والملح، كما روي عنه،
بل كان طعامه أحيانا يحتوي العدس وبعض الفواكه (البطيخ) وحتى اللحم بين الحين والآخر، وبذلك ابتعد، هو والطبري، عن عادات رجال البلاط والحاشية في أنظمتهم الغذائية، خلافاً لما يراه روزنتال، وربما ما يدلل على ذلك ما ذكرته بعض الروايات من أن الطبري كان يكثر من الطعام خلال النزهات مع جيرانه في الريف، فيجاريهم في تناول أطعمتهم (الباقلاء/الفول) ما يدعم فكرة أن قاموسه الغذائي، أو ما فضله هو كان سائدا ومتاحاً للعامة آنذاك.
وعن حياته في الكتابة، نجد أن يومه كان يبدأ عند صلاة الفجر، إذ يؤديها في بيته، ثم ينشغل بالبحث والكتابة حتى يحين موعد صلاة الظهر، فيذهب إلى مسجده الكائن في سوق العطش ويصلي الظهر جماعة، ثم يجلس للناس يقرئهم القرآن حتى يحين موعد صلاة المغرب، ثم يجلس لدرس الفقه إلى أن يحين موعد صلاة العشاء. ونرى في هذا الوصف أن الطبري عاش حياة اتسمت بالانضباط الشديد، ما قد يفسر سبب قدرته على تأليف مجلدات في علم أصول الفقه وعلوم القرآن والتاريخ.
وعن عاداته في قراءة الكتاب، نرى أن الطبري كان يحمل المصنفات التي يرغب في قراءتها ويضعها في زاوية منزله، فمتى فرغ منها، أعادها إلى مكانها الأصلي، واحتفظ بدفاتر يدون عليها ملاحظاته، وأشار إليها أحيانا في كتاباته بقوله «هكذا وجدته في كتابي» ويبدو أنه لم يكن يفضل نقل روايات شفوية، بل اعتمد النقل عن النصوص المكتوبة.
وفي باب علاقته بالسلطة، ييبين روزنتال أن الطبري رفض العمل في أي منصب حكومي عرض عليه، وأن موقفه هذا لم يكن مجرد تجسيد للصورة الذهنية التي تقضي بأنه ينبغي على العلماء أن يتجنبوا الوظائف العامة ما وسع ذلك، بل كان رفضه نابعا من رغبته في التفرغ للكتابة والتدريس.
خصص روزنتال فصولاً من هذه السيرة للحديث عن علاقة الطبري المتوترة بالحنابلة، وربما ما يسجل على هذا الفصل، أن روزنتال تبنى، كما فعل عدد من المستشرقين والباحثين العرب، سردية تظهر الحنابلة أصحاب الغلو في بغداد، بينما يظهر الطبري بوصفه أقرب للعقلانية، وهذا ما يذكرنا بالثنائية ذاتها التي رسمت أثناء الخلاف بين ابن حنبل والمعتزلة، مع ذلك يعود روزنتال ليستدرك هذا الأمر عبر القول، إن الخلاف بين الطرفين ربما لم يكن فقهياً بقدر ما أن هذا الموقف الحنبلي حياله عكس حالة من التنافس، أو عدم الترحيب بوجود مذهب آخر أخذ يمثله الطبري وتلاميذه، كما يؤكد أن الروايات التي قيلت لاحقاً حول رفض الحنابلة الصلاة على جثمان الطبري قد بالغت أحياناً، إذ قيل إنّ الطبري منع من مغادرة منزله جراء تهديدات الحنابلة، ما اضطر البعض إلى دفنه ليلاً في جوار داره لوأد الفتنة، بدلاً من تحمل عواقب السير في جثمانه، بينما يرى روزنتال أن هذه الروايات ربما وضعت لاحقاً، وأن دفن الأفراد كان عادة مألوفة حينها، وربما جاء بناء على وصيته.
وخلافاً لما قد يسجل على دراسة روزنتال من ملاحظات، فإن في ترجمتها ما يفتح الباب لإعادة قراءة ما كتبه الطبري بعيون أخرى، خاصة أن المؤلف خصص فصولاً أخرى لتصنيف ما كتبه هذا العالم، لذلك وجب الثناء على المترجم والدار الناشرة.
محمد تركي الربيعو: كاتب سوري