النقد الأدبي والثقافي المزدوج
- تقديم
أصبح النقد الأدبي والثقافي، اليوم، في حاجة إلى نقد مزدوج يسائل نقد الأنا و الآخر بمقاربات مفتوحة على مختلف الأبعاد النصية من لغة وتأويل وفكر وواقع في أفق تجاوز المقاربات الأحادية للنصوص الأدبية والفكرية والثقافية واختزالها إلى أحد أبعادها فقط.
تلك هي مهمة الناقد، اليوم، أي الجمع بين الفكر الأدبي والنقدي والانفتاح على النصوص، كأعمال إبداعية منفتحة على عدد لا متناهي من القراءات التأويلية و النقدية، ما دام النص متعددا ومركبا.
يفترض التفكيك وإعادة البناء من زوايا متنوعة لفك رموزه وإحالاته سيميائيا، بارتباط مع أنساقه اللغوية والسوسيوثقافية والتاريخية، وانفتاحه على مختلف الأسئلة المعاصرة من منظور نقدي خلاق ومبدع، لتجاوز الانغلاق والتمركز الذاتي وبناء الاختلاف والمعرفة وتملك سيرورتها التوليدية بشكل جدلي مع الواقع السوسيوثقافي ورهاناته المعاصرة.
- 1- النقد المزدوج عند عبد الكبير الخطيبي
شكل المشروع الفكري والنقدي للمفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي مشروعا مؤسسا لرؤية مغايرة وطموحة تروم تجديد وتحديث مفاهيمنا النقدية حتى نستطيع إبداع وإنتاج معرفة جديدة بذاتنا لمواكبة الأسئلة المعاصرة والإجابة عنها بنقد الذات والآخر، اعتمادا على الاجتهاد والبحث والقيام بحفريات معرفية لموروثنا الفكري والأدبي.
تهدف إلى إعادة بناء الوعي بالهوية الثقافية من منظور الحداثة وقيمها الإنسانية المتجددة المبنية على الحق في الاختلاف وتدبيره بشكل منصف، سواء للذات في علاقتها بذاتها أو علاقتنا بالآخر، لمواكبة العصر في جميع المجالات الفكرية و الأدبية والعلمية.
كما تهدف إلى إعادة بناء الإنسان وتطوره في عالم يعرف تطورا سريعا يحتم تثمين موروثنا الأدبي والثقافي بالنقد الأدبي والثقافي المزدوج قصد الخروج من دائرة الجمود الفكري والثقافي والاستهلاك لما ينتجه الآخر إلى أفق رحب من الإبداع الأدبي و الفكري والنقدي، لتصحيح أعطاب العقل الحداثي المغربي والعربي في علاقته بذاته وبالآخر.
في هذا السياق، يتطلب نقدنا الأدبي والثقافي المزدوج استراتيجية نقدية جديدة تجمع بين النظرية والتطبيق للانعتاق من التبعية للنظريات النقدية الأدبية والثقافية للآخر. وذلك بتحليلها وتفكيكها وفي نفس الوقت الاشتغال على مقاربات نقدية تفكك وتعيد بناء الأنساق الثقافية العربية، لتجاوز القراءة الأحادية للنص الأدبي و الثقافي من منطلق المعنى المتعدد لأي نص. يفترض عددا لامتناهيا من القراءات المفتوحة على مقاصد متعددة لكل من الكاتب والقارئ والمترجم.
في نفس الوقت، يبقى الفعل النقدي الذي يقوم به الناقد عبارة عن مقاربة من بين المقاربات، قريبة من النص؛ لكن تبقى بعيدة عن تملكه، نظرا لنسبية العمل النقدي في تقديم قراءة أحادية ونهائية. لذلك يفترض النقد الأدبي والثقافي التفاعل الجدلي مع النص، لتدبير الاختلاف بالمقاربات والتصورات النظرية لإعادة بناء هوية نقدية متجددة ومتنوعة.
تتعامل جدليا مع التراث الأدبي والثقافي بقراءة معاصرة مرنة لبناء المعرفة الأدبية والثقافية بأفق معاصر؛ والاجتهاد نظريا ومنهجيا أيضا لاستنباط المعنى المعرفي من النصوص على ضوء الأسئلة المعاصرة المطروحة.
- 2 – النقد الأدبي والثقافي عند عبد الفتاح كيليطو
يقول عبد الكبير الخطيبي عن كيليطو: ” عندما يحدثنا كيليطو عن الحريري أو عن الجرجاني أو عن ألف ليلة وليلة، فإنه يسعى بالتأكيد إلى تحليل بنية المقامة أو بنية النحو العربي أو بنية الحكاية العجيبة، إلا أنه، إضافةً إلى ذلك، يقدم لنا متعة مزدوجة: متعة قراءة هؤلاء الكتاب، ومتعة قراءته هو بصفته ناقداً أدبياً.
إنها متعة يقضة وماكرة: إنها الابتسامة المقلقة لهذا المحلّل.” تشكل التجربة النقدية لعبد الفتاح كيليطو للأدب العربي وتراثه الثقافي عملا نقديا ومعرفيا يؤسس لتجربة نقدية تنهض بالسؤال النقدي العربي في تفاعل مقارن ومزدوج مع نصوص ثقافية للآخر.
تتوخى تجديد التجربة النقدية العربية ليس من منطلق اجترار ما طورته التجارب النظرية الغربية ومركزيتها المهيمنة؛ ولكن من منطلق البحث النقدي الذي يهدف إلى إعادة بناء المعرفة الأدبية والثقافية، من منطلق الذات الطامحة إلى تجاوز تعثرها النقدي وجمود القراءات النقدية والتأويلية السابقة نحو أفق واعد بالأسئلة التي تجعل تراثنا الأدبي والثقافي تحت مجهر الفكر النقدي المزدوج، لتطوير المفاهيم النقدية والمقاربات النظرية التي تشتبك معرفيا وندا للند مع المقاربات الغربية بمختلف مدارسها.
وذلك يتطلب إعادة النظر في رؤيتنا لذاتنا؛ وإعادة الثقة في قدراتنا النقدية لتحليل وتفكيك النصوص الأدبية من منظور النقد المزدوج الذي طور أدواته الكاتب والمفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي لبلورة مشروع معرفي في النقد الأدبي والثقافي المزدوج الذي يسائل الأنا والآخر بشكل جدلي، لتصحيح أعطاب وضعية النقد الراهن، القائم على استهلاك النظريات النقدية الغربية، والعمل على تبييئها في الفضاء المغربي و العربي، من منطلق الاستهلاك و التبعية الفكرية والنقدية .
- 3- النقد الثقافي عند إدوار سعيد
شكل المشروع الفكري والنقدي للمفكر والكاتب إدوار سعيد حفريات معرفية في سيرورة بناء وعينا الأدبي والنقدي والثقافي، لتفكيك و تجاوز النظرة الاستشراقية التي وضعها الغرب لثقافة الشرق. وعمل على تنميطها و ترسيخها في وعينا الفردي والجماعي بشتى الوسائل والإمكانيات، والتي تجعلنا نفكر بواسطة الآخر وبوسائله الفكرية والنقدية.
ومن ثم تغييب الإرادة الذاتية والجماعية في الإبداع الفكري والنقدي المنبثق من تطوير أسئلتنا النابعة من حاضرنا ومتطلباته الفكرية والعلمية والنقدية، للإجابة بشكل عقلاني ومنطقي عن مختلف القضايا المطروحة و بشكل منفتح على المتغيرات التي يعرفها العالم.
لقد جعلنا العقل الكولونيالي ننظر إلى ذاتنا عن طريق الآخر، انطلاقا من معرفته بذاته ولنا أيضا. وهو ما كرس مركزيته وهيمنته. وبالمقابل، تكريس تبعيتنا له ولمشروعه الفكري والنقدي والثقافي ولقيمه المختلفة. كان بإمكاننا البدء بالنظر إلى ذاتنا لمعرفة احتياجاتها الفكرية والثقافية، والاجتهاد كما اجتهد الآخر.
وحقق نهضته وتطوره المعرفي والعلمي والحضاري؛ ثم الانفتاح على الآخر في إطار العلاقات الفكرية والعلمية والثقافية المتوازنة التي تحمي الذات من الاستلاب والاغتراب اللذان يؤديان إلى المحو التدريجي؛ حين يختل ميزان التعاون والتواصل الفكري والثقافي المتكافئ.
وتحضر الهيمنة والسيطرة بشتى الوسائل؛ وتتعطل فعالية النقد المزدوج والاشتغال به في جميع المجالات الأدبية والفكرية والعلمية والتكنولوجية. صحيح لا يمكننا أن نتمركز على ذاتنا وننغلق في مشروع ماضوي؛ يصادر الحاضر والمستقبل. لكن وفي نفس الوقت لا يمكننا إلغاء الماضي بموروثه الثقافي والفكري والعلمي؛ ومن ثمة إلغاء الجدلية القائمة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لأن الزمن سيصبح مفككا ومنقوصا ولا يمكن استيعابه وفهمه وتغييره إلا في سيرورته المتواصلة.
- 4 – حاجتنا إلى النقد الأدبي والثقافي المزدوج
أصبحنا في حاجة إلى قراءات معرفية و نقدية منفتحة ومرنة لموروثنا الأدبي والفكري والثقافي، بعدة منهجية متكاملة، قادرة على تحليل التراث المتعدد بنصوصه الأدبية و الفكرية والثقافية، و بعقلانية نقدية منفتحة على الاختلاف وتعدد المقاربات والقراءات النقدية.
وهذا في حد ذاته إثراء وتطوير للانفتاح على الحاضر وأسئلته المركبة، لتصحيح علاقة الماضي بالحاضر، باعتماد النقد الأدبي والثقافي المزدوج وما ينتجه من معرفة بتعدد القراءات الحداثية ورؤاها المتقاطعة. تعمل على مصالحة الذات مع حاضرها، لتجاوز الجمود؛ والانفتاح على أسئلة العصر بكل تعقيداتها، والإجابة عنها بأجوبة نسبية.
لا أحد يمتلك فيها أجوبة مطلقة ونهائية، في عالم يسير بوتيرة سريعة حيث يهيمن اللايقين الذي يفرض على الجميع التغيير وطرح أسئلة جديدة، أمام تغير الاهتمامات وتغير الأولويات.
كما يعتبر النقد الأدبي والثقافي المزدوج المفتوح على الاجتهادات النظرية للذات والآخر وتطبيقاتها المرنة و نسبيتها العلمية، أداة فعالة لتجديد معرفتنا بالواقع الأدبي والثقافي المزدوج؛ وما يتطلبه من تحليل وتفكيك وتركيب، لإنتاج المعرفة وإعادة بنائها على ضوء الواقع المتحرك والمتغير، وقراءة النصوص قراءة تأويلية ونقدية بشكل جدلي مع الذات وواقعها .
هذا مع التفاعل النقدي مع الآخر، على أساس قراءته قراءة فاحصة لنصوصه الفكرية والأدبية والثقافية بإيجابياتها وسلبياتها للاستفادة من الايجابيات وتصحيح السلبيات؛ و القدرة على تدبير الاختلاف والتعاون، من أجل علاقات فكرية وثقافية متوازنة وعادلة.
تساهم في بناء العيش المشترك بين الدول والشعوب وتجاوز المركزيات الغربية الأحادية نحو عالم متعدد الثقافات، قادر على تدبير اختلافاته بالحوار والتواصل والتضامن المزدوج والمتعدد بين الشمال والجنوب، لمواجهة التحديات التي تهدد العالم؛ وتجاوز الجمود الفكري والثقافي الذي ينتج الكراهية والعنصرية والحروب واللجوء والفقر.
- خاتمة
حان الوقت لبناء مشروع معرفي في النقد الأدبي والثقافي المزدوج يسائل الأنا والآخر بشكل جدلي، لتصحيح أعطاب وضعية النقد الراهن القائم على استهلاك النظريات النقدية الغربية والعمل على تبييئها في الفضاء المغربي و العربي، من منطلق الاستهلاك و التبعية الفكرية والنقدية .
و المطلوب هو قراءة تفكيكية وبنائية ومعرفية منفتحة ومرنة لموروثنا الأدبي والفكري والثقافي بعدة منهجية متكاملة قادرة على تحليل التراث المتعدد بنصوصه الأدبية و الفكرية والثقافية، و بعقلانية نقدية منفتحة على الاختلاف وتعدد المقاربات والقراءات النقدية.
كما لا يمكن بناء ثقافة الاختلاف والاعتراف والإنصاف إلا بمساهمة وممارسة النقد الأدبي والثقافي المزدوج حتى يصبح التعايش بين الثقافات ممكنا.
وذلك باشتغال النقد الأدبي والثقافي المزدوج بفعالية لتصحيح أعطاب العقل الأداتي وتفكيك مركزيته عند الذات والآخر نحو عقل تواصلي خلاق ومبدع. يعمل على تجاوز عقلية السيطرة والهيمنة الكولونيالية في الفكر والأدب والثقافة، من أجل الحق في اختلاف الثقافات والتعاون والتضامن بين الشعوب في إطار علاقات متوازنة ومنصفة؛ تضمن العيش المشترك والتنمية العادلة للدول والمجتمعات في هذا العالم.