نقد

“إدغار موران”: كورونا كشف قبح الرأسمالية والداروينية وعجز أوروبا

 

أدى النظام العالمي الرأسمالي إلى للتقريب بين أنحاء العالم على المستويين التقني والاقتصادي، وهو ما خلق مفارقة كبيرة كشفتها جائحة كورونا، إذ إن هذا الترابط بين الشعوب والأمم لم يشجع على التفاهم بين البلدان، كما أن سهولة السفر والحركة حول العالم أسهمت في تفشي الجائحة.

وفي كتابه “إلى أين يسير العالم؟” اعتبر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران أن التقدم لا يعني نفع الإنسانية، مدللا باستغلال الدول الكبرى للتقنية الحديثة لصالحها، وعدم قضاء الإنسان على الوحشية، وتنبأ في كتابه بأن تاريخ العالم لن يتوقف عن العنف والصدمات، معتبرا أننا لا نزال نعيش قيم العصر الحديدي.

وفي زمن جائحة كورونا، حاورت صحيفة كورييري ديلا سيرا الإيطالية الفيلسوف الفرنسي عبر تطبيق سكايب، من مقر سكنه في مدينة مونبلييه الفرنسية، حيث يقضي فترة الحجر الصحي مثل ملايين الأوروبيين، وقال في الحوار “أنا أبلغ من العمر 98 عاما، وأعرف جيدا أنني من شريحة الضحايا المفضلين لفيروس كورونا، ولكن على كل حال أفضل التفكير في الحياة وما يحدث في العالم حاليا.”

ويرى موران -الذي ترجمت كتبه للعربية- أن العولمة حولت العالم إلى سوق كبيرة، وذلك من خلال التكنولوجيا المتطورة التي قربت المسافات بين القارات، ولكن في الوقت نفسه فإن تجاوز عائق المسافات لم يؤد لإرساء الحوار بين الشعوب. وفي الواقع أدى هذا الوضع إلى تعزيز فكرة الانغلاق على الهوية، وصعود السياسات القومية الخطيرة، بحسب إفادة الفيلسوف الفرنسي في حواره مع الكاتب نوتشو أوريديني، أستاذ الفلسفة الإيطالي.

ويضيف موران “إن هذه السوق العالمية التي نعيش فيها لم تتمكن من خلق مشاعر الأخوة بين الشعوب، بل على العكس من ذلك خلق حالة من الخوف من المستقبل. واليوم جاء فيروس كورونا ليسلط الضوء على هذه المفارقة ويجعلها أكثر وضوحا للجميع، هذا الوضع يذكرني بالأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما اتجهت دول أوروبية، وبشكل خاص ألمانيا، نحو القومية المتطرفة”.

ويعرف الفيلسوف الفرنسي -ذو الأصول اليهودية الإسبانية (السفرديم)- بمواقفه المؤيدة لحق الفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم، وقد قاده مقال كتبه في صحيفة لوموند ندد فيه بالسياسة الإسرائيلية إلى المحاكم الفرنسية عام 2004.

  • رأسمالية متوحشة

ويعتقد موران أن تطورات الاقتصاد الرأسمالي هي التي خلقت المشاكل الكبرى التي يواجهها الكوكب الآن، مثل تدمير البيئة والأزمة العامة في الأنظمة الديمقراطية، وتزايد التفاوت الطبقي وغياب العدالة بين الناس، والتسابق نحو التسلح وصعود الأحزاب والشخصيات الاستبدادية والديماغوجية، مثلما يحدث في الولايات المتحدة والبرازيل.

ويقول موران “إن طفرة الاقتصاد والمال والبضائع كان يعتقد أنها وحدت العالم، ولكنها في الواقع خلقت فقط سوقا ضخمة، دون روح أو وعي أو معرفة. ونحن أصبحنا مجرد زبائن، ولسنا أفرادا في العائلة الإنسانية. والأمر لم يقتصر على ذلك، بل إن هذه الرأسمالية المتوحشة دمرت البيئة والديمقراطية والمساواة الاجتماعية.

ويمكن ملاحظة هذه المفارقة على نطاق مصغر، وذلك عبر النظر في العلاقات الشخصية بين الناس، إذ إن تفشي الفيروس مثل تحديا للإيديولوجيا الكامنة التي سيطرت على الحملات الانتخابية في السنوات الأخيرة، عندما شهدنا تكرار شعارات أنانية من قبيل “أميركا أولا”، “فرنسا أولا”، “الإيطاليون أولا”، و”البرازيل قبل كل شيء”. وهي شعارات قدمت صورة مشوهة عن الإنسانية، وجعلت الأمر يبدو كما لو أن كل فرد يمثل جزيرة معزولة عن الآخرين”.

  • تفاؤل

ويرى موران، في حواره مع الصحيفة الإيطالية، أنه بات من الضروري اليوم التشجيع على خلق نوع من الوعي المشترك بين سكان العالم، بناء على أسس إنسانية، وذلك من أجل تشجيع التعاون.

ويضيف “قد أظهر لنا هذا الوباء أن الإنسانية تمثل قارة موحدة وأن البشر مرتبطون ببعضهم بشكل عميق. إذ إننا في هذه اللحظات العصيبة من الوحدة والعزلة، بعيدا عن المشاعر والأصدقاء والمجتمع، أصبحنا أكثر وعيا بحاجتنا للآخر. وكثيرون رفعوا شعار أنا سأبقى في المنزل ليس فقط لحماية نفسي بل أيضا لحماية الآخرين الذين هم جزء من مجتمعي”.

ويقول موران إن الإجراءات والتدابير الاحترازية والصحية المفروضة لمجابهة انتشار الفيروس، أجبرت الناس على البقاء في المنزل وأيقظت فيهم مشاعر الأخوة. ففي فرنسا على سبيل المثال، كل مساء عند الساعة الثامنة يخرج الناس للنوافذ والشرفات للتصفيق وتقديم التحية للأطباء وأطقم المستشفيات الذين يعملون في الخط الأول في مجابهة المرض. وفي إيطاليا أيضا يخرج الناس للشرفات لأداء النشيد الوطني والرقص على أنغام الموسيقى الشعبية.

ولكن يحذر الفيلسوف الفرنسي من أن التجارب علمتنا أيضا أن الأزمات الخطيرة يمكن أن تؤدي لتفاقم ظواهر الانغلاق، باعتبار أن البعض يشرعون مباشرة في البحث عن كبش فداء يلقون عليه اللوم، وهو عادة ما يكون الأجنبي أو المهاجر. مثل هذه الأزمات يمكن أن تشجع على قبول المهاجرين، أو بالعكس تغلق الباب أمامهم.

  • طوارئ أوروبية

كما يرى موران أن أوروبا في مواجهة أزمة الطوارئ الصحية كشفت مرة أخرى عن عجزها عن التخطيط المشترك وتنفيذ إستراتيجيات الدعم والتضامن، فالاتحاد الأوروبي الذي أصبح مجرد مجموعة من السياسيين وأصحاب البنوك، ارتكب مجزرة في حق القيم الأوروبية الحقيقية. فخلال العقود الماضية أجهض كل محاولة لخلق وعي مشترك وموحد، واليوم كل بلد داخل الاتحاد يدير أزمته بشكل منفصل، دون أي تنسيق حقيقي.

ويأمل موران أنه من رحم هذه الأزمة سوف تولد الروح الجماعية التي ستمكن الأوروبيين من تجاوز أخطاء الماضي، التي من أهمها سوء إدارة أزمة تدفق المهاجرين، وإعطاء الأولوية للحسابات المالية قبل القيم الإنسانية، وغياب سياسة أوروبية دولية.

واعتبر أن تصريح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون السوداوي والصادم في بداية الأزمة، حين طلب من البريطانيين الاستعداد لفراق أحبتهم ومشاهدة الآلاف من ضحايا الفيروس، يمثل نموذجا صارخا حول تفضيل الحسابات الاقتصادية على الجانب الإنساني، فالأنظمة الرأسمالية مستعدة للتضحية بالفئات الهشة والضعيفة، أي المسنين والمرضى، وهو أمر يتماشى تماما مع منطق الانتقاء الطبيعي ونظرية داروين حول البقاء للأصلح.

وفي هذه الأزمة، تماما كما يحصل في اقتصاد السوق، فإن أولئك الذين لا يستطيعون المنافسة يكون مصيرهم الفناء، ويعتبر الفيلسوف الفرنسي أن تطبيق هذا المنطق على البشر يكشف عن قسوة الليبرالية الجديدة، ولذلك فإن خلق مجتمع إنساني حقيقي اليوم يبدأ أولا بالوقوف في وجه هذا الفكر الدارويني الاجتماعي بأي ثمن.

  • تفاؤل حذر

ويشير موران إلى أن هنالك جانبا آخر مشرقا في هذه الأزمة، وهو النوع الإيجابي من العولمة، المتمثل في انخراط الباحثين من كافة أنحاء العالم في تعاون دولي للتغلب على الفيروس، وهو ما يظهر مثلا من خلال وصول أطباء صينيين وكوبيين إلى إيطاليا.

ويضيف موران أن هذه الأحداث تمثل فعلا أخبارا إيجابية وعلامة تبعث الأمل، حيث إن هنالك شبكة عالمية من الباحثين التي تقوم بجهود من أجل مصلحة البشرية، وتعمل بشكل عابر للبلدان واللغات والعرقيات.

وفي السياق نفسه يحذر موران من تبعات تدهور قطاع الخدمات الصحية الحكومية في أوروبا وأميركا، بسبب سطوة الفكر الرأسمالي والنظر إلى المريض على أنه بضاعة، وتحويل المستشفيات إلى مجرد شركات.

ونبه إلى أن هذه التناقضات في الولايات المتحدة مثلا يمكن أن تؤدي غلى انفجار عنيف، ولذلك يجب استباق الأحداث وتعميم الرعاية الصحية للجميع. إذ أن بلدا يقتصر فيه الدخول للمستشفيات والحصول على الأدوية على الأثرياء لا يمكنه الوقوف في وجه الوباء، وترك غالبية الشعب ليواجهوا مصيرهم لوحدهم يعني زيادة انتشار الفيروس دون أية قدرة على احتوائه، ومن المؤسف أن برنامج الرعاية الصحية الذي أطلقه باراك أوباما، سارع دونالد ترامب إلى تخريبه، بحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي.

ويشير موران أيضا إلى أن العولمة والأزمة الحالية كشفت عن قصر نظر السياسات الصناعية للدول، فأوروبا على سبيل المثال تعاني من نقص كبير في الأقنعة الطبية، لأنها ارتكبت خطأ في السابق عندما تخلصت من هذه الصناعة وتركتها للصين، بسبب عدم ربحيتها.

ويؤكد موران أن الرعاية الصحية والتعليم يمثلان أسس الكرامة البشرية، حيث إن الحق في الحياة والحق في التعلم هما من أهم شروط تقدم الأمم. ولكن المشكلة هي أن هذين القطاعين أصبحا تحت إدارة الشركات والفكر الرأسمالي.

ويختم موران الحوار قائلا “لا يمكن القبول بمواصلة إدارة المستشفيات والمدارس والجامعات على أساس الربح المالي، بل يجب التفكير في إنشاء مواطنين أصحاب عقول، وذلك من خلال العودة للاعتماد على الخدمات الحكومية التي تراجعت كثيرا في العقود الأخيرة”.


المصدر : الصحافة الإيطالية,الجزيرة

 

بالعربيّـة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى