هل كان نجيب محفوظ من دُعاة التطبيع؟
ربما جاء العنوان صادمًا للبعض خصوصًا ممن يعشقون أدب نجيب محفوظ مثلي، والذي وصل بالأدب العربي الحديث إلى العالمية بحصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 1988م، التي هي أم الجوائز وحلم جميع المبدعين في أربعة أركن الدنيا، هي الأضواء والشهرة والترجمة والثروة والانتشار والجدل المتواصل الذي لا يهدأ حتى إعلان اسم فائز جديد في نفس الموعد من كل عام.
هي الجائزة المرغوبة والمنتظرة دائمًا.. الملعونة والمشبوهة والخاضعة للأهواء والمنصفة.. أحيانًا (جمال لمراغي، أخبار الأدب ونوبل،2017م).
وفى الحقيقة أن نجيب محفوظ قد نال تقدير القراء قبل أن ينال تقدير النقاد والدارسين!؛ أي أن أول من اكتشف محفوظ هم قراؤه الذين أحبوه، وتعلقوا بما فيه من صدق وعمق وأصالة فنية عالية قبل حصوله على جائزة نوبل. فمنذ سنة 1932م بدأ الكتابة وعاش من أجل أدبه كما يعيش القديس من أجل رسالته، إنه مثل تشارلز ديكنز بالنسبة إلى الإنجليز، وتولستوي بالنسبة إلى الروس، وبلزاك بالنسبة إلى الفرنسيين.
فنحن لا نعرف تاريخ إنجلترا في القرن التاسع عشر دون مراجعة روايات ديكنز وتاريخ فرنسا دون استشارة روايات بلزاك، وتاريخ روسيا دون تفهم روايات تولستوي، ولا تستطيع أن تعرف مصر دون الرجوع إلى روايات نجيب محفوظ.
ويخطئ من يعتقد أن الهدف من المقال إلصاق تهمة التطبيع بأديب وروائي بحجم وقيمة نجيب محفوظ في زمن تتهافت الدول العربية الكبرى وتتباهى فيه بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي! ولست أشبه “بلعام” الذي تُروى قصته في سفر العدد من الإنجيل في الإصحاح الثالث والعشرين. الذي دُفع للعنة العدو ولكن الرب لم يُنطقه إلا بطلب البركة لهم!!
ولكنها محاولة لاستنباط ملمح من ملامح شخصية الرجل (السلمية) الذى عاش رافضًا كتابة سيرته الذاتية- تلك السلمية التي جعلت البعض يستنبط ملامح شخصية كمال عبدالجواد الشاعرية الخيالية في الثلاثية ويطابقها على شخصية نجيب محفوظ!- والتي حاولت دراسات متعددة الاقتراب من حياته الشخصية، فكان لها ما تريد على مستوى محاور الفكر والسياسة والمسيرة الوظيفية والعلاقات الاجتماعية نذكر منها:
كتاب جمال الغيطاني بعنوان “نجيب محفوظ.. يتذكر” التي ربما أغنت نجيب محفوظ عن التفكير في كتابة سيرته الذاتية! وينشر محمود فوزي كتابه تحت عنوان مثير خاطف للبصر “اعترافات نجيب محفوظ” ولكن تقليب صفحات الكتاب ينفي عنه طابع الاعترافات تمامًا، حين يقول عن نجيب محفوظ إنه اعتاد ألا يسمح لأحد بأن يخوض في حياته الخاصة، فهي منطقة محرمة، فلا يجوز لأي أحد أن يتجاوز هذا الحرم المقدس لحياته الشخصية.
ثم يأتي كتاب رجاء النقاش وفي صدارته يُعبر نجيب محفوظ عن حياته قبل الزواج – تأخر زواجه إلى الثالثة والأربعين من عمره- وأريد أن أغض الطرف عن ما جاء فيه لبعده عن موضوع المقال، وأرى أنه ربما كان نجيب محفوظ يريد أن ننشغل عن حياته بكتاباته (16 مجموعة قصصية، 33 رواية في 60 عامًا) وقد تحقق له ما أراد فصار “ملأ الدنيا وشغل الناس” كالمتنبي وشكسبير (محمد حسن عبدالله، جماليات الحضور الفرعوني في روايات نجيب محفوظ، 2020م).
ولست هنا بصدد التوغل كثيرًا في التحليل النقدي الفني لأدب نجيب محفوظ، التي تناولتها أيضًا العديد من الدراسات، وأصبحت فيها مراحل حياته الأدبية معروفه للجميع بداية من إنتاجه الأول المرتبط بتاريخ مصر الفرعونية باعتبارها أصل القومية المصرية، كأنما ينوى أن يكتب التاريخ الفرعوني كله قصصًا كما فعل في رادوبيس وكفاح طيبة والعائش في الحقيقة، ثم خطاه السردية نحو الأفكار الاجتماعية والذي كان مبعثه الشعور بالاضطهاد الاقتصادي والسياسي كما نرى في (القاهرة الجديدة- خان الخليلي-زقاق المدق-بداية ونهاية) ومرور بالثلاثية التي تسبق المرحلة السابقة تاريخيًا (عبدالوهاب الأسواني، نجيب محفوظ، مجلة الدوحة، العدد 6 عام 1976).
وبالرغم من أن نجيب محفوظ يُمثل نموذجًا للموظف المصري المنسحق تحت وطأة البيروقراطية، وبالرغم من حرصه على تجنب الاصطدام بالسلطة، فإن كثيرًا من قصصه ورواياته تشتمل على نقد للاحتلال والفساد والمحسوبية والانتهازية، مما جعله يتعرض لبعض المصاعب مثلما هو الشأن بالنسبة لرواية “أولاد حارتنا” و”ثرثرة فوق النيل” التي أثارت غضب المارشال عبدالحكيم عامر.
لكن نجيب محفوظ له موهبة التكيف مع مختلف الأنظمة؛ فهو منذ العهد الملكي وحتى رحيله لم يُحاكم ولم يُسجن!! بل كثيرًا ما كان موضع حفاوة وتقدير من جانب الدولة. وبفضل هذه المرونة استطعنا أن نفوز بروايات وقصص تضئ بعض الأعماق، في حين أن سيئات الدولة ومظاهر جبروتها آلت إلى الزوال، أو بالأحرى تؤول دومًا إلى زوال (محمد برادة، مجلة الناقد، العدد18، بيروت1989م).
ونعود إلى مبحث موضوع المقال بحديث نجيب محفوظ إلى ألفريد فرج وإقراره بأنه لا فكر خارج الحياة.. “لا فكر خارج الزمان والمكان”…”أصول كل المسائل النفسية والفكرية ضاربة في الحياة العادية واليومية”…”أنا أعيش أفكاري في نفس الوقت الذي أعايش فيه الناس، ولا أكتبها، وإنما أكتب عن الناس” (ألفريد فرج، نجيب محفوظ يتحدث، مجلة الناقد، العدد7،1989م).
ويظهر لنا هذا الجانب من شخصية نجيب محفوظ كمفكر عملي، دارسًا للفلسفة، باحثًا عن الحقيقة دائمًا وبشكل عملي وإن كان يمتلك خيال الأديب، فكل النقاد لاحظوا هذا الجانب العملي في تنظيم مادة البناء السردي لكل أعماله. فالبناء الفني المحكم لرواياته هو فكر بالأساس، وهو شكل من أشكال الرياضيات الذهنية أيضًا، وليس أبدًا مجرد انسياق مع عفوية الموهبة.
وفي خطابه التي ألقته أبنته نيابة عنه في استوكهولوم، جعل انتفاضة الحجارة في الضفة وغزة في طليعة القضايا التي تؤرق الضمير العالمي المعاصر… وفي الحقيقة كان يرى أن ما حصل في فلسطين هو بالنسبة للعرب أجمعين كارثة قومية وكان يشبهها بالكوارث الطبيعية التي توقظ ضمير العالم وتدفع به إلى التضامن والمساندة.
فالفلسطينيون أصحاب حق، وهذا ما جعل العالم يقف إلى جانبهم ويطالب بإنصافهم. ولكنني أرى- والكلام على لسان نجيب محفوظ- أنه ليس في استطاعة العرب وحدهم أن يحلوا مشكلة فلسطين حلاً مناسبًا، لأن فكرة التحرير المطلق غير واقعية، ولا تأخذ في الاعتبار مصالح ومواقف كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
لذلك فأنا أميل إلى أن أعطي الأسبقية للتساؤل الذي نطرحه حينما نجد أنفسنا أمام كارثة طبيعية، أي: كيف نطوقها ونتجاوزها لتنطلق الحياة من جديد؟ والأمثلة في التاريخ كثيرة، أذكر من بينها ما فعلته ألمانيا الغربية لاستئناف الحياة بعد هتلر.
وأقر نجيب محفوظ بأننا كعرب لا يمكننا أن نحارب ميثولوجيا إسرائيل، لأنه قد تكون لدينا أيضًا كثير من جوانب الميثولوجيا التي تشير إليها. يقول: ما يهمني أكثر هو الوصول إلى حل “عملي”، والحرب لمنفذ في الوصول إلى حل، ولذلك لا بد من مفاوضات تفضي إلى إقرار السلام في المنطقة، هذا رأيي طالما عبرت عنه، بل قد أعلنته قبل أن يزور السادات القدس بخمس سنوات.
أما الانتفاضة، فقد أصبحت حقيقة ملموسة ومعبرة عن مطامح الشعب الفلسطيني العميقة. وقد أوضحت ذلك في الكلمة التي نشرتها بجريدة الأهرام (26 يناير 1989)؛ حيث ألححت على ضرورة استثمار هذه الروح الجديدة المتجلية من خلال الانتفاضة وصمود العراق في وجه إيران، من أجل بلورة فعل عربي جديد يستجيب لتطلعاتنا الحضارية.
وموقف نجيب هذا موقفًا ثابتًا راسخًا أعلنه قبل حديثه للأهرام بسبعة عشر عامًا وظل متمسكًا به حتى رحيله، فخلال اجتماع عقده الرئيس الراحل القذافي مع مفكرين ومثقفين مصريين سنة 1972م وكان من بينهم هيكل، أن أعرب عن رأي “فاجأ” الجميع حينما قال:”…….إذا لم تكن لدينا القدرة على الحرب فلنتفاوض ونصطلح وننهى هذه المسألة التي لا تحتمل بلادنا معها حالة اللاحرب واللاسلم لفترة طويلة.” (تامر فايز، نجيب محفوظ ناقدًا، القاهرة، 2018م)
وقد قام نجيب محفوظ بالتوقيع على البيان الذي وقعه مع توفيق الحكيم وثروت أباظة وعدد من المفكرين والأدباء رفضا لحالة اللاحرب واللاسلم (1972) والذي أغضب السادات جدًا، وعلق عليه بما يسئ إلى موقعيه في أحد هذه الاجتماعات ذكر نجيب محفوظ بالاسم والوصف أيضًا!!
ونستطيع بحق أن نعده كاتبًا سياسيًا أيضًا له رأى واضح ومحدد تاريخيًا، وله موقف متماسك ومستمر اجتماعيًا، وله نظرة شاملة فكرية، مهمًا بدا كل هذا مسربلاً-أحيانًا- في حيل الرواية التي لا حصر لها، وفى ثنايا فنها الماكر.
ففي الثلاثية عالج القضايا السياسية والوطنية من الحرب العالمية الأولى وثورة 1919م إلى الحرب العالمية الثانية. وفي (السمان والخريف -ثرثرة فوق النيل – ميرامار) عالج قضايا ثورة 23 تموز1952م. وعالج قضايا الحياة والناس في ظل الحرب العالمية الثانية (خان الخليلي –زقاق المدق) ظهرت لمحات سياسية في (عبث الأقدار-رادوبيس-كفاح طيبة) وكان محوره الفكري السياسي في أغلب رواياته هو محور الحرية.
وعندما هاجمه البعض بأن قضية الصراع العربي- الإسرائيلي لم تنعكس في أعماله، مع أنها قضية خطيرة ماسة بوجود الإنسان العربي في كل مكان.. جاءت إجابته بأنه يلجأ إلى معالجة قضية الصراع العربي-الإسرائيلي في مستوى تجريدي كما فعل في (تحت المطر)، أما المعالجة الواقعية فهي صعبة؛ لأننا لا نعرف الواقع معرفة تامة.
وأضاف نحن كعرب أصحاب قضية وأصحاب هدف، الهدف هو الحضارة لأننا نعيش التخلف، والقضية رمانا بها الاستعمار وسياسة المصالح الدولية بين القوى الكبرى فحدثت مأساة فلسطين، القضية استوعبتنا إلى درجة أنها انستنا الهدف، مع أنه مهما كانت أهمية القضية فالهدف يبقى الأول والأخير؛ لأنه الحياة، ووجدت أن قوانا وأموالنا تضيع في القضية، مثل: العائلة الصعيدية التي يرزقها الله بالأرض والأموال لاستغلالها من أجل الحياة، فإذا بهم من أجل ثأر يتساقطون قتلى، الواحد بعد الآخر، حتى لا يبقى سوى النساء، كل هذا من أجل كرامة العائلة وتقاليد الصعيد، وتبقى الأرض بعد ذلك لا تجد من يزرعها.
وفي قصتي (فنجان شاي) نداء ثوري صريح للقتال والنضال المسلح ضد العدو، كما تفصح عن إدانة كاملة للقوة الاستعمارية، لا مكان إلا لنوعين من الإنسان، واحد يقاتل بقلب ملؤه الشر، وآخر يقاتل بقلب ملؤه الخير. ليس ثمة وجود إلا للمقاتل؛ لقد فهم العربي ذلك جيدًا بعد أن سرق قطاع الطريق وطنه بأكمله. (نزار نجار، مجلة المعرفة، العدد 386 ،1995م).