مرحلة كورونا .. وقفات إلزامية (2) – البحث العلمي
حقَّقَ البحث العلمي عموما؛ والطبيُّ على وجه الخصوص؛ قفزةً هائلة خلال شهريْن من ظهور جائحة كورونا. قفزةً لم يكن ليبلُغَها قبل عشرات السنين على أقلِّ تقدير. إذ تسبب هذا الوباء المُستجَد في دفع عجلة البحث العلمي في الدول المتقدمة والدول الناهضة سنوات إلى الأمام؛ في سباقٍ مَحموم لابتكار أجهزة فحصٍ فعّالة ومُتطورة، وتطويرِ لقاحٍ لهذا الفيروس في وقتٍ قياسي؛ تقليلا للخسائر في الأرواح وفي الاقتصاد.
لم يقتصر التطوير على المجال الطبي فقط؛ بل تعداه إلى كل فروع البحث العلمي “التقني”؛ و”الرقمي”؛ و”التكنولوجيا الدقيقة”، حيث فرض الحَجر الصحي تقليل عدد الأفراد في المَرافق الحيوية وفي القطاعات الإنتاجية الأساسية؛ التي لا يُمكن تعطيلُها؛ مما استدعى تعويضَ العُنصر البشري بالروبوت، بالإضافة إلى تطوير عددٍ كبير جدا من الأنظمة الرقمية والبرامج الإلكترونية لتعويض المُعاملات الورقية بين المؤسسات والإدارات إلى معاملات رقمية صِرفة. إضافة إلى تجريب نمط جديد وثوريّ من التعليم؛ وهو “التعليم عن بُعد”، فكانت الأنترنت بحقٍ عمودَ الخيمة في هذه الجائحة، حيث كانت الملاذ الافتراضي لملايين البشر في الحَجر الصحي عبر العالم. وكرَّست الأنترنت نفسَها كخيارٍ بديلٍ ومثاليٍّ وآمن للتواصل بين الدول والمؤسسات والأفراد عبر العالم.
ليست العلوم التجريبية وحدها من نالت حظاً من التطوير في هذه الجائحة العالمية، بل حتى العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ نالت القسط الأوفر من هذا التطوير؛ حيث ظهرت ملامحُ نظرياتٍ جديدةٍ؛ بدأت تتشكل في عِلم الاقتصاد تدعوا إلى إيجاد بدائل اقتصادية مُتوازنة وتجاوز سياسة الاقتصاد العالمي القائم على الليبرالية المتوحشة التي تنتهج الاحتكار والهيمنة والإخضاع والاستنزاف المتواصل لثروات الكوكب المادية والإحيائية.
في علم الاجتماع؛ بدأ التنظير للنموذج الاجتماعي الجديد الذي ستفرزهُ مرحلة ما بعد كورونا؛ بعد أن أثبت النموذج الحالي المُعوْلم قصورَه وتشوُّهَه وانحيازَه إلى ثلة قليلة من أثرياء العالم على حساب باقي سُكان المعمور؛ الذين قسَّمَتْهُم النيوليبيرالية الجشعة إلى فئتيْن؛ يد عاملة تُدير آلة الإنتاج وفئةٌ فقيرةٌ عالةٌ على النظام الرأسمالي.
في العلوم السياسية؛ أثيرت الكثير من القضايا المهمة في خضم هذه المرحلة الفارقة في التاريخ الحديث. ففي الولايات المتحدة عاين العالَم التضاربات الكبيرة بين تصريحات السياسيين وتقارير العلماء والأطباء ومراكز الصحة؛ حول الحالة الحقيقية للوباء وما يجب أن يُتخذ إزاءَها؛ وما يتعلَّق بمدى أحقية السياسي في تقرير مصائر الشعوب؛ وحدود الصلاحيات التي يجب أن تُمنح له. خصوصا بعد الخرجات المتكررة لعدد من السياسيين في إيطاليا وأمريكا للتخلي عن استشفاء المُسِنِّين والمرضى الميؤوس من حالتِهم؛ لِصالح الشباب والقادرين على تحريك عجلة الإنتاج. مما يدعوا إلى إعادة تأطير مصطلح “الأمن القومي” الذي يتكئُ عليه السياسي لتمرير أجنداتِه وتقديم المصلحة الحزبية على الوطن والمواطن.
الرئيس الأمريكي “ترامب” وحدَه؛ قد يَحفَل بنصيب وافر من الدراسة والتحليل والنقد، فهو بلا شك؛ سيشكل حالة فريدة في تاريخ أمريكا السياسي؛ إن الهزة التي أحدثها هذا الرئيس للدولة الأولى في العالَم سياسيا واقتصاديا وديمقراطيا وديبلوماسيا وأخلاقيا، لا يمكن مقارنتُها بفضيحة “ووترغيت” سنة 1968 التي تسبب فيها الرئيس “ريتشارد نيكسون”. ولا بغيرها من الهزات التي مرّت على أمريكا.
فـ”ترامب” كحالة؛ هي نِتاجٌ مباشرٌ للتاجر عندما يَتَّشِحُ بوشاح السلطة، ويُمارسُ السياسة من خلال التغريدات بعيدا عن مؤسسات البلاد التشريعية والدستورية. التاجر السياسي المريض بجنون العظمة؛ الذي لا يفهمُ غير لغة الدَّفع والمال والأسهم والبيع والشراء والربح والخسارة.
ويبدو أن عِلم النفسي، سيكون الأوفر حظاً في التحليل والدراسة؛ خصوصا ما تعلق بفهم أشمل وأعمق لظاهرة “شمال # جنوب” و”العِرق الصافي” التي مازالت تعشش في أدمغة النخبة في أوروبا وأمريكا؛ والتي تجلت بشكل فج في الدعوة إلى جعل إفريقيا والهند مُختبراتِ تجارب للقاحات مُحتمَلة لفيروس كورونا. عِلم النفس؛ مُطالبٌ أيضا بعد هذه المرحلة بدراسة أشمل وأعمق حول تأثير العزلة على الفرد وتباعُدِه الاجتماعي، وتأثيرات الانغماس أكثر في العالم الافتراضي. ومن المحتمل كذلك أن تظهر دراسة أو أكثر في التحليل النفسي حول شخصية “ترامب” كالتي أنجزَها “فرويد” عن الرئيس الأمريكي “ووردو ولسن“.
المؤكد؛ أن العالَم بعد كورونا لن يكون كما قبل؛ إننا بصدد عالمٍ جديدٍ كليا سيكون أكثرَ تصنيفا وأعمقَ فروقا وأوضحَ تبايُناً، وعلى الأرجح؛ سيتعزز تصنيفُ “شمال # جنوب” وستتعزز الهوة بينهما؛ مع إضافة مكوِّنٍ جديد هو؛ “الوسط“؛ وستمثلُهُ الدول التي استفادت الدرس وقررت إصلاح ما يمكن إصلاحُه والانخراط بشكل جديٍّ في سكة البحث العلمي والتصنيع والتطوير والتنمية والابتكار والاعتماد على النفس. فيما ستسعى الدول المتقدمة إلى مزيدٍ من التطوير والتقدم والريادة والتحكم؛ وستكرّس مكانتَها وسطوتها بشكل أكبر على العالم، من خلال تقوية عوامل القوة وجَبْرِ مكامن النقص. وستتجاوز هذه الدول مفهوم “التكتلات” و”الوحدة” و”الاتحاد“، إلى دول أكثر أنانية وجوعا ونهما للثروات؛ وأكثر حرصا واحتياطا. وستظهر أنماط استعمارية جديدة؛ ستكون ساحتُها بلا شك؛ دول “الجنوب” الفقيرة والمتخلفة التي لا تملك من أمرها شيئاً؛ والتي تعيش على التساقطات المطرية أو المعونات الدولية، أو تلك التي تعتمد كليا الاستيراد بفضل مخزونِها من العملة؛ لقاءَ تبذير احتياطياتِها الوطنية من الخامات الطاقية والمعدنية دون عائدٍ صناعي أو تطويري أو تنموي وطني. وما الدولُ العربية مِن هذا النموذجِ بِبعيد.
ختاما؛ يمكننا القول؛ إن هذه الجائحة أبانت مرة أخرى؛ مدى هشاشة الأنظمة التي عكف الإنسان على تشييدِها وتطويرِها منذ آلاف السنين. وسمحت له بوضعِها تحت اختبار مُباغت وشامل، لتعزيز كفاءاتها وترميم نقاط الضعف والخلل فيها. وهذا بلا شك؛ ما سيحدث وبدرجات متفاوتة تُوازي التفاوت العلمي والتقني والتكنولوجي والاقتصادي بين الدول. أما بخصوص الحالة العربية؛ فأرى أن ثمة درسٌ واحدٌ ووحيدٌ يجب على العرب تعلُّمه من هذا الاختبار، ولو لَمْ يَستفد العرب غير هذا الدرس لكفاهم. وهو؛ “أن الاستهلاك المبني على الاستيراد قد لا يكون خيارا متاحا في المستقبل”، لقد شاهد العالم كيف انهارت المنظومة الصحية في أمريكا وأروبا رغم قوتها بعد أن صارت التجهيزات والمواد الطبية عُملة غالية ونادرة لا تقدر بثمن؛ للدرجة التي صارت الدول تتسول الكمامات أو تسطو عليها عبر المنافذ والممرات البحرية الدولية.
لذا وجب على العرب تعلم الدرس والتحول بشكل عاجل نحو تأسيس نواة صناعية وإنتاجية ونهضوية وتنموية محلية حقيقية وشاملة؛ تَقيهِم تسوُّل الغذاء والدواء والأمن في الأزمات والمُلمات والجائحات القادمة؛ ثمَّ لا يَجِدُون.
مرحلة كورونا .. وقفات إلزامية (1) – الصيــن