نقد

حياة الأفكار والنظريات

 

الأفكار والنظريات والمعارف كائنات حية مثلها في ذلك مثل غيرها من الكائنات الحية، فهي تولد وتعرف مراحل في تطورها من الطفولة إلى الشيخوخة، مرورا بالمراهقة، وقد تتعرض للزوال أو البقاء ردحا طويلا من الدهر، متى وجدت الفضاء الملائم لها.

كما أنها تدخل في علاقة نسب مع غيرها من الأفكار والمعارف، فيكون التلاقح ويكون إنتاج كائنات أخرى تطور ما انتهى منها إلى الزوال، فإذا بها تأخذ حلة جديدة تجعلها قابلة لأن تتشكل من جديد. كما أنها قد تهاجر من ثقافة إلى أخرى، فتجد لها في غير مهدها ما يمكنها من التجدد والتحول، أحسن مما كانت عليها في فضائها الأول، فتكبر في فضاءات متعددة وقد اكتسبت ملامح جديدة تنأى بها عن أصولها.

قد تولد النظريات والأفكار والمعارف في فضاء ما، وتجد من يربيها في فضاء آخر، فيتعامل معها بحدب وجدية وعطف، ويسمح لها بأن تشق طريقها في مسارات لا حصر لها. كما أنها يمكن أن تجد، في فضاء ثالث، من يحضنها، ويدعي أنه وفي لها، وحريص على تغذيتها ومراعاتها، ولكنه سرعان ما يتخلى عنها غير آبه بمستقبلها، فيعرضها للضياع والزوال.

ليست الأفكار والنظريات والمعارف كائنات حية، فقط، لأنها تتصل بالإنسان، ونتاج أفعاله ونشاطاته، وتفاعلاته مع غيره. إنها، إلى جانب ذلك أيضا، تستمد حياتها من خلال تفردها حتى عن الإنسان الذي ولدها أو أنتجها. قد يتوفى صاحب الفكرة، أو النظرية، أو المعرفة، وتمر على وفاته عصور ودهور، ولكن الأفكار، أو النظريات، أو المعارف التي قدمها قد تستمر نابضة بالحياة، وقد تجسدت في أناس كثيرين، بل في ثقافات متعددة. قد ينقطع نسب شخص ما نهائيا، لكن الأفكار والنظريات والمعارف لا ينقطع نسبها، وتواصل الحياة، حتى إن اختفت مدة، أو تقلص حضورها، في زمن ما، لسبب بسيط جدا هو أن مولديها ومنتجيها، في كل تاريخ البشرية، كان يحذوهم الأمل أبدا، وهم يبدعون تلك الأفكار، في أن تظل حية بعد انتهائهم، وزوالهم من الوجود.

ليست الأفكار والنظريات والمعارف كائنات حية، فقط، لأنها تتصل بالإنسان، ونتاج أفعاله ونشاطاته، وتفاعلاته مع غيره. إنها، إلى جانب ذلك أيضا، تستمد حياتها من خلال تفردها حتى عن الإنسان الذي ولدها أو أنتجها.

حين نتأمل ما يجري على مستوى الأفكار والنظريات والمعارف في الغرب الحديث نجد أنها حية أبدا، بل إن الغربيين بها يحيون، ويواصلون حياتهم متفاعلين مع العصر، ومؤثرين فيه من خلالها وبواسطتها. ما يزال لأرسطو، وكل التراث الذي اعتبروه لهم أصولا نابضا بالحياة، وتتجدد قراءته باستمرار، فإذا هو حي أبدا. وحين يتفاعلون مع تراث الأمم الأخرى، يغذون به تراثهم، ولكنهم لا يربونها لتكبر بينهم محافظة على ملامحها الأصلية. وهم من خلال مد الجسور مع تراثهم، عبر تجديده، يواصلون البحث والاستكشاف في ما يتوصلون إليه من معارف جديدة، فيعطون بذلك ملامح جديدة لتراثهم، فإذا بإلياذة هوميروس، تنقل من الملحمة إلى رواية الخيال العلمي. هذا علاوة على إعادة قراءتها في ضوء العلوم المعرفية، والذكاء الاصطناعي، وهلم جرا؟
ما هي الأفكار والنظريات والمعارف، التي تشكلت في التاريخ العربي ـ الإسلامي التي ما تزال حية بيننا إلى الآن، وهي تتجسد في سلوكنا، وحياتها اليومية، وبواسطتها نفكر ونعيش؟ أطرح هذا السؤال بعفوية وبساطة، وليحاول كل منا أن يجيب عنه، مع نفسه؟ ما هي علاقتنا بالتراث الشعري العربي؟ وما هي علاقتنا بالقرآن الكريم، والحديث النبوي؟ نتحدث عن المعتزلة، والجرجاني، وابن رشد، والغزالي، وابن تيمية، وابن عربي، وابن خلدون، واللائحة طويلة. ما هي القراءات التي أنجزت بخصوص هؤلاء، والتطويرات التي أدخلت على ما أنجزوه لتظل مستمرة ومتواصلة، وقد اتخذت صورا جديدة، تتلاءم مع العصر، وتنبض بالحياة؟ هذا على مستوى ثقافتنا وتراثنا. ويمكننا قول الشيء نفسه عن تراثنا الحديث. ما هي المشاريع التي نطورها، بدءا من محمد عبده إلى الجابري، مرورا بكل المجهودات التي قطعنا الصلة بها، ونعتبرها، واقعيا، وليدة زمانها، وقد انتهت بوفاة أصحابها؟ ماذا على مستوى ما تفاعلنا به مع تراث الأمم الأخرى، ومع الغرب الحديث خصوصا؟ كيف نُربّي الأفكار والنظريات والمعارف التي نقلناها إلى فضائنا وتربتنا؟ ما هي الملامح التي منحناها إياها، وجعلنا ما تولّد منها هناك جزءا من سلالتنا، وامتدادا لأصولنا؟

إننا في تعاملنا مع الأفكار والنظريات والمعارف المتصلة بتراثنا القديم والحديث، التي تولدت في الغرب أيضا، لا نعمل على تربيتها وإنمائها لتصبح جزءا من ثقافتنا، كما أننا لا نتعهدها بهدف تطوريها وإغنائها. للقيام بذلك لا بد من توفر شروط تتصل بالذهنية التي نتلقى بها الآخر، وبتوفير البنية التحتية التي تسمح لتلك الأفكار بأن تتوطن، وتستقر في تربتنا. ما يجري في واقعنا العربي هو أننا «نتبنى» أفكارا ونظريات ومعارف، ونحن لا نعرف كيف نشأت، ولا كيف تطورت، ولا كيف يمكننا التعامل معها. إننا كمن يتحمس لتبني «طفل»، لأنه يفتقده في حياته. ولا يهمه سوى أن يكون لديه طفل يملأ عليه فضاء بيته، لكنه لا يوفر له الأسباب ليصبح إنسانا ناضجا وعاقلا مع الزمن.

من لا يهتم بحياة الإنسان، كيف يهتم بحياة الأفكار؟

 

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى