نقد

النقد الثقافي : مفهومُه ومجالاتُه

 

عَرف القارئ العربي النقد الثقافي بعد أن طُرح على الساحة كتاب الناقد والأستاذ الجامعي السعودي عبد الله الغذامي الموسوم (النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية) الصادر عن المركز الثقافي العربي، في الدار البيضاء عام 2000م. وقد جاءت بعده العديد من الدراسات والمقالات بل والأطروحات الجامعية بعضها يتفق معه، والآخر يختلف، ويعدل من بعض مقولاته.

اشتمل الكتاب على جانب تنظري وقف فيه المؤلف على مصطلحات أخذها عن الطروحات الغربية التي سبقت إلى هذا الميدان، وبعضها سكَّها هو أملا أن تكون الصورة جلية وبينة أمام القارئ العربي. وحمَّل الجانب الآخر تطبيقات من الشعر العربي القديم.

وقد عرَّف الغذامي هذا النقد بأنه فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية، وهو معنيُّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء، من حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي.

فتح الخطاب النقدي الثقافي الباب على مصراعيه أمام قراءات غير متناهية تتلاقى فيها العلوم الإنسانية رغبة في سبر أغوار المنجزات الأدبية وغيرها، بعد أن كانت الرؤى النقدية السائدة تدور في فلك الرؤية الجمالية للعمل الأدبي؛ مما خلق قصورا ومحدودية في التعاطي معه، و بعدًا عن أية محاولة لفهم ما يتدثر تحت عبادة الألفاظ والجمل من أسرار تحتاج إلى أدوات أخرى للتعامل معها لإماطة اللثام عنها .

وقد شنَّ الغذامي حملة عنيفة على المشهد النقدي التقليدي الذي يعنى بالرؤية الجمالية المحدودة، ويغفل جوانب أخرى جديرة بأن تقرأ ليس في النص الأدبي وحده، بل وفي كل إنتاج انحرف عن المؤسساتية وخرج عن أسوار مملكة الأدب على حد تعبيره، ومن ثم كانت الجرأة حين دعا إلى إعلان موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي محله

وليس القصد ــــ في نظر الغذامي ــــ من هذا إلغاء المنجز النقدي الأدبي، وإنما الهدف هو تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص وتبريره وتسويقه بغض النظر عن عيوبه النسقية، إلى أداة في نقد الخطاب وكشف أنساقه، وهذا يقتضي إجراء تحويل في المنظومة المصطلحية.

إضافة إلى اتساع دائرة النصوص التي تقع تحت مجهر هذا النوع من النقد إذ هو معني بالاهتمام بكل ما يحيط بالنص ـــــ باعتبار النص حادثة ثقافية ـــــــ مما يساعد على تقديم فهم أشمل من خلال ربط النص بسياقه وظرفه، وجمع مختلف أشكال الخطاب والاستفادة من العلوم الإنسانية، إضافة إلى الاهتمام بالنصوص المهمشة، واعتبار الكلمات سلوكًا نفسيًا واجتماعيًا؛ لأن ذلك الاختيار جاء عن طريق التفاعل مع البيئة سلبًا وإيجابًا.

وعلى هذا فقد تغيرت التراتبية التفاضلية الأجناسية، فتوسعت دائرة الاهتمام للأجناس المهملة كالأمثال، وقصصها، والموضوعات المهمشة، وأصبحت العبرة بمكمن النسق الثقافي لا بالجنس الأدبي، وأيضًا تذبذبت قيمة التراث الأدبي في تصور القراءات الثقافية، إذ أصبح متهمًا في تصور بعض القراءات التي جعلت الشعر مثلًا أحد مصادر الخلل النسقي في تكوين الذات، وفي عيوب الشخصية الثقافية، وشعرنة الذات العربية والخطاب العربي.

وقد لخص الغذامي المجالات الجديدة التي يتحرك فيها النقد الثقافي فيما يأتي:
1ـــــ سؤال النسق بديلاً عن سؤال النص.
2ــــ سؤال المضمر بديلاً عن سؤال الدال.
3 ـــ سؤال الاستهلاك الجماهيري بديلاً عن سؤال النخبة المبدعة.
4ـــ سؤال عن حركة التأثير الفعلية، وهل هي للنص الجمالي المؤسساتي، أم لنصوص أخرى لا تعترف بها المؤسسة، ولكنها مع هامشيتها هي المؤثرة فعلاً، وهي المشكلِّة للأنساق الثقافية العامة التي لا تسلم منها حتى المؤسسة بشخوصها ونصوصها.

وفي الختام يمكن القول: إنَّ دراسة الغذامي أحدثت حراكًا نقديًا؛ لجدة التوجه، ومخالفته لآفاق التوقع السائدة في القراءات النقدية، والتصور المألوف عن التراث، إذ أصبح الشعر هو سبب الخراب النسقي، وصناعة الطاغية، وانتقل المتنبي من كونه المبدع العظيم في التصور الجمالي إلى شحاذ عظيم في التصور الثقافي، وانتكس وصف أبي تمام من الحداثة إلى الرجعية.

ولم تسلم هذه النظرية في طروحاتها التنظيرية والتطبيقية من سهام النقد، فقد وُوجِهت بمجموعة من الاعتراضات لا يتسع المقام لعرضها.

 

مصطفى أحمد قنبر

الدكتور: مصطفى أحمد قنبر. من مواليد أسيوط 1966 (مصر)، حصل على درجة الماجستير 2001 والدكتوراه 2006 في علوم اللغة (اللسانيات). عمل في وزارة التعليم والتعليم العالي في مصر وقطر، كما عمل باحثا متعاونا في مركز الوجدان الحضاري/ وزارة الثقافة والشباب في دولة قطر. يعمل حاليا أستاذاً منتدبا في كلية المجتمع في قطر. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية في مصر، قطر، الجزائر، وتركيا. نُشِرَ له اثنان وعشرون بحثاً في مواقع ومجلات علمية محكمة وطنيًا ودوليا في: قطر، الجزائر، السعودية، وألمانيا. بالإضافة إلى تأليف ثلاثة كتب؛ اثنين منها بالاشتراك وواحد فردي: "الإملاء في نظام الكتابة العربية"، "سلطة السياق بين النص والمرسل والمتلقي"، "الحوار مع الآخــــر مُقاربة لُغويـــة لآلياته وعناصــره"، "براعة الاستهلال ودورها في التشكيل النصي ـ فاتحة سورة القدر نموذجًا"، "من إبداعات الدلالة في صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دراسة لغوية تحليلية". حكَّم ما يربو على الأربعين من البحوث العلمية المقدمة للنشر في مجلات محكمة وطنيًا ودوليا، شَغِل منصب مُحرر مساعد في العديد من المجلات العلمية المحكمة. له ما يقارب المائة مقال منشورة في صحف ومجلات داخل الوطن العربي وخارجه.

تعليق واحد

  1. المقال رائع فتح لي الشهية للقراءة في الموضوع والتعرف أكثر عن مفهوم النقد الثقافي وخطواته الاجرائية، اكتشفت بأننا نحن العرب نتصارع كثيرا حول مفهوم الريادة والأسبقية أكثر من شيء آخر، بينما لم يصلنا شيء من تلك الصراعات من الطرف الآخر…موفق دكتور مصطفى أحمد قنبر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى