كورونا والإبداع الشعبي
حفزت جائحة كورونا على الكلام، وجعلت كل الناس لا يتحدثون إلا عنها. صارت قطب المجالس ومحور إنتاج الخطابات المتعددة والمتضاربة والمختلفة. لم يتح هذا في العصر الحديث إلا للقليل من الأحداث الكبرى التي هزت البشرية. لكن الجائحة كانت أكبر من أي حدث في وقتنا الراهن. ولو جمع ما أنتج من نصوص وصور ورسوم يتعلق بها، منذ ظهورها وفي عز انتشارها، لملأ خزانات كثيرة في أبراج لا عد لها.
مع إقرار الحجر الصحي وجد بعض الصحافيين فرصة لتحفيز بعض الكتاب أو القراء للجواب عن سؤال ماذا يقرؤون؟ وكأن القراءة، لا يمكن إلا أن تصاحب المكوث في البيت للضرورة التي فرضتها الجائحة، أو بما أنها جعلتها متاحة أكثر لدى الكثير من الناس. كما أن بعض المثقفين صاروا يتبادلون مواقع تحميل الكتب التي تدور في فلك أعمالهم، وتقدم وكأنها اكتشافات كانوا لاهين عنها في خضم الروتين اليومي. كما صار البعض الآخر يقترح كتبا معينة للقراءة، أو يسهم في الكتابة عما تركته الجائحة من آثار متعددة فيما حوله. أليس في كل هذا أثر الحدث الكبير على الحياة؟
لم أتمكن من الجواب عن سؤال القراءة لأنها جزء من حياتي، ولكن الجائحة في الحقيقة جعلتني أنحرف قليلا عن هذه العادة اليومية التي لازمتني منذ مراهقتي بجعلي رهين محبس البيت، وبلا مقهى. لقد بات جزء هام من وقتي مكرسا للاطلاع عما يصل إلي عبر الوسائط الجماهيرية الرقمية من نصوص وصور وخطابات من أصدقائي في العالم الافتراضي. فكنت أتعجب أحيانا، وأضحك أو أبتسم أحيانا أخرى، وأتساءل، وأحتار، وأفكر، وأحيانا أكتب.
لقد حركت الجائحة المواجع البشرية، وقلبت نظام الحياة، وجعلت الناس يتبادلون ما يصل إليهم، ويشاركون غيرهم فيما ينتهي إليهم، والكل يعيش القلق والهلع والخوف، وفوق كل ذلك، يعبر عما يحس به، سواء وثقه بالصوت أو الصورة، أو تركه رهن من يعيش بينهم. لقد صار الكلام متاحا للجميع، ومكنت الوسائط الجماهيرية الرقمية من إتاحة الحق لكل الناس للتعبير، وإيصال أصواتهم إلى غيرهم.
كان يفرض علي امتلاء ذاكرة الهاتف، من زخم ما يصلني، يدفعني بين الفينة والأخرى إلى إفراغها، وحفظ بعض ما أراه جديرا بأن يعاين بعد زمن. ومن بين ما أثارني شابة أفريقية تتكلم الفرنسية، تخاطب الكوفيد التاسع عشر، وكأنه أحد أباطرة فرنسا، تسب وتلعن، رابطة إياه بالسنة الجديدة، مطالبة، مرارا وتكرارا، وبصيغ متعددة، بالتنحي بسرعة ليترك المجال لسنة 2021 لتدخل، لأن كراهية هذا العام وصلت حدا لا يطاق. وتخبره أن لا عيب في أن تكون سنة ما ناقصة في كل تاريخ البشرية، وهي السنة التي ظهر فيها. وحين نعاين جدية وصرامة اللهجة التي تخاطبه بها نجد درجة من الحنق والغضب لا توصف. وعلى غرارها، وإن بشكل مختلف، فيديو لمغربي من شمال المغرب، انتهى إلى علمه خبر الكورونا، وأنه ينتشر من بلد إلى آخر، وأنه يأخذ الأرواح. فما كان منه إلا أن انبرى لهذا الفيروس بالويل والثبور وعظائم الأمور، مخبرا إياه بأن المغاربة “واعرين” وأنه لا يقدر عليهم، وأنهم سيقضون عليه متى ظهر، بل إنهم لا يتركونه الدخول إلى المغرب نهائيا. فهم لا يأكلون الخفافيش، ولكن الفول والعدس.
من اللعنة الممزوجة بالحنق إلى القسم المقترن بالثقة نرى أنفسنا أمام مواقف لا حصر لها، ناهيك عن النكت والنوادر حوله، والحوارات التي أجريت معه، وغير ذلك من أنواع الخطابات التي يمتزج فيها الجد بالهزل، والواقع والخيال. لقد صار الكوفيد التاسع عشر فعلا بطلا فوق أسطوري، يُمجّد ويهجَى، يلعن ويتوعد، يشخّص ويؤنسن، وكل يرى فيه من خلال كلامه عنه، صورة واقعية عن رؤيته للعالم وكيفية تفاعله معه.
اتخذت “القصيدة” في الغناء الشعبي المغربي، والجزائري، موضوع الجائحة للتعبير عن معاناة الشعب منها، وعن آثارها السيئة عن الإنسان. ولقد استوقفتي منها قصيدتان أولاهما لزجال شعبي غير معروف، ولم يذكر اسمه في الفيديو، والثانية لمنير البهلولي وهو ابن الفنان الشعبي “الهاشمي” الذي أصدر عدة أسطوانات مع “محراش” الذي شكل مع “قرزز” ثنائيا شعبيا معروفا لدى الجميع. هذان الفنانان الشعبيان يعزفان معا على آلة “لوتار” وفي قصيدتيهما تشخيص وتمثيل للرؤية الشعبية المغربية كما تتقدم من خلال نوع “القصيدة”.
تبدأ القصيدة الأولى الحدث بإعلان الانتماء إلى الأمة المحمدية وقت الجائحة: “مولانا سترنا يا ستار/ في هذا القضاء والقدر/ احنا من أمة المختار/ محمد خير البرية”. ثم بتسجيل اسم الفيروس ومنشئه، والدمار الذي ألحقه بالإنسان: “هذا الفيروس هو خطر/ قتل عدد من البشر/ بدا من الصين وانتشر/ في كل الدول العالمية”. / “فيروس سموه بكورونا/ اسميته قبيحة وملعونة/ خدامة كيف الطاحونة/ سايقة فقرا وأغنيا”. ثم يعرج على ذكر خطره، مطالبا الجميع بالوعي والحذر، بعد أن بين كيف خلق الهلع في النفوس، وفرق بين الناس، وأخلى المساجد: “كورونا هي طاغوت/ إما الحياة أو الموت/ الحيطة والحذر آ الخوت/ لا تفقدوش التوعية”. / “كل شي تسد، وكل شي وقف/ هذا مكتوب كيتصرف/ نطلبوك يا ربي تلطف/ على العباد كلا هيا”. وينهي قصيدته بعجز الأطباء عن مواجهة الجائحة، طالبا من الله أن يلطف بعباده، ويدعو للمغرب بالحفظ: “هذا كورونا أمر غريب/ شحال تحدات من طبيب/ الله يحفظ بلدنا المغرب/ من كل شر وآذية”.
أما قصيدة منير البهلولي فتبدأ بانشغال عقول الجميع بالجائحة، بسبب الجهل بها، من جهة، وبدورها في الهلاك الذي تصيب به من وصلته العدوي، داعيا إلى “الجهاد” فيها بالتزام التباعد الاجتماعي: “عقولنا مشطونة / مع جايحة الكورونا/ قتالة ومجنونة / وما عرفنا فين مخزونة”. / “اللي بغى فيها يجاهد/ يدير بينو وبينها حد/ مترو باش يبعّد/ ويدخل الدار ويسدّ”. ثم يثني بتسجيل ما قامت به الدولة من خلال مختلف المصالح في القيام بما يلزم، غير متناس دور الصحافة، والفلاحين والأطباء والممرضين، مذكرا بمغاربة العالم: ” ناس الغربة توحشناكم/ ربي هو اللي عالم/ دابا يفرج ويرحم/ ويحيّد علينا هذا الغمّ”، وينهي قصيدته بقوله: “يا رب تفاجي الاهوال/ بدّل علينا هذا الحال/ راه الحمل علينا ثقال/ ونزّل الرحمة يا جلال”.
نلمح في القصيدتين معا الإدراك التام بالحدث وآثاره على البشرية، من خلال تغييره عادات الناس، ودفعه الجميع للتآزر والتعاون من أجل مواجهته. كما نلمس الدور الكبير الذي لعبته الوسائط الجماهيرية، وخاصة الوسائط المتفاعلة في رواج ما يتصل بالحدث، سواء من خلال التحسيس بهول الجائحة، أو بدفع الجميع إلى الانخراط في الحديث عنها، وكل حسب ثقافته، ووعيه، ورؤيته للأشياء. هذا إلى جانب الروح الدينية والوطنية والإنسانية التي يتم من خلالها التعبير عن العجز عبر اللجوء إلى الدعاء أملا في تجنب الآثار السلبية التي يمكن أن تخلفها الجائحة على المغرب بكيفية خاصة، وعلى البشرية جمعاء، بصورة عامة.
إن التوقف على ما خلقته الجائحة من عادات تواصلية وتعبيرية جديدة، ولا سيما ما اتصل منها بالجانب الشعبي، كفيل بجعلنا نرى أوجها جديدة ومختلفة من الإبداع لا نهتم بها عادة.