نقد

تفاعل النظرية والممارسة: إبستيمولوجيا الكتابة عند هنري ميشونيك

في مثل هذا اليوم من عام 2009، رحل الشاعر والناقد الفرنسي هنري ميشونيك H. Meschonnic، الذي طبع بفكره وسجاله مرحلة أساسية من تاريخ علوم الأدب والنقد واللغة والترجمة، في العقود الأربعة الأخيرة قبل رحيله.


  • تنظير الممارسة

ظهرت أولى أعماله في سبعينيات القرن العشرين؛ مثل «من أجل الشعرية» في جزئين 1970 و1973 و»الدليل والقصيدة» 1975، وكتابة «هوغو» 1977 و»الشعر بلا جواب» 1978. وكانت هذه الحقبة «ثورية» إذ شهدت حمى الجدل النقدي والسجالي في غير علم من العلوم الإنسانية، في أوروبا وأمريكا تحديدا.


ولهذا، كان رهان برنامجه الفكري هو النقد، وكانت الشعرية التي ارتبطت بهذا الرهان الأساسي هي الشعرية النقدية: نقد الشعرية البنيوية التي لا تزال في ذروة وثوقها بنفسها، ونقد رديفتها الدلائلية/ السيميائيات، ونقد تاريخ الشعرية بأسره منذ أرسطو إلى أيامه، ونقد اللسانيات (وضع حدود اللسانيات ومسلماتها موضع سؤال) ونقد التحليل النفسي والماركسية. يقول: «لا يمكن أن نقوم بمحاولة جديدة من غير البدء بتحديد منهجي؛ فنحن لا نقرأ بكلمات الآخرين».


كانت شعرية هنري ميشونيك في صميم عملها مجهوداً نظريّاً، ولم يكن ممكنا، رغم عتماتها، إلا باعتبارها تنظيراً للممارسة. ومن الخطأ القول إن المفاهيم لم تنتج، تاريخيًّ، عن هذه الممارسة الخاصة والنوعية، وهو ما يلزم بالضرورة الانتباه إليه وتجاوزه. فهي ليست خطاباً وصفيا، ولا هي بنشاط تأملي، أو بحث تاريخي أو مقارن. لكنها تمرُّ عبر التاريخ، من الثقافة إلى الثقافة ضدّاً على وهم تكامل الثقافات.


في مجمل أعماله، يدافع ميشونيك عن النظرية ويرى أنها ليست ممكنة إلا في علاقتها بالممارسة، وقد ساق نماذج تُجسّد تفاعل النظرية والممارسة؛ البلاغة من ديشو إلى رونسار دي بيلي، وملاحظات راسين حول الشعرية، وأخرى لنوفاليس وبودلير وهوغو، ثم عند ملارمي وهوبكينز، حيث امتزج الأدب والفلسفة.


ليست هناك مغامرة نظرية بمعزل عن هذه الممارسة، سواء تعلق الأمر بترجمة الكتاب المقدس أو كتابة الشعر. وإذن، فالنظرية تكشف عن مسعاها الدائم إلى الممارسة، ودراسة العلاقات بين بنية النصوص وتلقيها، ثُمّ لا علم لها ولا هي تحلم به يوماً.

من هنا، يحاول أن يصوغ خطاباً نظريا يبحث قواعد معرفته في وقت يكون فيه هو المعرفة نفسها؛ أي فصل العلم عن النظرية. ولا تدعي شعريته كونها علماً، فهذا وهم أو خداع يمكن موضعته بما يلزم. إنّما هي خطاب سجالي طالما أنه يبحث عن نفسه، ويسعى إلى صرامته الخاصة، داخل وضد الهيمنات الأيديولوجية المتعاقبة.

إن الشعرية، دون أن تهجر ميدانها، تقود إلى نقد الأنثروبولوجيا عبر نقد نظريات اللغة، داخل الصراع الذي تقيم فيه من أجل إكساب اللغة ونظريتها وممارستها طابع التاريخانية، وضداً على إعادات التقديس الراهنة، التي تلعب دوراً سياسياً دقيقاً. ومن هنا، فإن هذه الشعرية تدافع عن نفسها، وتتحصن لتكون الممارسة والنقد في آن.


  • إبستيمولوجيا الكتابة

يسمي هنري ميشونيك هذه النظرية النقدية بـ»إبستيمولوجيا الكتابة» ويذكّر بأنها مرتبطة باللسانيات – العلم، وأنّ ميدانها، بخلاف الظاهراتية، هو الممارسة التاريخية، وأن لها صرامتها وعلاقتها الخاصة بالمعرفة، على نحو يجعلها تساجل ضد إعادات التقديس الراهنة التي تقترن بالنزعتين العلمية والتجريبية، وضد الخطاب السيكولوجي التجميلي في مده وجزره.

وهي تطرح ما يتعلق بالنظرية وميتا النظرية في آن، انطلاقاً من حرصها على العودة بقواعدها إلى الممارسة التاريخية، وإلى تفاعلها مع معرفة «العلوم» الإنسانية. بنوعيّة الكتابة، إذن، ترتبط نوعيّة النظرية.


يقوم تصور ميشونيك بخصوص «إبستيمولوجيا الكتابةّ» على «بناء المفاهيم التي تنتج عن التفاعل بين الممارسة ونظريتها» ولا يقبل بمصطلح «علميّة» الكتابة مثلما هو مفهوم ومستعمل من قبل بعض الطلائع، مبرزاً أن تعدُّدية الكتابة هي في علاقة مع تاريخيتها، وأنها تضع في «العمل» ممارسة العلاقة بين الفرد والمجتمع الذي يعدل هذه العلاقة نفسها.

بهذا الشكل من العقلانية، ينتقد ميشونيك الجدل الضعيف، وكذلك الثنائية الضمنية التي اعتبر الصراع ضدّها لحظة مؤقتة وضرورية؛ لذلك اجترح مصطلح «الأحادية المادّية» في هذا السياق. هنا، يسعى إلى تعرف نوعية المسلمات والممارسات المترابطة، بنيويا، بما يمتّ باستخلاص المستتبعات النظرية التي تمتد من علم الاجتماع إلى فلسفة اللغة.

ويمثّل هذا المسعى الضرورة الداخلية لعمله الموسوم بـ «من أجل الشعرية» بأجزائه الثلاثة الأولى الصادرة بين عامي 1970 و1973 عن دار غاليمار في باريس، والذي يطبعه السجال إلى جانب النقد: «يبدو لي اليوم أن أول مسألة هي إبستيمولوجيا الشعرية، وما يُشكّل موضوع النقاش هو الوضعية نفسها لكل خطاب حول الشعرية، خاصة حول اللغة الشعرية».

ويطرح الكتابة بوصفها «فعاليّة لمعرفة النوعية» و»الكتابة هي إبستيمولوجيا لغتها» إذ تذهب الكتابة نحو ما لا تعرفه، نحو ما ليس لها: ليست معرفة نظرية ومفاهيمية، بل هي ممارسة، تعرف، تجسد فعلا نوعيا يعبر العلاقة بين اللغة ونصّها، النص ولغته، بقدر ما يعبر العمل الذي يتمّ بالممارسة أكثر منه بالمعرفة.

ضمن مفهوم «إبستيمولوجيا الكتابة» يعقد ميشونيك وشيجة بين المنهج ومحتوى المنهج، بين النظرية والممارسة. ويأخذ ميشونيك الإبستيمولوجيا في معناها الواسع كـ«نقد لمبادئ وفرضيات ونتائج ذات هدف غايته معرفة الكتابة والأدب، باعتبار أن هذه المعرفة تتم داخل العلاقة الضرورية مع الممارسة. إنها التأمل في اللا تأمل» على حد تعبيره.

ووفق هذا المفهوم، لا يتعلق الأمر بالتفكير في ما هو الأدب، بل في ما يصنعه؛ وهذا ما يستدعي استبدال مشكلات الماهية بمشكلات التاريخية. وبما أنّها دراسة للغة الشعرية بالمعنى الواسع، فإنّ الشعرية بقدر ما هي تحاول أن تعرف ما تُؤسس له وتخلقه معرفةً تامّة، تستتبع أكثر فأكثر عملاً معرفيا للعلاقات بين كل ممارسةٍ للغة ونظريتها في اللغة.

هكذا تقود الشعرية إلى نظريةٍ نقديةٍ للعلاقة بين الفلسفي والسياسي، وكل ما هو فعل لغوي، والقصيدة تحديداً. وبناءً عليه، يعمل على إنتاج نظرية نقدية انطلاقاً من نوعية القصيدة، في صلة بمختلف ذرّيات اللغة المضادة، والقصيدة المضادة، وضمن الرهان السياسي دائماً، الذي يتمُّ تجسيده والانحياز له داخل الشعرية، مهما يقلّ رفضنا لترك فرضية العلاقة بين السياسي والفلسفي وممارسة اللغة، سواء عند هيغل وماركس، أو عند الظاهراتيّين على سبيل المثال.

تمثل ممارسة الكتابة ونظريتها، ولاسيما الكتابة الشعرية، بكونها ممارسة سياسية؛ وهو ما قاده على الدوام إلى كشفه في تحليلاته للشعر وللقصيدة كـ”فعل تحويلي” بخلاف أيديولوجيا العلم والتناول الظاهراتي، اللذين يجتاحان الخطاب حول اللغة، في حين كان هو يُدشِّن إبستيمولوجيته الخاصة.

  • ممارسة الكتابة

تمثل ممارسة الكتابة ونظريتها، ولاسيما الكتابة الشعرية، بكونها ممارسة سياسية؛ وهو ما قاده على الدوام إلى كشفه في تحليلاته للشعر وللقصيدة كـ»فعل تحويلي» بخلاف أيديولوجيا العلم والتناول الظاهراتي، اللذين يجتاحان الخطاب حول اللغة، في حين كان هو يُدشِّن إبستيمولوجيته الخاصة.

في «الدليل والقصيدة» يستجلي ميشونيك بعض المفاهيم ظلّتْ غامضة؛ مثل مفهوم المعنى، والفهم كذلك، عدا إبدال مكان قراءته. يستضيء باللسانيات السوسيرية لأنها ـ عكس غيرها من اللسانيات الأخرى- تؤمن بالتفاعل بين كل نظرية في اللغة وكل نظرية في الأدب، فالتفاعل ضروري ولا يمكن تجاوزه.

وفي هذا السياق، يُميّز ـ بعناية – مشكل علم الدلالة الذي أرجعه إلى الدور التأسيسي لإيميل بنفينيست، مستخلصاً أن المسلمات الخاصة بالشعرية تصرح بأن «علم الدلالة» المبحوث عنه ليس له ما يشترك فيه مع علم الدلالة التجريبي الذي يمثل تاريخ اللسانيات، والقائم على أساس ثنائية الشكل والمعنى، مثل علم الدلالة الثنائي لدى إمبسون وريشاردز، الذي يحكمه تقهقره وتمحُّله أثناء التفكير في القصيدة. إنّه يرتبط بميتافيزيقا المعنى، بالتعليم النفساني للأدب.

غير أن هذا لم يحصل لأن نظرية المعنى تم بطلانها بأن أقصت أو تجنّبت مشكلة المعنى، بل يبدو – بخلاف ذلك – أنها أقامت عدم الفصل بين القيمة والدلالة التي تطرح ممارسات اللغة كعلوم دلالية جدلية ذات مهيمنة متغيرة، ولاسيما بالنسبة لبنية النص الشعري داخل هيمنة الدال حيث تتلاقى المعاني اللسانية والتحليلية والشعرية للمصطلح. من هنا تحول المفهوم، وتحولت اللسانيات السوسيرية نفسها.

وترتيباً على ذلك، ينتقد ميشونيك الدلائلية (السيميائيّات) وفرضيتها الأساسية التي تكمن في ثنائية الدليل وأسبقيته: «إذا كانت اللغة مكونة من أدلة، فهل الشعر، الذي يكون نفسه في اللغة، مُكوّنٌ من الأدلة ؟ لربما وجب علينا، انطلاقاً من بنفنيست، بناء علاقة جدلية بين علم الدلالة والدلائلية حين نفكر في ما يكون نصّاً».

فداخل نظرية الدليل يكون اللسان أولاً، والخطاب ثانياً. ولا يمكن أن يكون غير ذلك. تجعل من الإيقاع عنصراً شكليا، والعلاقات مع المعنى، لما يلتفت إليه، مجرد علاقات محاكية، متجاورة وثانوية. وبين الشكل والمعنى، الإيقاع والمعنى فَـرْقٌ مُتّفقٌ عليه، مماثلٌ لباقي الفروق المقولية بين النحو والمعجم والتركيب والصرف: ذلك الفرق يُجيزه الدرس الفيلولوجي، والبنيوي كذلك.

مثل هذه «التقسيمات التقليدية» تمت خلخلتها عبر إبستيمولوجيا الدالّ، إذ في شرعتها ليس المعنى مدلولاً، بل ليس ثمّة من مدلول أصلاً. ما يوجد إلا الدوالّ، الأسماء الفاعلة لفعل دلّ. الدال، هنا، اسم الفاعل لفعل دلّ، بحيث لا يؤخذ المصطلح بالمعنى اللساني المعتاد لـ«الصورة السمعية» كما يقول سوسير، بل بالمعنى الذي يكون فيه، بالنسبة إلى الشعرية، بـاثّاً للدلالية La SIGNIFIANCE التي تتجاوز الدليل المعجمي للكلمات، عبر آثار تداعيها مع دوال أخرى، والإيقاع وجهها الأبرز.


  • شعرية الترجمة

حتى إن كانت النظرية ليست ممكنة إلا في علاقتها مع الممارسة، فإن الترجمة هي ميدان الشعرية التجريبية والنقدية، بما هي ضرورية لها. لا يتعلق الأمر بإعطاء الترجمة مُجدداً منزلة اجتماعية أو تاريخية كانت قد استخفّتْ بقدرها، ولا بتأسيس لسانيات الترجمة، بل بالأحرى وضع هذه اللسانيات نفسها موضع سؤال عبر استجلاء التفاعل الذي لا يقبل بفصله عن الشعرية والسياسة داخل الترجمة، وعن الكتابة والأيديولوجيا.

سياستها هي سياسة نظريّتها لِلغة، ونظريّتها لِلشعر. إن العمل على إقامة الدليل بأن نظريتها للغة والشعر باطلة ولا يمكن الذود عنها، وبأنها تظل شكلاً نظريا لكُلّيانية ثقـافية عجوز يجب استبدالها، إنما هو العمل على هدمها، نحو الإقرار بالترجمة ـ الحياد لا بالترجمة ـ الإلحاق، وكذلك لممارسة النوعية الثقافية، اللسانية، الشعرية.

يقول ميشونيك «إن شعرية الترجمة تحقق اللقاء بين نظرية الأدب المنحدرة من الشكلانية الروسية، ونظرية الكتابة داخل الحداثة. ولا تفصل شعرية الترجمة النظريةَ عن الممارسة. تقيم نفسها عبر تفاعلهما، وتطرح تجانُس التّرجمة والكتابة. وتعرف ترجمة النص كلغة ـ نسق».

لذلك، تصير ممارسة الترجمة ونظريتها في آن، ميدان النظرية النقدية للغة الشعرية بامتياز، ولعلاقتها مع الأيديولوجيات. ليس هناك مكان محايد خارج الأيديولوجيا، ولا تعالي المترجم. لا يوجد هنا إلا جهل المترجم أو معرفته. ومقولة «الوفاء» ليس لها من معنى. والواقع أن كل ترجمة تظهر (أو تخفي) الأيديولوجيا لا يعني أن كلّ ترجمة هي أيديولوجية.

يقصد ميشونيك بالأيديولوجيا هيمنة النماذج الثقافية المعطاة عن الكتابة، ويرى أنّ نظرية لسانيات الترجمة لم تأخذ بالاعتبار هنا ما يقيم الترجمة الجيدة تجريبياً، أي إلى حدٍّ ما تلك الترجمة التي تشتغل وتستمر كنصٍّ. من هنا، ضرورة شعريّة الترجمة، وأما مشكلة الترجمات التي لم تتم، والتي تخلق نصاً، تقودنا إلى مشكلة شعرية، إلى وحدة جدلية بين نظرية اللغة، ونظرية الأدب ونظرية الأيديولوجيا.

في عام 1999، بعد ثلاثين سنة من التجربة والتفكير ونقد الترجمة وممارستها، عاد ميشونيك، ليُكرّس كتاباً بأكمله عن «شعرية الترجمة» الترجمة التي تكشف عن جُماع رهانات اللغة بقدر ما هي تعري تصور اللغة للمترجم، وتصورها للأدب ولما يكون لغة أدبية.

كما تعري هيمنة الدليل. وهذا الدور الذي أُسند للمترجم، وللكاشف عن فكر اللغة والأدب معاً، هو ما تمّ الشروع فيه وانكبّ عليه العمل.

ثُمّ، بعد ثماني سنوات من ذلك التاريخ، يستعيد ميشونيك في كتابه «أخلاقيّات الترجمة وسياستها» مشكلات الترجمة نفسها، وقد صارت واحدةً من أقانيم فكره الإشكالي. وهكذا، فإنّه لا يمكن أن يُقْرأ عمل ميشونيك في الترجمة أو يُفكّر فيه إلا ضمن مجموع أعماله الأساسية.

عبدا للطيف الوراري

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى