يوما بعد يوم؛ وإصداراً بعد إصدار، تنحت الكاتبة اليمنية انتصار شخصيتها الإبداعية على مهل، إذ أنها ما تفتأ تلامس بكثير من الفنية مواضيع شتى، بقدر ما تتعدد؛ فإنها في غالب الأحيان تتمحور حول تلك الانشغالات البسيطة للإنسان العادي، بعيدا عن الضجيج الكثير، الذي ما فتئ يحيط بنا من كل جانب، فارضا علينا بدكتاتورية مقيتة نمطا معينا في التفكير والذوق والحياة.
في المجموعة الأخيرة للمبدعة انتصار السري الموسومة ب” لحربٍ واحدة ” الصادرة عن مؤسسة أروقة للنشر والدراسات والترجمة في 82 صفحة من الحجم المتوسط، وتتوجها كلمة على ظهر الغلاف للشاعر اليمني الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، نلمس مجموعة من القضايا التي اهتمت بها الكاتبة.
وهي في الغالب مشاغل بسيطة يحاول الإنسان إثبات ذاته من خلالها، في عصر أصبح غريبا في كل شيء، تتجاذبه الهجمة التكنولوجية الكبير خاصة على مستوى آليات التواصل وغرابة الفكر المتمثلة في الانتكاسة الظلامية الكبرى التي يعيش نتائجها الإنسان العربي على الخصوص، وإن كانت لم تقتصر عليه وحده بل طالت العالم بأسره.
كما نجد في قصة “قهوة مرة” التي تحكي فيها الكاتبة عن حبيب ينتظر في مطار باريس حبيبته القادمة من أحد البلدان العربية، وهو يتخيل الأمكنة التي سيزورها معها والاستمتاع الذي يمكن أن يحظى به رفقتها، فإذا بها حين تغادر الطائرة وتتوجه إلى باحة المطار فإذا بها ” امرأة ترتدي نقابا أسود يخفي ملامح وجهها، تحمل في يدها وردة حمراء، وفي يدها الأخرى حقيبة يدوية، يغشاها الاضطراب.. فجأة يرتفع صوت ضابط الأمن قائلا:
– تفرقوا.. انبطحوا هناك إرهابية” الصفحة 22.
إنها المفارقة الكبرى التي أضحت تطحن أحلام الإنسان العربي الذي يسعى فقط ليعيش أحلامه البسيطة بدون منغصات، فإذا بقوى جبارة أكبر منه ذات صوت يرتفع تضغطه في الزاوية القصوى وتحرمه من حقه في الفرح.
في هذه المجموعة تقارب انتصار السري العلاقات الجديدة التي أضحت واقعا لا يعلى عليه والمتمثلة في العلاقات الافتراضية، التي أدت إلى ظهور كثير من الظواهر السلبية في المجتمعات، وساهمت -بالتالي- في بروز فئة من الناس تختفي وراء أسماء مستعارة لترتكب جرائم في حق الناس الأبرياء بالتهديد وتشويه السمعة.
فلنصغي إلى أحدهم وهو يهدد ضحيته” تخيلي نفسكِ، وكيف سيكون مستقبلكِ وسمعتكِ، وكم يد ستتحسس بشرتكِ الناعمة، وشعركِ المنساب، وكم حضن سيتنقل جسدكِ عبره، أه هذا بعد أن يكون لي شرف البدء.. هيا قرري” الصفحة 16.
كما تلامس الكاتبة انتصار في مجموعتها موضوع الحب والغيرة النسائية التي غالبا ما يشعر بأثرها على الساردة ذلك الشاعر بطل قصة “صورة” ، فتحكي الساردة قائلة: “إنني أشعر بضيق عندما يجلس معنا ويشركها في جلستنا، يتحدث عنها كأنها صديقته المقربة، في حقيقة الأمر أنا لا أحقد عليها، لكن أضيق من تصرفاته فهو لا يشعر بي، رغم أنني لم أفض له بمشاعري” الصفحة 24.
أما في قصة “قطط مشردة” فتقارب الكاتبة موضوعا اجتماعيا ذا أبعاد نفسيا حين تمحور قصتها حول طفل لقيط، مصورة عقده ومعانته، ومصيره الذي يأبى إلا ان يكرر من خلاله المأساة، وكأن الكاتبة تحاول أن تخبرنا بأننا في مجتمعات لا تتعلم، تصر على تكرار أخطائها بكثير من البلاهة وانعدام الضمير،
فتختم القاصة نصها بما بدأته في نوع من التقنية الكتابية، التي تعتمد الشكل الدائري في الكتابة القصصية ، ففي بداية القصة نقرأ:” بجوار ذلك الرصيف تبذ، صوت مواء القطط المتشردة المتسكعة يتداخل مع بكائه، ذباب متطاير، قاذورات متناثرة بجوار ذلك البرميل، رائحة بوله ممزوجة برائحة عفنن صوت بكائه يشتد، مستنجدا بأحد المارة، امرأة ثلاثينية تقذف أكياس القمامة، صراخ ذلك الطفل يفزعها…” الصفحة 29.
وفي نهاية القصة نقرأ:”…تضع مولودها .. يخطفه من بين أحضانها، يلفه بقطعة قماش، يضعه بداخل كرتون بجوار القمامة، تهب عاصفة، تقتلع الرياح غطاء الكرتون، يتبدد ظل ذلك الرجل، أجدني أنا ذلك الرجل المنبوذ متكورا داخل الكرتون، صدى صرخات بكائي المتداخلة مع مواء قطط متشردة، تهز وجدان امرأة ثلاثينية، ترمي بأكياس القمامة..” الصفحة 30.
ويمكنك أن نستمر في تلمس ثيمات مجموعة انتصار السري “لحرب واحدة” باحثين عن أهم ما يشغل هذه المبدعة من مواضيع، لكننا يمكن أن نكتفي بما التقطناه في هذه الوقفة عند المجموعة من موضوعات، فهي في عمومها لا تبتعد عن انشغالات الإنسان في يومنا هذا،
ذلك الإنسان القانع بحيزه الضيق، الذي يحاول أن يمارس فيه بعضا من حياة، مواجها إكراهات شتى نفسية واجتماعية وثقافية، تزداد حدتها بمرور الوقت قوة وصلابة… وقد صاغت القاصة نصوصها بأسلوب سلس واضح لا لبس فيه، ولغة سردية تتمتع بدفق غير قليل من المشاعر، التي تجعلنا نستشف من خلالها لمسة شعرية وشاعرية ميزت وتميز كتابات المبدعة اليمنية انتصار السري في هذه المجموعة وفي مجموعتيها السابقتين.