التركيب السردي في مسرحية “شهرزاد” لتوفيق الحكيم
1- البناء السردي العام في مسرحية شهرزاد
يمكن القول عموما بأن حكاية المسرحية تقع في اليوم الثاني بعدالألف من حكاية الف ليلة وليلة، أي بعد زواج شهريار من شهرزاد، وتتويجها ملكة. لقد كان لزاما على الكاتب، لكي يستمر السرد، أن يخلق وضعية نقص جديدة تدشن بؤرة لانتشار سردي محتمل. وستكون مرحلة الجزاء منطلقا لتحفيز جديد تحتل فيه شهرزاد موقع المرسل، وشهريار ذاتا.
وهكذا فإن المسرحية تجعل من مرحلة إنجازشهرزاد ( قصص الحكايات ) بمثابة تحفيز لشهرزاد، فيكون فعلها فعلا إقناعيا يتوخى تغيير وعيه الصوغي، وتأسيس كون أكسيولوجي جديد سيتحكم في توجيه حركة هذه الذات. وسيقابل شهريار هذا الفعل الاقناعي بفعل تأويلي سينتهي به إلى قبول التحفيز، بحيث يبدو في المسرحية كذات احتمالية حاصلة على صيغة /الرغبة/، ومالكة لبرنامج سردي ( سنشير إلي البرنامج السردي ك : ب . س )وضع للتحقيق. وهي في سبيل هذا، ستصوغ عدة برامج استعمالية هي على التوالي: الاستعانة بالساحر- مساءلة شهرزاد- السفر.
فإذا كان “نقل الحكايات”إنجازا في “الليالي”؛ فإن شهرزاد تود هنا التاكد من مدى نجاحها في هذا التغيير. إنها تحتل، في برنامجها هذا موقعين عامليين: موقع الذات الاجرائية ثم موقع المرسل إليه النهائي الذي يمارس الجزاء، أي الذي يمارس نشاطا ادراكيا حول الحالات المحولة. فالذا ت الاجرائية/ شهرزاد ستعمل على إقناع المرسل إليه النهائي/ شهرزاد بنجاح إنجازها، وسيتخذ فعل الاقناع هذا شكل برنامج استعمالي سنطلق عليه اسم ” الخيانة ” ولشهرزاد فيه عدة مواقع : المرسل/المحفز ( الذي أغرى الذات/العبد بقيمة الموضوع/جسد شهرزاد) وذات الحالة ثم الذات الاجرائية ( التي عملت على تحقيق الاتصال بين العبد وجسدها ).
إنها طورت هذا البرنامج لتعرض حالته النهائية أمام المرسل اليه النهائي/ الزوج شهريار، ولترى ما إذا ما كان يزال محتلا لهذا الموقع العاملي أم لا، وما إذا كان يثمن المواضيع وفق نفس الكون الاكسيولوجي أم لا.
وإذا كانت شهرزاد قد استطاعت أن تحفز كلا من شهريار ( في برنامجها الأساسي) والعبد (في البرنامج الاستعمالي)، فإنها لم تنجح في تحفيز الذات قمر، ذلك أن هذه الذات ستظل دون رغبة، وبالتالي دون ب . س. (برنامج سردي ) ولعل هذا ما سيدفعنا إلى محاولة الارتقاء إلى موقع المرسل إليه المضاد ( في برنامج شهرزاد ) وموقع المرسل إليه النهائي في برنامج الخيانة. وإذا كانت هذه الذات قد أخفقت في احتلال الموقع الأول، فإنها احتلت الموقع الثاني رغم سلبية جزائها (الانتحار).
1-1 – البرنامج السردي الاساسي لشهريار : من اللذة إلى الحقيقة
1-2 موضوع القيمة :
تتخذ العلاقة بين الذات والموضوع في سيميوطيقا السرد أهمية بالغة، فهي التي تحدد الوجود السيميائي للعاملين معا. ويمكن النظر إلى الموضوع كفضاء تتحقق من خلاله مجموعة من القيم، وهي قيم يمكن التمييز داخلها بين القيم الوصفية ( المواد الاستهلاكية، القيم العينية – الذات والمتع…) القيم الصوغية : كالرغبة والقدرة والمعرفة ( سواء كانت معرفة فعل أم معرفة حول الكينونة). وهي تتصل بالتركيب السردي أكثر من اتصالها بالدلالة(1).
والحديث عن القيمة يجر إلى الحديث عن المرسل. فما يبرر وجود موقع هذا الأخير داخل الترسيمة السردية – كما يذهب إلى ذلك كريماص- هو قدرته على تحويل أكسيولوجيا معينة من وضعها كنسق من القيم إلى متوالية من الإجراءات (2). وبناء على هذا، ماهي المواضيع التي تؤسس الوجود السيميائي للذات شهريار ؟ وما هو مرسلها ؟.
تظهر الذات شهريار في المسرحية كذات ترتبط بموضوعين اثنين، أو بالأحرى بموضوع وموضوع مضاد. أما الموضوع فيتخذ طابعا ادراكيا /معرفة كينونة/ شهرزاد والطبيعة، وتتجسد فيه قيمة /الحقيقة/، وبقدر ما ترغب الذات شهريار في الاتصال بهذا الموضوع الصوغي، بقدر ما ترغب في الانفصال عن موضوع مضاد هو الجسد، وهو موضوع تتجسد فيه مجموعة من القيم الوصفية (اللذة الإيروسية). وهكذا يظهر لنا الدور الذي لعبه المرسل البدئي/ شهرزاد في تغيير إدراك الذات/ شهريار للقيم وتقديره لها، وذلك من خلال فعل إقناعي غير مباشر وهو (قص الحكايات ) :> أليست قصص شهرزاد هي التي فعلت بهذا الهمجي ما فعلته كتب الانبياء بالبشرية الأولى<* ص 36.
وسيقابل هذا الفعل الاقناعي فعل تأويلي سيقود الذات إلى قبول التحفيز، بحيث ستبدو في المسرحية ذاتا احتماليا مالكة /الرغبة/ في الموضوع /عدم الرغبة/ في الموضوع المضاد. ويظهر زوال الرغبة على المستوى الخطابي في صورة شبع، يقول شهريار: ” شبعت من الاجساد،< (ص79).
إن ازدواجية الموضوع هذه ستدفع الذات إلى بناء برنامجين : برنامج للاتصال بالموضوع، وبرنامج مضاد للانفصال عن الموضوع المضاد.
1-3 – التأهيل : البحث عن المرسل مالك الحقيقة .
تقدم الذات / شهريار في النص كذات احتمالية حاصلة على صيغة الرغبة ” لا أريد أن أشعر… أريد أن أعرف ” ص 53 ” أقسم لك أنني في حاجة إلى أن أعرف عنك أكثر مما أعرف” ص 57 ”اليوم نريد الحقائق ياقمر، نريد الوقائع، نريد أن نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا” ص 71.
وبما أن رغبة الذات تتعلق بالمعرفة، فهذا يعني أن نشاطها يقع على المستوى الادراكي للخطاب، وأن الأهلية التي يستلزمها الانجاز أهلية ابستيمية تحدد بمقتضاها النوعية الصوغية لتلك المعرفة.
إن تناول الموضوع/ المعرفة يتطلب- من الوجهة السميائية- وجود ذاتين : ذ1 و ذ2. بحيث أن ذ1 تكون أكثر معرفة من ذ2 .ومقابل ذ2 التي ترغب في المعرفة، يجب أن تتوفر ذ1على صياغة /الرغبة في الاخبار، أي ”نية حسنة” في إقامة تعاقد معرفي.(3)
إن المرحلة التي تجسدها المسرحية من برنامج شهريار هي مرحلة البحث عن الأهلية التي تشكله كذات حاصلة على /القدرة على المعرفة/. والحقيقة أن بحث شهريار عن هذه القدرة يمكن أن يؤول كبحث عن السر، الذي يستطيع أن يقيم معه تعاقدا استيثاقيا يحصل بمقتضاه على معرفة حقيقية. ولعل هذا ما دفعه إلى تطوير برامج استعمالية تهدف كلها إلى تمكينه من الأهلية المطلوبة.
أ- البرنامج الاستعمالي الأول : الاستعانة بالساحر :
يحتل شهريار في هذا البرنامج موقع المرسل البدئي – الذي حفز ذاتا إجرائية /الساحر حسب صيغة/ وجوب الفعل /- وموقع ذات الحالة المنفصلة عن موضوع.
ويبدو الساحر ذاتا مؤهلة يكثف أهليتها الدور الثيمي/ الساحر/، إذ يمكن تأويل السحركـ / قدرة على المعرفة /إنتاج معرفة/، وإنتاجها يتطلب إنجاز برامج استعمالية محددة. و ستتجسد هذه البرامج خطابيا في : قتل العذراء، وإذابة لحم الآدمي ساكن الذهن ( انظر ص 46-21 ).
إن المعرفة التي سيسفر عنها هذان البرنامجان سوف ينظر إليها المرسل إليه النهائي/ شهريار على أنها معرفة زائفة، وبالتالي لاتملك أية قيمة صوغية. وسيتخذ الجزاء الذي مارسه شهريار على إنجاز الذات الاجرائية /الساحر صورتين.
– حكم ابستيمي على قيمة المعرفة (خاطئة)
– تهديد بالعقاب التداولي : يقول شهريار للساحر ص 69 >لولا يقيني أن حياتك لا تساوي درهما لأخذتها منك ، أغرب….<. إن إخفاق هذا البرنامج الاستعمالي سيـــدفع شــهريار إلى صياغة ب س استعمالي آخر يمكن أن نسميه ( مسألة شهرزاد).
ب- مساءلة شهرزاد : التواصل المستحيل :
إن شهرزاد تحتل أكثر من موقع عاملي سواء في البرنامج الأساسي لشهريار أو في برامجه الاستعمالية. إنها تحتل موقع المرسل البدئي الذي نقل للذات صيغة /الرغبة/. وتحتل هنا موقع المرسل إليه النهائي الذي يمارس جزاء إدراكيا في ب . س الاستعمالي (الاستعانة بالساحر).
تقول لشهريار : ” هل كشف لك السحر والعلم عن سر واحد مما تتحرق لمعرفته < ”(ص 46) > أرأيت كيف تضل السبيل بالتجائك إلى السحرة !<(ص47). وهي تشغل موقع الذات المضادة في البرنامج الاستعمالي (مساءلة شهرزاد)، حيث ترفض البوح بالسر لشهريار.
تبدوشهرزاد في اعتقاده – ذاتا محققة بالموضوع/ السحر : > أنت تعرفين كل شيء، أنت كائن لا يفعل شيئا ولا يلفظ حرفا إلا بتدبير، لا عن هوى ومصانعة، أنت تسيرين في كل شيء بمقتضى حساب لا ينحرف قيد شعرة…<( ص 59).
إنه فعل تأويلي يمارسه شهريار حول كينونة شهرزاد، ستقابله هذه الأخيرة بفعل إقناعي تتغيى منه تغيير الوضع الصوغي لمعرفة شهريار لكينونتها. تقول :> أنت يا شهريار تراني في مرآة نفسك <ص 59. هكذا نجد أنفسنا في هذا البرنامج الاستعمالي أمام سجال إدراكي بين الذاتين: شهريار وشهرزاد، سينتهي بالاخفاق في إقامة تعاقد معرفي بينهما.
إن الوضع المعرفي للذات الراغبة في المعرفة / شهريار يتخذ ثلاث صور مقابل الذات / مالكة السر / شهرزاد :
– فمقابل شهرزاد التي “تصمت ” يبدو شهريار ذاتا مخدوعة.
– ومقابل شهرزاد التي ” تمنع” ، يبدو شهريار ذاتا محرومة
– ومقابل شهرزاد التي ” تراوغ ” يبدو شهريار ذاتا حائرة (4)
ففي الحالة الاولى تقول شهرزاد > لا تكن طفلا يا شهريار، أنت تعلم أنك إن ألححت علي عشرين قرنا، فلن تظفر مني بكلمة < ص 58.
وفي الحالة الثانية نلاحظ أن فضول شهريار يزداد تأججا. أما في الحالة الثالثة فنجد شهريار يقوم بنشاط تأويلي ينتهي به إلى الحكم على أقوال شهرزاد بالكذب والخداع. يقول لها : >ابتعدي أيتها الخادعة…< ص 49 > امرأة خادعة< (ص49).
إن فضل شهريار في إقامة تعاقد معرفي استثنائي يحصل بمقتضاه على الموضوع /الحقيقة من شهرزاد، سيدفعه إلى تطوير برنامج استعمالي آخر سنطلق عليه اسم ” برنامج السفر ”.
ج- البرنامج السردي الاستعمالي : السفر:
يمكن النظر إلى السفر – من الوجهة السيميوطيقية – كتجل خطابي لصيغة الرغبة (5)، وهو بذلك يعلمنا بأن الذات / شهريار ما تزال ذاتا احتمالية لا تملك غير صيغة/الرغبة في المعرفة/ والغرض من هذا البرنامج الاستعمالي هوالحصول على الصيغة التي يمكن أن تؤسسها كذات معينة، أي/القدرة على المعرفة/.
وإذا كان الموضوع في البرنامجين السابقين هو المعرفة، فإننا نجد أن الموضوع في هذا البرنامج ثنائي : هناك من جهة المعرفة، وهناك من جهة ثانية : الانفلات من الجسد. ولعل هذا ما يجعل هذا البرنامج يبدو من جهة كبحث عن موضوع ادراكي، ومن جهة أخرى ” كهروب ” من الجسد، وهو ما يعني أن الذات / شهريار توجد في ملتقى قوتين متناقضتين : الاولى جاذبة والأخرى دافعة.
وإذا تركنا جانبا السفر ” كبحث ” عن المعرفة، واقتصرنا على كون هذا البرنامج ” هروبا من الجسد ”، أمكن التعامل مع العلاقة بين الجسد ومحيطه، كبنية عاملية يحتل فيها الجسد موقع الذات، والمحيط موقع الموضوع. فالجسد يرغب ( في الاشياء والاجساد المحيطة به)، وبرغبته تنشأ الدينامية، وهي دينامية تنتهي بالاشباع.
في هذه الحلقة المفرغة تاه شهريار قبل > ألف ليلة وليلة <، وكان من اللازم انتظار شهرزاد لكي تبطل فيه تلك الرغبة، وتستبدلها بأخرى كما رأينا سابقا. ويظهر زوال الرغبة ذاك -خطابيا-في صورة شِبَع، يقول : > شبعت من الاجساد…<(ص 82)، وزوال الرغبة معناه تدمير الوجود السيميائي لكل من الذات والموضوع، عدا أن الذات شهريار إن كانت قد نجحت في التخلص من الجسد كموضوع للذة، فإنها لم تستطع التخلص من جسدها الخاص، هذا الجسد الذي يخضع- كما رأينا – لإرغامات الفضاء وحدوده . يقول ” إني أضيق ذرعا بهذا المكان، بهذا الجثمان…< (ص144 )، وبهذا تصبح الرغبة في التخلص من الجسد مرادفة للرغبة في التخلص من الفضائية.
إن الجسد – كما ألمحنا أعلاه- يرتبط بالفضاء وفق مقولة : يتضمن (م) متضمن ، فهو مشمول بما يحتويه من مكان، وبذلك يغدو تحرير الجسد تكسيرا لحدود المكان والانتقال إلى اللامكان. يقول شهريار :> أود أن أنسى هذا اللحم ذا الدود وأنطلق، أنطلق…إلى حيث لاحدود…< (ص74) ويتطابق هذا الانفصال المكاني مع آخر على مستوى الفضاء الإدراكي. ذلك أن العلاقة بين الذات /الجسد والموضوع/ الأشياء يمكن النظر إليها كعلاقة معرفية تتم بواسطة الحواس (السمع، البصر، اللمس) في شكل شعور، وبالتالي فإن الانفصال عن الفضائية معناه الكف عن الشعور والانتقال إلى الوعي يقول شهريار :> كنت قبل أشعر ولا أعي … اليوم أنا أعي ولا أشعر كالروح <. ص 82
إن النص يجسد لنا مرحلة الانجاز من برنامج السفر، وهو يدخل ممثلا آخر سيشارك في هذا البرنامج وهو قمر، ويحتل هذا الأخير موقعين عامليين : فهو من جهة ينضوى تحت العالم / الذات الاجرائية التي تنجز الانفصال المكاني/السفرمع شهريار، وهو من جهة أخرى يطمح إلى احتلال موقع المرسل المضاد الذي يبطل عند الذات /شهريار صيغة /الرغبة / يقول: > هلم بنا نقفل راجعين< (ص89).
إن إنجاز السفر يضعنا أمام انفصال مكاني واضح، فهو ينقلنا من مكان المدينة /مكان جماعي واجتماعي / إلى البيداء، ويتميز هذا المكان بكونه > لا نهاية له < لن يصادفنا فيه حي، ولا نسمع فيه غير اصواتنا الضائعة <(89/87 ). فإلى أي حد استطاعت الذات / شهريار أن تحقق الاتصال بالموضوع المعرفة والانفصال عن الجسد؟
يقدم لنا النص مرحلة الجزاء من هذا البرنامج، وهي تتناسب مع العودة من السفر، وهو جزاء يقوم به عدة ممثلين – فنحن- من ناحية- نجد الممثل شهريار الذي يقوم بجزاء على انجازه /السفر/يتخذ صورة نشاط تقويمي يقول : > لم أسافر، لم أتحرك< (134 ) >ها أنذا في القصر من جديد، إلا م انتهت ؟ إلى مكان البداية كثور الطاحون على عينه غطاء< (ص135)> السفر والانتقال إن هو إلا تغيير إناء بعد إن<اء(ص 138)، فهو هنا يعرف بأن الانفصال المكاني لم يمكنه من الانفصال عن المكان والتخلص من الفضائية.
ومن ناحية أخرى فإن الجزاء تمارسه أيضا شهرزاد، ويتخذ شكل حكم إدراكي على حالة الذات / شهريار، بقول: > أنت معلق بين الأرض والسماء < ص(150) >دار إلى نهاية دورة، شهريار آخر الذي يعود، يولد غضا نديا من جديد، أما هذا فشعرة بيضاء قد نزعت <(150). هكذا نجد أن برنامج السفر، شأنه شأن البرنامجين الاستعماليين السابقين، سينتهي إلى الاخفاق في تحقيق اتصال الذات بالمعرفة وانفصالها عن الجسد، وبذلك فإن هذه الذات ستظل ذاتا احتمالية لاتملك سوى الرغبة. وبهذا يغيب مقطع الانجاز من البرنامج السردي الاساسي لشهريار.
2-2 – المسار السردي للمرسل إليه النهائي / شهرزاد:
قلنا سابقا إن حكاية المسرحية تتناسب مع مرحلة الجزاء من ب . س. الذي تحتل فيه موقعين عامليين أساسيين : موقع الذات الاجرائية التي أنجزت التحويل ( تغيير الوضع الصوغي لشهريار) وموقع المرسل إليه النهائي الذي سيمارس الجزاء حول هذا الانجاز. ويمكن القول عموما إن الجزاء في هذا البرنامج سيتخذ صورة تجربة تمجيدية تتوخى من خلالها الذات الاجرائية / شهرزاد أن تقنع المرسل إليه النهائي /شهرزاد بنجاحها في إجراء التحويل، تقول : > أريد أن أرى إلى أي حد تغير شهريار< (ص131)، وسيظهرهذا الفعل الاقناعي في صورة برنامج استعمالي نطلق عليه برنامج (الخيانة).
2-2-1-البرنامج السردي الاستعمالي : (الخيانة) .
تحتل شهرزاد في هذا البرنامج عدة مواقع، فهي تحتل موقع المرسل الذي حفز الذات / العبد ورغبه في الخيانة، وهي ذات الفعل التي سهلت عملية الخيانة للعبد، وهي ذات الحالة التي ستنتقل من الانفصال عن العشيق، أما من منظور العبد فهي موضوع يريد الاتصال به، إنه يحمل قيمة وصفية تتمثل في جمال جسدها. يقول :> يالجسد شهرزاد!< ص 10 وفي موضع آخر> ما أجملك، ما أنت إلا جسد جميل !< (ص96).
إن النص يقدم هذا البرنامج متحققا، أي منجزا، فالذاتان قد حققتا الاتصال ضمن (الخيانة)، وهو اتصال سلبي على المستويين الاخلاقي والقانوني، يمكن أن يسفر عن جزاء براغماتي (العقاب) يمارسه المرسل إليه النهائي الزوج /الروح/ شهريار أو المجتمع. وهذا العقاب يفرض أن يظل هذا البرنامج سريا (كينونة+ لا ظهور).
على أن هدف شهرزاد يفرض نقل هذا البرنامج من محور المحايثة إلى محور الظهور بالنسبةلشهريار، أي نقله من (كينونة+ لا ظهور) .
هكذا ستلجأ شهرزاد إلى المقابلة بين الذات / شهريار والذات المضادة / العبد، وهي مقابلة كان من الممكن أن ينشأ عنها صراع ودينامية. غير أن كون الذاتين لا تعيشان في نفس الكون الاكسيولوجي ( رغبة العبد في جسد شهرزاد توازيها رغبة شهريار عنه )، سيجعل شهريار يتخلى عن موقع المرسل إليه النهائي/حامي القيم، ويتنازل عن عقابه.
إن تخلي شهريار عن هذا الموقع العاملي سيكون مدار فعل تأويلي تمارسه شهرزاد / المرسل إليه سينتهي بها إلى الاعتراف بنجاحها( تغيير الوضع الصوغي لشهريار). والحكم على الحالة التي انتهى إليها شهريار، تقول : > أنت رجل هالك !< > أنت رجل معلق بين الارض والسماء، ينخر فيك القلق !< (ص149).
2-2-2 – الجزاء : هكذا إذن نرى كيف أن شهرياريحتل موقع المرسل إليه النهائي الذي يمارس جزاء إدراكيا على انجازات الذات الاجرائية ( شهرزاد) وعلى كينونة ذات الحالة / شهريار.
2-3- المسار السردي للمرسل المضاد/ قمر : إن قمر لا يملك برنامجا سرديا محددا، صحيح أنه يرغب في الموضوع/شهرزاد، الذي تتحق فيه قيمة الجمال، لكنه لا يفعل شيئا ليترجم هذه الرغبة إلى واقع.
يذهب C . Zilberberg إلى أن القيمة الجمالية تنشط الموضوع وتسلب الذات، ذلك أن الموضوع يمارس إغراء لا يقاوم على الذات التي تجد نفسها غير قادرة على / عدم الفعل/، عدا أن تدخل الاخلاق يجلب ذاتا سلبية إلى جانب الذات النشيطة، مستعدة للخضوع للأوامرالاخلاقية .
فالاستتيقا تقوم على علاقة التبادل القائمة بين موضوع نشيط وذات سلبية، أما الاخلاق فتقوم على المواجهة بين ذات نشيطة وأخرى سلبية.
(6) فالذات قمر تبدو سلبية أمام الموضوع / جمال شهرزاد، منجذبة إليه، غير أن ظهور الذات النشيطة (المرسل المضاد) / الرقيب الأخلاقي، سيجعل تلك الرغبة فضاء للتوتر والصراع.
هكذا سنجد أن قمر يقاوم إغراءات شهرزاد، ويرفض تنازل شهريار له عنها، بل سوف يشارك شهريار في برنامج السفر على الرغم من كونه لا يرغب في ذلك : > شهريار : لما هربت، وجريت كي تلحق بي، آثرت أن تتجشم معي أسفارا وأخطارا ما جعلت لها ؟ويرد قمر : لست أدري لماذا فعلت هذا ! (ص 116).
إذا كان قمر يحتل موقع المرسل المضاد في ”برنامجه” فإنه حاول احتلال هذا الموقع في برنامج شهريار، وقد رأينا كيف أنه حاول إقناعه بالاحجام عن السفر، وكيف أنه حاول تحفيزه للانتقام من شهرزاد والعبد عند اكتشاف خيانتهما.
> قال له ! هب أن الأمر صحيح، تفعل بلا ريب واجبك يامولاي… كما فعلت بزوجك الاولى …< (ص 129)، غير أن محاولاته تلك باءت بالفشل. فبرامجه الادراكية لم تنجح في تغيير الوضع الصوغي لشهريار.
ولعل هذا الفشل هوالذي سيدفعه إلى ممارسة جزاء براغماتي (بالمعنى الحرفي للكلمة) سيتخذ صورة انتحار على المستوى الخطابي.
إن قوة الليبدو يردها R . Girard- على مستوى الاسطورة -إلى العنف ”و> المقدس </ الاخلاق اللذين ينبثقان بقوة في التراجيديا الاغريقية. فالعنف- كما يقول R . Girard-يؤسس المجتمع ( وإن كان يهدده داخليا وخارجيا )، وذلك بإجباره على تكوين مؤسسات وطقوس، الهدف منها هو توثيق الصلة بين أفراد الجماعة، وجعلهم عبارة عن قوة مقدسة. ولعل أهم هذه الطقوس تقديم القربان أو ” كبش الفداء” الذي يرمي إلى تحويل غضب الآلهة.
والواقع أن ”كبش الفداء” هذا قد يكون هو الملك ذاته أحيانا، وذلك لاجل إنقاذ مجتمعه، وحمايته من غضب الآلهة.
عدا أننا نجد في الاسطورة – في الغالب الاعم – ” استبدالا قربانيا إذ أن الملك ينقل صلاحياته وسلطاته إلى ”ضعف” له، ستتم التضحية به لاحقا (7).
وهو ما نجده تقريبا في مسرحيتنا، ذلك أن شهريار قد تنازل مرارا لقمر، ليس عن ملكه فحسب، وإنما عن زوجته شهرزاد أيضا. وفي مسرحيتنا – كما في الاساطير- فإن النهاية جاءت مأساوية : فهذا ”الضعف” ينتهي به الأمر إلى الموت.
وهو موت تراجيدي عنيف : > فجأة صيحة ذعر ترتفع خارج المكان ثم صوت استغاثة، ويظهر العبد راجعا أدراجه على نحو غريب، وهو متفرغ <(147)> العبد : سيف الجلاد ! أطاح رأسه عن جسده بسيف الجلاد، إذا بصرني خارجا من الحجرة…( ص147).
إن هذا العنف الذي مارسه قمر على ذاته إنما كان ذلك العنف الذي يهدف إلى إخضاع ” الليبدو” لسلطة ( الاخلاق ) / المرسل المضاد .
حاولنا في هذه الدراسة تفكيك التركيب السردي في مسرحية ” شهرزاد ” وإبراز خصوصيته. ونحن لا ندعي الإحاطة بتلك الظواهر والعمليات السيميوطيقية التي يقدمها هذا المستوى، فذلك أبعد من أن ينجز في عجالة كهذه، وحسبنا أننا كشفنا عن العلاقة السردية التي تربط بين حكاية المسرحية والحكاية المتضمنة لقصص ” ألف ليلة وليلة” وحسبنا كذلك أننا كشفنا عن طبيعة العلاقة القائمة بين البرامج السردية التي تشكل لحمة البنية السردية للمسرحية .
ويمكن إجمال الخلاصات التي انتهينا إليها فيما يلي :
– إن المرحلة التي تقدمها المسرحية هي مرحلة الجزاء وجزاء الجزاء في حين تغيب مرحلة الانجاز البراغماتي التي يكون فيها النشاط للذوات، وتكون فيها ” الفرجة ” حول الذوات المتصارعة. فالقارئ يجد نفسه في النص أمام أنشطة من طبيعة إدراكية ( أفعال إقناعية وأخرى تأويلية ) متقابلة وهو ما يجعل التنامي السردي في المسرحية ضعيفا.
– إن تأمل النماذج العاملية المكونة للمسرحية يدلنا على حضور شهرزاد فيها كمرسل تارة وذات أخرى، وموضوع ثالثة ومرسل إليه رابعة …فهي إذن > بطلة< المسرحية بلا منازع، ولعل هذا ما يبرر اختيار الحكيم لاسمها عنوانا للمسرحية.
– إن حكاية المسرحية يغيب فيها الصراع والسجال البراغماتي، ذلك أن النص لا يستثمر التعارض بين العبد وشهريار. فهما لا يتصارعان حول نفس الموضوع، بل نجد أن رغبة العبد في جسد شهرزاد توازيها رغبة شهريار عنه، وبهذا تغيب الدينامية السردية ويتعطل التطور السردي. فعوض أن تكون المسرحية مبأرة حول المثلث الفعال – كما تسميه أوبرسفيلد- فإنها مبأرة حول المثلث السيكولوجي، (المرسل – الذات – الموضوع) والمثلث الايديولوجي، (الذات الموضوع – المرسل إليه ) (8).
– إن ما يصنع خصوصية السرد المسرحي – كما تذهب إلى ذلك أوبرسفيلد هو تعدد النماذج العاملية، وتعدد توليفاتها وتحولاتها (9)، وهو ما لا نجده في هذه المسرحية. إن هذا الأمر يتيح لنا الزعم بأن خاصية المسرح فيها ضعيفة.
وما يدعم هذه الدعوى هو كون الموضوع -بمفهومه السردي – مجردا وإدراكيا، ونحن نعلم أن ما يصنع خصوصية السرد المسرحي هو كون الموضوع عموما – يكون قابلا، “للأيقنة”، أي لأن يترجم إلى شيء بصري على الخشبة. لقد استشعر توفيق الحكيم هذا الأمر فاعترف > بصعوبة تمثيل مسرحيات مثل ” أهل الكهف” و ”شهرزاد” ، لأن الفكر هنا ليس هو الفكر الواقعي ”بل هو” الفكر المجازي” … أو الاسطوري باشخاصه الاسطورية أو المجازية التي لا تلمس ولا تصادف في الحياة الواقعية < (10).
– إن الغموض الذي يخيم على البناء السردي للمسرحية يمكن رده إلى القرابة الجينيالوجية بين ”شهرزاد” والموسيقى يقول الحكيم > إني أذكر عند كتابة ” شهرزاد ”أن إحساسي كان موسيقيا … ما كنت أتمثل أشخاصا ولا أتصور مواقف، بل أحس بموسيقى تطن في أذني، موسيقى من طراز عصفور النار لـ >سترافنسكي<… تلك كانت بؤرة إحساسي التي تكونت فيها المسرحية …< (11) . أليست الموسيقى هي لغة الغموض بامتياز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
* سوف نشير إلى الاحالات المتعلقة بنص المسرحية داخل متن هذه الدراسة
1- Greimas , Courtès , Sémiotique , dictionnaire raisonné de la théorie du langage , éd Hachette 1979 , Article : valeur
2- Greimas : Maupassant , la sémiotique des textes , éd Seuil 1976 p 62
3- Zilberberg C : Raison et poétique du sens, P U F , 1988 pp .188-189
4- op cit p 189
5- Greimas : Du sens II, éd Seuil , 1983, p 146
6- Zilberberg, op ccit p. 111
7- D ,Mendelson : Arrabal et le jeu dramatique des échecs ,in Littérature 9 , 1973. pp 111-112
8- Ubersfeild , Anne : Lire le théatre, éd Sociales ;1982 , pp 77-78
9- ibid p 58 et p 81
10- مقدمة يا طالع الشجرة – توفيق الحكيم – دار الكتاب اللبناني ط I 1978 ص 12
11- نفسه ص 29