سلسلة: تاريخ النُّـبُـوَّة تَـوْراتِيـًّا

تـاريـخ النُّـبـوة توْراتياً – 5 –

 

التسمية _ جنس الأنبياء _أخويتهم _ تقسيماتهم _النظرة إليهم.

فى كتابه المُعنون؛ “أصل وهدف التاريخ” وضع الفيلسوف الألماني “كارل ياسبرز”، المنتمي لتيار الوجودية المؤمنة بنظريته عن التاريخ المحوري ، وذهب ياسبرز إلى أن هذا ” العصر المحوري” هو العصر الحاسم المؤسس لكل ما يحيط بنا ثقافيًا وحضاريًا، وعين ياسبرز عصره المحوري بالقرن الخامس قبل الميلاد ولمدة تمتد لقرون ثلاث بعده، أي القرن الذي تمت فيه كتابة التوراة على يد عزرا الكاتب؛ والقرون الثلاث التي تلته ، وعلى هذا تشمل هذه الحقبة العصور التي عاش فيها كلٌّ من سقراط و عزرا وزرادشت وبوذا.

  • أولاً : التسمية

عرف النبي بهذه الصفة _النبي_ فى مرحلة متأخرة نسبياً من تاريخ تلك الجماعات، أي بعد تسللهم إلى أرض كنعان على وجه التحديد، فكما تخبرنا التوراة؛ كان النبي يعرف بالرائي أو الحوزي، وهي تعني ” البصار” حسبما ورد فى سفر صموئيل الأول.

“سابقاً فى إسرائيل؛ هكذا كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله، هلم نذهب إلى الرائي، لأن النبي اليوم كان يدعي سابقاً الرائي” ( صم1 9:9). وكان الناس يعتقدون أن الرائي يرى ما لا يراه غيره من الناس العاديين، فهو يستطيع على سبيل المثال؛ أن يعرف مكان الشيء الضائع أو المسروق، كما أنه يستطيع استشراف المستقبل لأن الإله يهوه يطلعه على ما هو كائن.

ومن الجدير بالذكر أن النبوة لم تكن حكراً على أنبياء يهوه وحسب، ففي أرض كنعان كان لكل إله عشرات بل مئات الأنبياء، فهناك أنبياء لكل من بعل وعشتروت وغيرهما، بل وكان أنبياء بعل وعشتروت، يفوقون أنبياء يهوه عدداً. وهذا يشير إلى أنهما ، أعني بعل وعشتروت كانا أكثر اتباعاً من يهوه.

  • ثانياً : جنس الأنبياء

في سياق الثقافة الإسلامية؛ يكاد يكون موضوع النبوة مقصوراً على الرجال بشكل يكاد يكون حصريا، فلم يقص القرآن الكريم علينا قصة تتناول ظاهرة النبوة، وكانت بطلتها نبية من الأنبياء، اللهم الا في معرض حديثه عن قصة المسيح، حيث ذهب البعض في رأيٍ مَرجوح؛ إلى أن مريم والدة المسيح بلغت مرتبة النبوة وذلك لقياسهم إرسال الله إليها جبريل عليه السلام ليبشرها بأن الله اصطفاها لتكون والدة للمسيح عليه السلام. وهو النبي الخاتم الذي ختم الله به نبوات بني إسرائيل، لكن الأمر في التوراة جد مختلف؛ حيث تخبرنا التوراة في سفر العدد؛ أن مريم أخت موسى؛ كانت نبية من الأنبياء شريكة لموسى وهارون في نبوتيهما، بل إن نبوتها مساوية تماماً لنبوة هارون وإن كانت دون نبوة موسى، ولنطالع سوياً هذا النص من سفر العدد “فنزل الرب في عمود سحاب ووقف في باب الخيمة ودعا هارون ومريم فخرج كلاهما، فقال اسمعا كلامي، أن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم أكلمه” ( 12 : 6).

وفي مرحلة القضاة يقص علينا العهد القديم قصة “دبورة” النبية و القاضية التي لعبت دوراً بارزاً في توحيد القبائل العبرانية تحت راية يهوه لمواجهة الكنعانيين وقائدهم سيسرا، بل وشاركت بنفسها في المعركة مع القائد الذي عينته باسم يهوه “باراق بن ابينوعم” “فقالت دبورة لباراق قم، لأن هذا هو اليوم الذي دفع فيه يهوه إليك سيسرا، ألم يخرج يهوه قدامك” ( قض 4 : 14).

  • ثالثاً : اخويات ” زمر” الأنبياء

كان الأنبياء يعيشون في زمر وجماعات وهذا الوصف ينطبق على أنبياء يهوه وبعل وغيرهما ، بيد أنهم في زمن صموئيل النبي كانوا يتمتعون ببنية إجتماعية محددة فقد كان لهم شخص يترأسهم أثناء ممارستهم لعملهم ، ويذهب بعض المهتمين بالشأن التوراتي إلى أن جميع من كانوا ينتمون إلى هذه الزمر هم من الأنبياء ، لكننا لا نرى هذا بل نذهب إلى أنهم كانوا أشبه ما يكون ” بالمريدين ” في الطرق الصوفية في سياق الثقافة العربية _الإسلامية، ما يعني أن هذه الزمر كانت تتألف من نبي على رأسها ومجموعة من أتباعه ليسوا جميعاً من الأنبياء بالضرورة، ففي سفر الملوك الثاني يطالعنا، هذا النص عن أحد المنتمين لأخوية يترأسها النبي إليشع “وصرخت امرأة من نساء بني الأنبياء قائلة : أن عبدك زوجي قد مات وأنت تعلم أن عبدك زوجي كان يخاف الرب، فأتي المرابي ليأخذ ولدي له عبدين، فقال لها إليشع ماذا اصنع لك؟…” ، والدليل على عدم نبوة هذا الرجل وأنه مجرد شخص عادي ما ورد فى سفر الخروج من قول الرب لموسى فقد جعلتك لفرعون إلهاً وهارون لك نبياً ، إذن كان الأنبياء يحيون فيما يشبه “الأخوية ” ، ولم يكن الأنبياء _حسب التصور الذي تقدمه التوراة _ يحيون حياة الزهد والتقشف بل كانوا يتقاضون أجراً مقابل ما يأدونه من خدمات ، كما كان لهم عائلات و وزوجات وأولاد ، فقد ورد في سفر صموئيل أنه لم يتجرأ شاؤل على طلب المعونة من” رجل الله” صموئيل في البحث عن الأتن الضائعة دون أن يكون لديه ما يدفعه كمقابل لخدمات النبي ، كما أن الناس كانوا يرسلون إليهم _ الأنبياء_ في أيام الأعياد وبزوغ الهلال والسبوت باكورة الحقول والمحاصيل ( مل2 : 4: 23).

أما فيما يخص الشرائح الاجتماعية التي كان ينتمي إليها أعضاء تلك الزمر أو الأخويات فكانوا ينتمون في الأغلب الأعم إلى عامة الشعب.

  • رابعاً : تقسيماتهم

في عهد الملوك طرأ تغير كبير على وضع الأنبياء ، فقد كانوا في العهد السابق_ عهد القضاة _ أنبياء الشعب ، بيد أننا في زمن داوود الملك نرصد ظهور نوعية جديدة من الأنبياء أعني ” أنبياء البلاط” كانوا مستشارين وبصارين للملك ومشاركين في كل الدسائس والمكائد والإنقلابات التي كان البلاط الملكي ساحة ومسرحاً لها وهكذا تظهر شخصية كشخصية “النبي جاد” الذي كان يسدي النصائح لداوود منذ أن كان يختبيء عن عيون الملك شاؤل في أراضي ملك موآب ، وكذلك نجد شخصية كشخصية ” النبي ناثان” الذي كان مربياً لسليمان الملك ، والذي أخبر الملكة بتشبع والدة سليمان بأن الإبن الثاني لداوود ” أدونيا” يزمع القيام بانقلاب ليكون على رأس السلطة ، فتمكنت بما لها من تأثير أن تقنع الملك داوود سريعاً ، بمسح سليمان ملكاً ، وهناك ” النبي أخيا” من معبد شيلوه الذي كان ضالعًا في مؤامرة تزعهما يربعام أحد المقربين من الملك في نهاية عهد سليمان والتي أسفرت عن إنقسام مملكة سليمان المحدودة ، إلى مملكتين.
وكما أنقسم الأنبياء إلى أنبياء للشعب و أنبياء للبلاط في عهد الملوك ، إنقسموا كذلك بعد إنقسام المملكة على نفسها إلى أنبياء كُتَّاب ” كتبة” وأنبياء في الأسر البابلي وأنبياء ما بعد الأسر البابلي

  • خامساً : النظرة إلى الأنبياء

كان الناس من عامة الشعب ينظرون إلى النبي أو إلى زمر الأنبياء الذي يتعاملون معه بشكل يومي نظرة توقير بصفته ” رجل الله” الذي يجد ما سُرق أو يمارس التطبيب أو يستشرف لهم المستقبل.

لكن لم تكن تلك هي نظرة المجتمع الوحيدة إزاء الأنبياء وزمرهم ففى وقت إهتياجهم _الأنبياء_ وبسبب الموسيقى كانوا يلطمون الخدود ويضربون الصدور ، وينزعون ثيابهم عن أجسادهم أمام الجموع كانت هذه المشاهد تستدعي فى نفوس الناس نوعاً من الازدراء الممزوج بالسخرية ، فسكان “جبعة” مثلاً وهم جيران شاؤل حين رأوه يتنبأ مع الأنبياء راحوا يتساءلون بدهشة : ” أشاؤل أيضاً بين الأنبياء؟! …. ومن هو أبوهم”..

فجرت مجرى المثل على إستنكار شيء ما ، فكيف لشخص من عائلة محترمة كشاؤل بن قيس أن يكون عضواً فى مجتمع رديء كمجتمع الأنبياء ، وكان البعض يرميهم بالجنون والكذب وهو ماورد في حق واحد من بني الأنبياء من اتباع النبي إليشع يدعي ياهو ” لماذا جاء هذا المجنون إليك” ( 2مل 11:9 ).

والأن يبق السؤال هل صدقت جميع النبؤات التي تنبأ بها أنبياء التوراة؟
هذا سؤال ندع الإجابة عليه لللاحق من المقالات.

والله أعلم.

يتبع….

 

وائل سالم

وائل جمال سالم: شاعر و باحث وكاتب مصري، حاصل على الإجازة في الحقوق من جامعة القاهرة، متخصص في النقد الأدبي. مُهتم بالتاريخ والفلسفة وفلسفة ما بعد الحداثة، خاصة الفلسفات الهامشية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى