ميمونة الهذليّة شاعرة عربيّة من مالطا
ميمونة بنت حسّان بن علي الهذلي السوسي، نعم هي شاعرة عربيّة مالطيّة بامتياز، ومدفونة في تراب جزيرة هودج المالطيّة يوم الخميس في 21 آذار/ مارس من العام 1173 ميلاديّة، ويقال إنّها من أوائل شاعرات وشعراء العرب والمُسلمين الذين رموا بذور الثيوصوفيّة الروحيّة الحكميّة التي عرفت انفجارها الكبير ومداها الأوسع في مطلع القرن الخامس عشر، مع أنّ جذورها تعود إلى العصر اليونانيّ الهلنستيّ مع أمونيوس ساكس مؤسِّس الأفلاطونيّة الحديثة ومُوجِّه أفلاطونين أحد أعلامها الكِبار.
وتفيد الثيوصوفيّة أنّ معرفة الحقّ والإيمان المطلق به، إنّما يتمّان في البدء عن طريق معرفة الذّات والإلهام الذاتي العميق، فتسمو إذّ ذاك الروح الإنسانيّة في ضوء احترام عقلها لها. غير أنّنا يجب أن نُحاذر تصنيف الشاعرة ميمونة في عداد شعراء المتصوّفة، كما تقول المُستعرِبة الإيطاليّة فرنشيسكا ماريا كوراو.
أمّا شاهد قبر ميمونة الهذليّة، وهو من الرخام الرومانيّ الخالص، فظلّ يَحفظ بنصاعته وقوّة مادّته ما حُفِرَ عليه من شِعْرٍ دراميّ جنائزيّ بالخطّ العربيّ الكوفيّ إلى يومنا هذا، حيث نُقل بعد اكتشافه في قرية “الشوكيّة” المالطيّة إلى منزل البارون دي بيرو، صاحب الأرض التي تمّ فيها الاكتشاف، والذي أودعه بدَوره المكتبة الوطنيّة في العاصمة المالطيّة فاليتا.
إلى أن استقرَّ أخيراً في متحف جزيرة هودج موطنها الأصلي، والذي تضمّه قلعة فيكتوريا في الجزيرة الصغيرة كدلالة تاريخيّة على أثر الوجود العريق للعرب والمُسلمين في مالطا، والذي بدأ منذ العام 869/ 870 ميلاديّة، وظلّ سائداً حتّى العام 1224 حين قضى النورمانيّون على حُكم المُسلمين ونفوذهم في الأرخبيل المالطي الذي لا تتجاوز مساحته الـ 316 كلم2.
نقرأ على الشاهد ما كانت الشاعرة قد أَوصت بتدوينه من شِعرها:
يا مَن رأى القبر قد بليت به
والتّرب غيّر أجفاني ومآقي
في مضجعي ومقامي في البلى عِبَرٌ
وفي نشوري إذا ما جِئت خلّاقي
أنظر بعينَيْك هل في الأرض من باقي
أو دافِع الموت أو للموت من راقي
الموت أخرجني قصراً فيا أسفي
لم تُنجني منه أبوابي وأغلاقي
وصرتُ رهناً لما قدّمت من عمل
محصى عليّ وما خلَّفته باقي
تنتمي ميمونة في جذورها الأولى إلى هُذيل، وهي قبيلة عربيّة نجديّة كبيرة مُنافِسة لقريش، جعلتْ من مكّة المكرّمة مَوطنها الأمّ؛ وكانت لهجة هذيل واحدة من اللّهجات الرئيسة التي نزل بها القرآن الكريم. وعندما أَمَرَ الخليفة عثمان بن عفّان بإعادة جمْع الآيات والسور ونسْخها وتوحيدها من جديد، مُعتمِداً لهجةً واحدة هي لهجة/ لغة قريش، جَعَلَ المُملي من هذيل، والمُدوَّن من ثقيف، نظراً لفصاحة الهذيلي وتضلُّعه من لغة الضادّ وعدم لحنه فيها.
- الهجرة إلى تونس ثمّ مالطا
تمدَّدت قبيلة هذيل في ما بعد، من الجزيرة العربيّة إلى مصر وباقي ساحل الشمال الإفريقي واستوطنت بشكلٍ مكثّف تونس بلغة التقسيمات الجغراسيّة اليوم، وجَعلتْ من مدينة سوسة بؤرة نشاطها الاقتصادي والتجاري في ذلك الزمن، وخصوصاً لجهة إقامة مَركز ضخم لصناعة السفن الحربيّة القديمة (سُمّي بـ “دار الصناعة”)، والتي رَكِبَ بعضها لاحقاً بحّارةٌ عرب أشداء بقيادة القاضي والعسكري القيرواني أسد بن الفرات، فاتحين جزيرة مالطا، ومن بعدها صقلّية، الجزيرة الأكبر في البحر المتوسّط.
وهكذا وَرثت ميمونة عن أجدادها في نجد والشمال الإفريقي، الفصاحةَ وعادةَ قولِ الشعر بتفوّقٍ ملحوظ. ولا غرو، فـ “هذيل أشعر العرب” بحسب حسّان بن ثابت شاعر النبي العربي الكريم. أمّا ابن جنيّ، كبير نحّاة العرب، وصديق المتنبّي، وأوّل شارحي ديوانه، فقال “هذيل أفصح العرب”. واعترف سيبويه من جانبه بأنّه “لولا هذيل لضاعَ أكثر من نصف اللّغة العربيّة”.
غير أنّ شِعْرَ ميمونة الهذليّة ضاعَ جلّه مع الأسف، وكان ينبغي ألّا يضيع، بحسب الناقد د. إحسان عبّاس، الخبير بالشعر الصقلّي والمالطي، بداعي تقدُّم التدوين وقتها، وخصوصاً في زمن الأغالبة المُسلمين الذين استولوا على الأرخبيل المالطي عام 870 م، وأنشأوا دولتهم التي سُمّيت في ما بعد بـ “دولة الأغالبة” تيمّناً بمؤسّسها إبراهيم بن الأغلب، الذي كان والياً على إفريقيا بتكليفٍ من الخليفة العبّاسي الخامس هارون الرشيد ابتداءً من العام 787 م. ثمّ استقلّ بالحُكم في العام 800 م. بعد تراجُع نفوذ الدولة العباسيّة.
- من سوسة إلى مالطا
لا أحد يعرف تاريخ هجرة الشاعرة ميمونة الهذليّة من سوسة إلى مالطا والاستقرار فيها، وإن كان المُستعرب الإيطالي أومبرتو ريتستانو (1913- 1980) يّرجّح أنّها هاجرت في مرحلة هجرة شعراء هذليّين من تونس والجزائر إلى مالطا العربيّة/ الإسلاميّة واستيطانها، ومن هؤلاء الشعراء نذكر: عثمان بن عبد الرّحمن المعروف بابن السوسي الهذلي، وعبد الرّحمن بن رمضان المالطي، وهذيل بن محمّد بن حسن الهودجي المالطي، وحمد ابن إبراهيم بن حسين السوسي..
وذلك بعد مرور أكثر من خمسة عقود من سيطرة العرب والمُسلمين الأغالبة على صقليّة ومالطا، نظراً لمناخ صقليّة الخضراء وخصوبة أرضها الزاخرة بأشهى أنواع الفاكهة المتوسّطيّة.
أمّا مالطا، فعدا طبيعتها الجميلة الأخّاذة، فقد كان يكثر فيها العسل الطبيعي الموصوف، والذي كان يسعى وراءه القوم، وخصوصاً من الشمال الإفريقي لأجل صحّتهم ومُداواة عِللهم، وتحديداً هنا عسل جزيرة هودج، مسقط رأس الشاعرة ميمونة الهذليّة.
ويرى المستعرب أومبرتو ريتستانو، وهو ابن جزيرة صقليّة، الجارة الأقرب إلى مالطا، وصاحب كِتاب “تاريخ الأدب العربي منذ أقدم العصور إلى اليوم” أنّ أشعار ميمونة الهذليّة كانت تُتداوَل شفويّاً، وأنّ بعضها نُسب إلى شعراءٍ هذليّين وغير هذليّين في شمال إفريقيا، وحتّى عوداً من جديد إلى شعراء هذليّين في الجزيرة العربيّة.
ومن هذه الأشعار، تلكم الأبيات التي قالتها ميمونة – على ذمّة المُستعرب ريتستنانو – في زوجها الذي لم تكُن تثق به، مع أنّها كانت تموت حبّاً به وشوقاً إليه:
يا مَن يُلذّذ نفسه بعذابي
ويرى مُقاربتي أشدّ عذاب
مهما يلاقي الصابرون فإنّهم
يؤتون أجرهم بغير حساب
وكنتَ من أهلِ الوفاء وفيت لي
إنّ الوفاء حليّ أولي الألباب
ما زلتُ في استعطاف قلبكَ بالهوى
كالمرتجي مطراً بغير سحاب
ويتحدّث المُستعرب ريتستانو عن أنّ خلطاً جرى ويجري أيضاً بين شعر ميمونة الهذليّة وقصائد شاعرة هذليّة أخرى تدعى “جنوب”، ضاع هي الأخرى معظم شعرها، ولم يتبقّ منه إلّا بضع قصائد ترثي فيها شقيقها عمرو ذي كلب الهذلي.. وتقول في إحداها:
كلّ امرىءٍ بمحالِ الدّهر مكذوبُ
وكلّ مَن غالبَ الأيّامَ مغلوبُ
وكلّ قوم وإن عزوا وإن سلموا
يوماً طريقهم في الشرّ دُعبوبُ
أَبْلِغ هذيلاً وأَبْلِغ مَن يُبلّغها
عنّي حديثاً وبعضُ القول تكذيبُ
بأنّ ذا الكلب عمراً خيرهم حسباً
ببطنِ شريان يعوي حوله الذئب
تمشي النسورُ إليه وهي لاهيةٌ
مشيَ العذارى عليهنّ الجلابيب
ويروي المُستعرب ريتستانو أنّه قرأ في أوّل شبابه مقالاً في إحدى المجلّات الأدبيّة الإيطاليّة القديمة يتناول كاتبه الشعر العربي الصقلّي – المالطي القديم، يَرِدُ فيه اسم الشاعرة ميمونة الهذليّة مع نصٍّ شعريّ قصير لها منقول من اللّغة العربيّة إلى اللّغة الإيطاليّة، وهذه ترجمته عن الإيطاليّة:
“شرِّعوا الأبواب للأنوار الآتية من السماء/ حتّى لا يتهدّم كيانُ الإنسان على حاله في هذه الدنيا/ أو يعيش غربة كاوية لروحه فيها/ أو يمتلىء بالوحشيّة والأنانيّة/ شرِّعوا هذي الأنوار إذاً/ ومجّدوها/ فالوجود كلّه، حياة يلفّها الموت/ أو موت ينهش كلَّ ما في الحياة/ مسكين إذاً هو الإنسان/ منذ البداية وإلى النهاية/ إنّه يسيل في نفسه/ ليجفّ في آخر المطاف/ تماماً مثلما يسيل العطر من الزهرة/ لتصير بعده قشّةً يابسة”.
- شاعرة مجرّحة بالعالَم
مع ميمونة الهذليّة نحن إذاً أمام شاعرة وجوديّة مجرّحة بالعالَم، وبنفسها، وبالمصير الفردي والجماعي للجنس البشري برمّته، وهي تُدرك أن لا خلاص إلّا بالإيمان بالله، واليوم الآخر، وإتباع تعاليم الإسلام، ونهج النبي العربي الكريم الذي أرسله ربّه رحمةً للعالَمين. ومن هنا هي تنفتح كمُسلمة مؤمنة على الأديان السماويّة الأخرى، وترى فيها مُشتركاتٍ واحدة في جوهرها، مُختلفة في شكلها.
وإذا أردنا تصنيفَ الدائرة الفكريّة/ الإيمانيّة لميمونة الهذليّة، بعيداً من حشْرها في خانة الصوفيّين (عملاً بمقولة المُستعرِبة فرنشيسكا كوراو)، فإنّنا نرى أنّها تنتمي إلى فضاء الوجوديّة المؤمنة، والتي من فلاسفتها الكبار: سورين كيركيغارد، وغابرييل مارسيل، وكارل ياسبرز.
وميمونة تشترك معهم، من موقعها كشاعرة فقط، في النّظر إلى الإيمان بالله كفعلٍ جوهريٍّ وأخلاقيٍّ ومعرفيٍّ إبيستمولوجيّ، من شأنه أن يكسر، وبقوّة، سلطة القلق الوجودي للإنسان، ويجعل إيمانه، ليس مجرّد تأمُّلٍ فقط، وإنّما تفكُّر مُستغرق في النَّفْس والعالَم والإنسان وميوله، وعواطفه، وميزان أعماله ومصيره بين يدَيْ خالِقه. ومن هنا فإنّ الإيمان، من وجهة نظرها، لا يتحقّق بالنيابة البتّة، وإنّما هو تجربة ذاتيّة تظلّ تنبعث من داخل الإنسان وصيرورة دَورته الحياتيّة.
خلاصة الأمر، ميمونة الهذليّة شاعرة مؤمِنة في قلبها وعقلها معاً. ومن هنا نراها تدعو إلى مُراجَعة درس الحياة/ الدنيا، والعكوف على نقده من أجل آخرة الإنسان، ودائماً وفقاً لنجوى النَّفس.. نفسها، وقوّة العقل.. عقلها.
هكذا إذن، وإذا ما فكّكنا قصيدة ميمونة الأخيرة المنقولة من الإيطاليّة إلى العربيّة، بالتحليل والتأشير الدلالي، نصل خلالها إلى أفكارٍ ومعانٍ عدّة، نستطيع ربطها بالمعاني التي تضمّها وتضخّها باستمرار أبياتُ قصيدتها المحفورة على شاهد قبرها في متحف هودج.
من جهة أخرى، وإذا ما استعرضنا نِتاج شعراء هذيل، قديماً وحديثاً، نلحظ أنّ معظمه يتناول سؤال الموت أو الفناء، فقد أَقضّ مضاجعهم، وحيَّر عقولهم، وبعثَ الرعبَ في قلوبهم، وشكَّل لهم كابوساً يُلاحقهم في كلّ ساعة، وكلّ دقيقة ولحظة؛ وهُم لا يملكون إزاءه أيّ جواب، اللّهم إلّا جواب الإيمان والتسليم بقضاء الله وقدره.
والإنسان، كما يقول عُلماء الإنسان، هو الكائن الوحيد بين المخلوقات الحيّة الذي يُدرك مُسبّقاً هول حقيقة فنائه إدراكاً يفوق في أبعاده أيّ معضلة أخرى تتحكّم به. وممّا يزيد هذا الأمر تعقيداً على تعقيد، هو أنّ تجربة الموت نفسَها، كانت وستظلُّ تجربةً فرديّةً خالصةً وغيرَ قابلة للتكرار والإنابة.
د. ناديا لانزون: مُستعرِبة وكاتبة من مالطا