النحو العربيّ.. بيْنَ الفِطرة والفِطْنَة
“النَّحوُ إنّما أريدَ بِهِ أن يَنْحُوَ المتَكلّم، إذا تعلَّمَه، كلامَ العربِ. وهو علمٌ استخرَجَهُ المُتقدّمون فيه من استِقراءِ كلام العربِ، حتّى وقفوا منهُ على الغرضِ الذي قصده المُبتدئون بهذه اللّغة…”.
[ابن السَّرَّاج (ت 316 هـ): الأصول في النحو، مؤسّسة الرسالة، 1985 م، مج 1، ص 35].
يهدف هذا المقال إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية:
1. هل تضمَّنت مرحلة “الفِطْرَة” نظاماً نحويّاً يُركَنُ إليه؟
2. يشكو الكثيرون من صعوبة النحو. ما هي أوجه الصعوبة، الأعلى تَواتراً؟
3. ما هو الاقتراح الوظيفيّ في تيسير النحو العربيّ؟
-1-
1-1- مثلّت النصوص الثقافيّة (الشعر، النثر، الأراجيز، الأمثال، الحِداء، التَّلبية…) في العصر الجاهلي، وحتّى نهاية القرن الثاني الهجريّ، مصدراً ثرّاً، يؤسِّس ما يُمكن أن نُطلق عليه: “المُدوَّنة الثقافيّة” أو “المُدوَّنة اللّغويّة” الأولى للنحو العربيّ؛ فهي تتضمّن نَظم الكلام، وطرائق صَوْغ العبارة، وبيان العلائق الدلاليّة في الجملة، وأساليبها؛ إضافة إلى الكمّ الكبير من الألفاظ المفردة، بجذورها واشتقاقاتها.
ثمّ، يجدر القول إنّ الشواهد الموثّقة – بعيداً عن دعوى نظريّة “النَّحل” – التي تمّ تدوينها، لَخَيرُ دليلٍ على مسألتَيْن مُتضافرتَيْن: الأولى، وحدة قواعد تركيب الجملة المنطوقة في لغةِ مَن يُوثق بلغتهم؛ والثانية، وحدة نُطق سياقات الجملة في الشواهد المرويّة، المأخوذة سماعاً من مَصادرها القبليّة، وتدوينها من قِبَلِ عُلماء اللّغة الثّقات.
وفي هذا يقول أبو نصر الفارابي (ت 339هـ) مُحدِّداً هذا المصدر المكاني – اللّغوي: “… وكان الذي تولّى ذلك من أمصارهم أهل الكوفة والبصرة، من أرض العراق؛ فتعلّموا لغتهم، والفصيح منها من سكّان البراري منهم، دون أهل الحضر، ثمّ من سكّان البراري مَنْ كان في أوسط بلادهم، ومِن أشدّهم توحّشاً وجفاءً، وأبعدهم إذعاناً وانقياداً (…)” [الألفاظ والحروف، تح: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط 2، 1990 م، ص 146 – 147].
2-1- فالشواهد، من حيث إنّها ترتكز إلى نظامٍ جمليّ، غنيّ بالتراكيب والسياقات والأساليب، هي المَعين الذي استقى منه عُلماء اللّغة في القرن الثاني الهجري مادّة النحو العربيّ، فأعملوا في هذا الموروث منهجهم العقلي، مُستقرئين كمّاً كبيراً من الجزئيّات، فجعلوا لكُلّ ظاهرة نحويّة علّة عقليّة، ثمّ توسّعوا – أيّما توسّع – في استنباط العِلل بقدر ما استخرجت عقولهم من قوّة البرهان.
لكنّ هذا التوسُّع في التقدير والتأويل، والتفلسُف في مسألة العامل، زادَ جيلاً فجيلاً، ما أدّى في المحصّلة إلى ابتعاد النحو عن وظائفه التعليميّة، وتميُّزه بالجدل الذي أثرى النقاش، لكنّه لم يُثْرِ أصول النحو، وما ينفع الناشئة من هذا العِلم.
3-1- مثال تطبيقي على النحو، في واقعة الفِطريّ، والنحو، في واقعه المُعَلّل: قال عمرو بن قميئة البكريّ (شاعر جاهلي، توفّي سنة 85 ق.هـ 539 م):
كَمْ طَعْنَةٍ لَكَ، غَيْرِ طَائِشَةٍ
ما إِنْ يكونُ لِجُرحِهَا خَلَلُ
في الشاهد، ما بعد (كم) مجرور، لأنّ المعنى المُراد لـ (كم) هو الإخبار عن أمرٍ، يقصده الشاعر. ففطرته قادته إلى نطق (طعنة) مجرورة، لأنّه اكتسب بالسليقة، وبالسّماع أن يفرِّق بين (كم) كما جاءت هنا، و(كم) إذا أراد الاستفهام بها عن أمرٍ ما، فيكون ما بعدها مُختلفاً، فهو يقول: كم طعنةً طعنت عدوّك؟
– نخلص إلى القول، إنّ ما جاء على لسان الشاعر الجاهلي، ما هو إلّا تعبيرٌ عَكَسَ عفو الخاطر، عمّا تنامى في ملكته اللّغويّة، سماعاً من بيئة لا تعرف في (كم) إلّا ما يفيد الإخبار عن أمرٍ ما، أو الاستفهام عن أمرٍ ما، ولكلٍّ منهما جرى اللّسان، على ضبْطٍ حركيّ.
أمّا في النحو المُعلّل، الذي تنامت فصول مسائله، وتفرّعت جرّاء إعمال القياس وفلسفة الإسناد، وتحليل أسباب العلل، وما صاحب ذلك كلّه من اجتهاداتٍ ومُطارحات، فقد بلغت مسألة (كم) بحثاً بذاته، له: (1) تعريفه، و(2) نوعه، و(3) أحكامه، و(4) وجوبه، و(5) جوازه، و(6) نقاط التشابُه بين كم الاستفهاميّة، وكم الخبريّة، و(7) نقاط الاختلاف والتمايُز، و(8) ما لحق بذلك كلّه من اجتهاداتٍ فرعيّة.
وفي حصيلة ذلك جاءت مسألة (كم) في كِتاب “النحو الوافي” في تسع صفحات [النحو الوافي، دار المعارف بمصر، ط 2، 1968، المجلّد 4، ص ص: 528 – 536].
وكانت مسألة (كم) قد استحوذت، عند ابن يعيش (ت 634 هـ) على أربع عشرة صفحة [ابن يعيش: شرح المفصّل للزمخشري، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 1، 1422 هـ – 2001 م، المجلّد 3، ص ص: 168 – 180].
-2-
1-2- في هذا المناخ النحوي المُستجِدّ، يشكو د. طه حسين ما اعترى الدرس النحوي من المُماحكات والتأويلات، فيقول: “إذا أردتَ أنْ تعلّم النحو لهؤلاء التلاميذ المساكين، فكيف يريدونهم على أن يفهموا على أنّ قولك “قُرِىءَ الكتابُ”، فعلٌ مَبنيٌّ للمجهول، والكِتاب: نائب فاعل، لأنّ الفاعل قد حُذفَ بغرضٍ من الأغراض التي تذكر في علم المعاني، وعلم النحو، وأُنيب عنه المفعول به.
فكيف تريد التلميذ (…) الذي لم تتجاوز سنُّه الثانية عشرة أن يفهم هذا الكلام؟ ويضيف مُتسائلاً: “ما هذا الفاعل الذي حُذِف؟ وما هذا المفعول به الذي أُنيبَ عنه؟ ما هذا المجهول الذي بُنيَ له الفعل؟(…)” [ من مقال بعنوان: “يَسّروا النحو والكتابة” – مجلّة الآداب السنة 4، العدد 11، ص 4].
ولا نذهبنّ إلى أنّ الشكوى من صعوبة النحو مقرونة بالعصر الحديث فحسب، وإنّما هي قديمة، أو مقرونة بزمانها مذ ظهر النحو في القرن الثاني الهجري وبعده؛ فها هو خلف الأحمر (ت 180هـ) يشكو من غياب الوظيفيّة في كُتب النحو؛ يقول: “لمّا رأيتُ النحويّين وأصحاب العربيّة أجمعين قد استعملوا التطويل، وكثرة العِلل، وأغفلوا ما يحتاج إليه المتعلّم المتبلّغ في النحو من المُختصر والطُّرق العربيّة، والمَأخذِ الذي يَخفُّ على المبتدىء حِفظُه، ويعملُ في عقله، ويحيط به فهمه، فأمعنت النظر والفكر في كِتابٍ أُؤَلّفه، أَجمعُ فيه الأصول والأدوات والعوامل على أصول المبتدئين ليستغني به المتكلّمُ عن التطويل (…)” [مقدّمة في النحو، تحقيق: عز الدين التنوخي، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1381 هـ 1961 م، ص 33 – 34].
2-2- وتلخّص الوثيقة التي تقَدَّم بها مَجمع اللّغة العربيّة في دمشق، إلى ندوة “تيسير تعليم اللّغة العربيّة” في الجزائر، مجمل قضيّة صعوبة النحو، وضرورة تيسيره، بالقول إنّ: “نحونا العربي وُضعَ لزمانٍ غير زماننا (…). ولكنّ السَّير في مساربه متعذّر إلّا على القلّة القليلة من الناس، ونحن لا نحتاج إلّا الى الشَّطرِ من قواعد ذلك النحو، يأخذ بيدنا في قراءة النصوص (…) تُعين على فهم معناها (…)، ولا داعي لتعليم الطلّاب قواعد لا يكادون يحتاجون إليها (…)، أو تلقينهم ضوابط يهتدون إليها بالسّليقة” [اتّحاد المَجامع اللّغويّة العلميّة العربيّة – ندوة تيسير تعليم اللّغة العربيّة بالجزائر 1976، ص 137].
3-2- وقد يكون من المفيد، أن نقرن الشكوى من صعوبة النحو بأمثلة، ونتائج استطلاع، لبيان القاسم المُشترك بين الباحثين والمتعلّمين: [المثال الأوّل: رأي د. شوقي ضيف في صيغ يطَّرِد بها غيابُ الفاعل: يذهب د. ضيف الى ما رآه الفرّاء في مثل “قام القومُ حاشا زيداً”، من أنّ حاشا فعلٌ لا فاعل له، قال أبو حيّان: ويُمكن القولُ بذلك في : “خلا وعدا”. وبذلك تصبح الأفعال الثلاثة: “حاشا- خلا – عدا” لا فواعل لها، وهو رأيٌ سديد، إذ من الصعب إيجاد فواعل لها.
وهي تدلّ بوضوح على صحّة رأي ابن مضاء في أنّ الفعل إن لم يكُن معه فاعل – ضمير، أو اسم ظاهر – كان دالّاً على فاعله بمادّته، ولا حاجة له إليه، إذ هو مُستغنٍ عنه بصيغته” [شوقي ضيف: تيسيرات لغويّة، دار المعارف، القاهرة، 1990، ص 29 – 30].
[-المثال الثاني: من نتائج استطلاع د. محمّد أحمد السيّد، عن الفاعل:
– بلغ مجموع الخطأ، في التعبير الكتابي، في الصف السادس الابتدائي: 145 خطأ، من مجموع 1234 خطأ، لواحد وثلاثين مبحثاً. أي أنّ نسبة الخطأ في كفاية الفاعل لدى المتعلّمين هي: 23.1 [محمود أحمد السيّد: تطوير مناهج تعليم القواعد النحويّة، المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم- تونس 1408 هـ – 1987 م، ج 2، ص 195].
[-المثال الثالث: من نتائج استطلاع مؤسّسة الفكر العربي، عن الفاعل:
– في سؤال المُستجوِبين عن الصعوبات في دروس النحو، كانت الإجابة عن درس الفاعل، كالآتي: صعوبة 44.6%؛ سهولة 7.7 %؛ لا جواب 47.6% [لننهض بلغتنا: مؤسّسة الفكر العربيّ، ط 1، 1433/ 1434 هـ – 2010 م، ص 462].
-3-
1-3- قد يكون المدخل الرئيسي الى مسألة تعليم العربيّة، ومنها النحو، الاعتراف بتراجُع اهتمام المَعنيّين من سلطة تنفيذيّة، وباحثين، بوظائف اللّغة في إطارها الثقافي – الاجتماعي. يُضاف إلى ذلك تراجُع القيام بالشقّ العملي، ما جَعَلَ الحقلَ اللّغوي، ولاسيّما التعليميّ منه، والثقافيّ العامّ، في تراجُعٍ مُستمِرّ.
وقد أشار الاستطلاع الذي قامت به مؤسّسةُ الفكر العربي الى هشاشة الانطباع الإيجابي الذي يقفه الرأي العامّ من قضيّة اللّغة العربيّة عموماً؛ فنسبة الانطباع الإيجابي لم تتعدَّ 24% مقابل 46% جهروا بعدم الاهتمام (لننهض بلغتنا، ص 67).
2-3- في المقابل قُدّم اقتراح يتمثّل بفكرة تأسيس مجلس بحوث علمي موحّد ينهض بمسؤوليّة تجديد النحو العربي، على مستوى البلدان العربيّة، يعتمد في مخطّطه، الدراسة الميدانيّة، والإفادة من نتائج استطلاع الرأي، ولاسيّما الطلبة والمعلّمين، لوضْعِ خارطة طريق، تُعيد الحيويّةَ والوظيفةَ للمَناهج التعليميّة، ثمّ يستخلص هذا المجلس المُقترَح، ما يراه مناسباً لواقع حياة اللّغة المُعاصرة، فيضع مشروعاً مُتكاملاً، تلتزم به المؤسّسات التربويّة الرسميّة.
والجدير بالذكر، هنا، أنّ هذا الاقتراح لقي قبولاً في استطلاع الرأي بلغ 74.3% (لننهض بلغتنا، ص 70).
3-3- تشكّل الدراسات المعمّقة، الخاصّة بتيسير النحو العربي، مَتناً بحثيّاً، جديراً بالنظر الجادّ، لاستخلاص القواسم المُشترَكة، التي يرتأي مجلس البحوث العِلمي الموحّد، اعتمادها.
ثمّ تخضع ورقة المنهج المُقترَح، في تعليم النحو، في المراحل ما قبل الجامعة إلى التجريب والاختبار، لمدّة 3 – 5 سنوات، ثمّ يُصار إلى التقييم الشامل، لاستخلاص النتائج، بإيجابيّاتها وسلبيّاتها، ورصْد ما يُمكن ترقيته واعتماده، وإهمال ما لم يكُن وظيفيّاً.
ما تقدّم يشكّل رغبةً وتوجّهاً بالتمنّي على “مؤسّسة الفكر العربي” لتُبادر إلى إقامة ندوة عربيّة جامِعة، توظّف ما قامت به في مشروع “لننهض بلغتنا” وتنهض، تالياً، بعبء تيسير النحو العربيّ، التعليميّ.
فعسى أن تتحقّق وحدة منهج النحو في الوطن العربي، وأن يُبصر النحوُ الوظيفي ضوءَ التعلّم النافع، الذي يُسهم – بلا ريب – في ترقية اللّغة العربيّة.
د. رياض قاسم: لغويّ وكاتب من لبنان