الدراسات اللغوية

الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب

 

بلغة مرموقة، أقرب للطبقة العلياH  منها للطبقة الدنيا L، يكتب فادي شاهين (الباحث في اللسانيات الاجتماعية في جامعة السوربون) نصّه (1) “الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب” (ورقة بحثية داخل المجلّد الأول من كتاب “التاريخ الشفوي: مقاربات في المفاهيم والمنهج والخبرات“، الصادر عن المركز العربي)؛ بعُجالة واقتضاب، محاولًا تسليط الضوء -أو بالأحرى تسليط الضوء مجددًا- على بعض الطروحات المتعلقة بالعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية العربية، والتذكير بها، طارحًا سؤالين مركزيين حول كيفية انتقال شعبٍ بثقافته من الشفوية الى الكتابة، وكيفية ممارسة النقد على ما تمّت كتابته، على غرار ما فعل ابن سلام الجمحي في بدايات عصر الكتابة عند العرب، ونَقدِه كُتّاب عصره، لا سيما ابن اسحاق، صاحب السيرة النبوية، والمتوفي عام 151هـ (2)، وعلى غرار ما دعا اليه بعض المؤرخين العرب من بينهم عبد العزيز الدوري، الذين تحدثوا عن ضرورة تقديم دراسات نقدية للمؤرخين أنفسهم وعدم الاعتماد على سمعتهم فقط، وذلك من أجل تطوير الكتابة التاريخية النقدية عند العرب وتنقية التاريخ العربي من الشوائب التي لحقت به في الماضي والحاضر (3).

لعل بدايات الانتقال من الشفوي إلى المكتوب عند العرب حسب شاهين كانت مع قَصص القرآن، التي عهد العرب سماعها

ينطلق شاهين من عبارة “حدّثنا فلان عن فلان” المألوفة على آذان الناطقين بالعربية باعتبارها عبارة مفتاحية قادرة على استحضار سياقاتها المتنوعة التي مرّت على ذهن القارئ، والتي لا تقتصر على المجال الديني فقط المتمثّل بالحديث والسيرة، وإنما أيضا الإرث الثقافي العربي المتمثّل بأعمال كبار من أمثال الجاحظ والأصفهاني، والكتب العلمية ككتب سيبويه والفارابي، وحتى بعض الروايات العربية المعاصرة التي لا تزال تستحضر تلك العبارة وترددها بنفسية واثقة وكأنها تعيش في عصر راويها الأول (4).

يعالج شاهين موضوع الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب في خمسة محاور: أولًا: بدء الكتابة عند العرب والمسلمين، ثانيًا: بدء التدوين التاريخي باللغة العربية والعلاقة بين الكتابي والشفوي، ثالثًا: القرآن والحديث، رابعًا: ماهية اللغة التي كان يسمعها المؤرخون ويكتبون بها، خامسًا: أثر الثقافة الشفوية والازدواجية على الكتابة التاريخية العربية.

  • بدء الكتابة عند العرب والمسلمين

لعل بدايات الانتقال من الشفوي إلى المكتوب عند العرب حسب شاهين كانت مع قَصص القرآن، التي عهد العرب سماعها، وإن كان جوّ العرب قبل الإسلام لم يخلُ من عنصر القصّ والإخبار، وخصوصًا مع ما كان يعرف بعلم الأنساب وأيام العرب. وبذلك يميّز شاهين حسب غريغور شولر (المستشرق السويسري المولود في ألمانيا)، بين القرآن باعتباره الكتاب الأول للإسلام وللأدب العربي، وبين الكتابة نفسها، والتي كانت معروفة قبل ظهور الإسلام بجيل أو جيلين، حيث كانت تُستخدم في المعاهدات والرسائل، وكذلك في العقود التي كانت تُعلّق على جدران الكعبة (المعلّقات).

أما بعد الإسلام، فاستُخدمت الكتابة الى جانب ما سبق من أجل كتابة الديون كما جاء في النصّ القرآني، وكتابة دستور المدينة، المعروف بالـ”كتاب”، والذي يعني “الوثيقة المكتوبة” التي أقامها الله -حسب ابن اسحاق- بين المهاجرين والأنصار. وبالتالي، فالكتابة حسب شاهين كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام، لكن يُشك في نفس الوقت في مسألة انتشارها على نحو واسع، وأنها تعدّت النخب الحضرية والتجارية آنذاك، ولكن مع مجيء الإسلام أصبحت الكتابة أكثر رواجًا، وخصوصًا مع كتابة العهود والعناية بكتابة القرآن والموروث عن الرسول (5).

وبحسب محمد بيومي مهران، فإن العرب كانوا يهتمون بالتأريخ للأحداث الكبرى كعام الفيل، وبناء الكعبة، حتى أن الأحداث الهامة كانت تحفظ في النقوش، أو عن طريق الروايات الشفهية والتي قام على أساسها علم التاريخ عند العرب وذلك بسبب انتشار الأمية قبل الإسلام، ولعل أقدم وثيقة مكتوبة بالعربية كانت نقش النمارة، والتي تسجّل وفاة ملك الحيرة امرئ القيس الأول (288-328 م)، والتي كتبت عام 328 م وبلغة عربية شمالية، وبالخط النبطي، لا باللغة الحميرية أو بحرف المسند (6).

أما بالنسبة لعبد العزيز الدوري، فإن الفترة الجاهلية بالتحديد، لم تترك أدبًا مكتوبًا، بل كانت فترة ثقافية شفوية، وكانت خالية من النظرة التاريخية عمومًا، ولكن بعد ظهور الإسلام، اختلفت تلك النظرة، حيث مثّلت القرون الثلاثة الأولى للهجرة فترة تكوين علم التاريخ عند العرب، وفيها وضعت خطط كتابة التاريخ وأساليبها، متأثرة بعناصر ثقافية أخرى مثل الجغرافيا والفلسفة والفلك (7).

  • بدء التدوين التاريخي باللغة العربية والعلاقة بين الكتابي والشفوي

يفتتح شاهين هذا المحور بعبارة للمؤرخ اللبناني وجيه كوثراني، بأن “الكتابة التاريخية كانت في البدايات جزءًا من أدب السيرة والمغازي” (8)، والتي بدأ بها مجموعة من أبناء الصحابة مثل عروة ابن الزبير (94هـ) وأبان بن عفّان (100هـ) وشخصيات أخرى استشهد بهم فيما بعد بعض المؤرخين كابن اسحاق (151هـ) والواقدي (207هـ) والطبري (310هـ). وكان من الأوائل في هذا المجال، محمد بن شهاب الزهري، والذي يُعتقد بأنه أول من وضع قواعد علم الرواية القائم على الإسناد، والذي اعتمد من خلاله الإخباريون الأوائل على الرواية الشفوية، وكذلك أبو مخنف (74هـ) والهيثم بن عَديّ اللذان يعدان من أوائل من استخدموا صيغ الرواية الشفوية مثل “حدّثني رجل من آل …” (9).

يلفت شاهين النظر الى مقولة أن التدوين كان عملًا سطحيًا وواجبًا زائدًا غير مرغوب فيه خلال القرن الهجري الأول، حتى إن الإشارة إليه كان من شأنها أن تُضعف الثقة بالعمل، وتضعه داخل دائرة الشبهة، وذلك بسبب قوة الرواية الشفوية وأفضليّتها على المدوّنة. حتى إن بعض مؤرخي القرن الخامس الهجري (الخطيب البغدادي على وجه التحديد) كان يقول بعدم أخذ العلم عن الصحفيين، فكُتُبهم معرّضة للتبديل والتغيير والنسخ والإزالة، حيث كان يُفضّل الاعتماد على الرواية الشفوية أولا، ثم الروايات المدوّنة (10).

  • القرآن والحديث

ينطلق شاهين من العام الى الخاص الأكثر حساسية. ويبدأ بالمدّة التي استغرقتها عملية جمع القرآن في هيئته النهائية (الرسم العثماني)، والتي امتدت بين عشرين إلى خمسة وعشرين عامًا بعد وفاة الرسول، حيث أملى الرسول السوَر، وامتلك تلك النماذج عدد من الصحابة بعد وفاته، وبالاعتماد على بعض النسخ المحددة، صارت العودة أيضًا إلى بعض الملاحظات المبنية على دعائم متعددة، إلى جانب النقل الشفوي، وبذلك اتخذ القرآن شكله النهائي. وعلى عكس وجيه قانصوه في كتابه “النص الديني في الإسلام”، يوجز شاهين ويمرّ سريعًا عن مسألة الانتقال من الشفوي إلى المكتوب في القرآن وتنقيح النص القرآني، وينتقل للمصدر الثاني بعد القرآن، والتي يدعو لأن تنتابنا الريبة في شأنه، وخصوصًا فيما يتعلق بالنصوص المنقولة من كلام الرسول وسيرته، والتي أخذت وقتًا طويلًا قبل أن تدوّن، لا سيما أن المناخ العام، وخصوصًا خلال القرنين السابع والثامن، كان يتسم “بالصراع على السلطة والبحث عن مرتكز شرعي لها”.

ويسلّط الضوء على تلك الفترة الحساسة باعتبار الكتابة آنذاك لم تكن معاصرة للحوادث المروية، وإنما كانت موروثًا نُقل من خلال مجالس علمية خاصة بعلماء المسلمين، حيث لم توضع مراجعاتهم النهائية قيد التطبيق إلا بعد قرن الى قرنين تقريبًا (11).

 وجيه كوثراني: “الكتابة التاريخية كانت في البدايات جزءًا من أدب السيرة والمغازي” 

يذكر شاهين مفارقة مهمة حول اختلاف النظرة تجاه مسألة تدوين بعض كلام الرسول، ففي بداية القرن السابع لم يراود الشك أيًا من أصحاب الرسول الذين يعرفون القراءة والكتابة في أن يدوّنوا بعض كلامه، إلا أن الأمر اختلف في القرن الثامن الميلادي، حيث اختلف القائمون على “التراث” في مسألة السماح بالكتابة ومنعها، باعتبار أن القرآن يجب أن يبقى الكتاب الوحيد للإسلام.

إلا أن أدب السيرة في منتصف القرن الثامن، أظهر مؤلفات في مختلف العلوم وخصوصًا العلوم العربية الإسلامية، وكانت تنتمي إلى “طبقة تجميع التراث والسنة الخاضع لتصنيف منهجي مؤسس على المحتوى” (12)، حيث توضّح المصادر (والتي لا يشير إليها شاهين في نصّه وهوامشه) أن بعض الكتّاب والعلماء استحضروا كل شيء من الذاكرة، ولم يكن لديهم “كتاب”، وكذلك الأمر في القرن التاسع الميلادي، ويستشهد على ذلك بمصنّف ابن أبي شيبة الذي يقول فيه: “هذا … ما أعلمه عن ظهر قلب” (13)، لكنه من ناحية أخرى، يشير إلى قول آخر يُفيد بأن بعض هؤلاء العلماء كان لديهم في منازلهم عدد كبير من الكتب.

وفي الشِعر كذلك، يعتقد شاهين بأن الوضع أيضًا كان شبه إشكالي، ويؤكد بأن الشعر العربي القديم، من حيث نظمه وإلقائه ونقله، كان شفويًا، لكنه يشير هنا إلى وجود دراسات عديدة في هذا الشأن، ومن بينها دراسة طه حسين الشهيرة (14).

ويصل شاهين إلى نتيجة -غير جديدة- مفادها، أن العلاقة بين الشفوي والكتابي فيما يتعلق بالتاريخ العربي الإسلامي هي علاقة ذات درجة كبيرة من الخصوصية والحساسية، وأنه من الضروري التفريق بين الكتاب بوصفه كتابًا، وبين الملاحظات التي وُضعت لمساعدة الذاكرة، في مرحلة خاصة معروفة بزخم المعلومات والصراع السياسي والاجتماعي، والإهمال المقصود للتواريخ، وخصوصًا في الكتب الحديثة المتداولة في العالم العربي، والتي يُصنّف شاهين أغلبها في خانة “الغثّ”، من غير أن يشير مرة أخرى إلى أي نموذج من تلك النماذج الغثّة حسب تصوره (15).

  • ومضة على الوضع اللغوي عند العرب قديمًا

ما هي اللغة التي كان يُقال بها الشفوي؟ أو ما اللغة التي كان يسمعها المؤرخون؟ وما اللغة التي كانوا يكتبون بها؟

يؤكد شاهين بناءً على تأكيد الباحثين قبله بأن العربية كانت تختلف في الجزيرة العربية بين رقعة وأخرى. ويستشهد بنتجية وصل إليها المستشرق الهولندي كيس فيرستغ قبله حول الفروقات اللغوية بين القبائل العربية، وبأن لغة القرآن بحد ذاتها كانت تعكس في معظم الأحيان تشابهًا مع اللهجات الشرقية من الجزيرة العربية في الوقت الذي توجد اخلافات كثيرة بين اللهجات الشرقية والغربية.

ويضرب مثالًا غير موفّق على هذا التباين بكلمات تختلف في اللفظ لكنها تحيل إلى نفس المعنى! مثل قول: (قائم: قايم / بئر: بير / لؤلؤ: لولو)، وبمفردات مثل فعل الأمر “ثب” (فعل القفز والجلوس)، والتي وإن كان يختلف معناها بين مكان وآخر، أو تحمل معنيين في نفس الوقت (16) لكنها لو وضعت في سياق جملة عربية “فصحى” لكان من السهل على العربي في شرق الجزيرة العربية أو غربها معرفة أي معنى يقصد المتكلم بها، دون الكثير من العناء، وفي ذلك تكون حجة اختلاف لفظ الكلمات وتعدد معناها غير متماسكة إلى حدّ كبير لو حاولنا بشكل خاص تنزيلها على النص القرآني حسبما انطلق الكاتب، لا سيما إن أخذنا بعين الاعتبار ما يعبّر عنه وجيه قانصوه حول حضور السياق الخارجي داخل النص القرآني، والتداخل والتفاعل والتأثير المتبدال بين النص والواقع الديني والثقافي القائم، بمعنى أن النص القرآني لم يُعرف بتعاليه المطلق ولكن عُرف بحركيّته الذاتية التي يستطيع من خلالها خلق مساحة يمكن تحسسها وتلمّس آثارها في الحاضر الإنساني كما في التاريخ الإنساني (17).

ثم إن لغة القرآن وإن كانت تعكس تشابهًا مع اللهجات الشرقية من الجزيرة العربية أكثر منها مع اللهجات الغربية، إلا أن القرآن نزل “بلسان عربيّ مُبين”، وبلغة تمثّل ذروة البيان اللغوي العربي، حيث نزل إلى العرب باللغة التي يفهمونها وبخطاب يقدرون على استيعابه “على وجه التفصيل أو الإجمال، أو التقريب أو التمثيل” (18).

لكن شاهين يصرّ على أن هذا الاختلاف في اللهجات يحيل الى إشكالية الفهم والتواصل، وخصوصًا في مجتمع كانت يمر بتحولات عميقة ولغة تخضع لضغط عال نابع عن عدة عوامل من بينها نقل اللغة من الشفوية الأقرب للبدوية أو شبه البدوية، إلى الكتابية المتلائمة مع الحضرية، فالمسألة كانت تتعدى برأيه إيجاد الأبجدية نحو إيجاد التوافق في أي عربية تتم الكتابة؟ ليس هذا فقط، فالمسألة حسب شاهين لم تقف عند هذا الحد، ووصلت إلى قواعد اللغة العربية نفسها وتدوينها، والتي تم الاعتماد فيها بشكل كبير على الرواية والنقل الشفوي والسند الشفوي عن البدو (19)، وكأن قواعد اللغة العربية كانت متوفرة في كتب مخطوطة بلهجة مدنية آنذاك وتوانى المدونون عن استخدامها والإشارة إليها!

في بداية القرن السابع لم يراود الشك أيًا من أصحاب الرسول الذين يعرفون القراءة والكتابة في أن يدوّنوا بعض كلامه، إلا أن الأمر اختلف في القرن الثامن الميلادي

أما بالنسبة للّغة المرويّ بها، فيعتقد شاهين بأنها لغة ازدواجية بامتياز ومنذ العصور القديمة، لكن تحديد تاريخ تلك الازدواجية هو أمر صعب شقّ على الباحثين، وثمة شكّ حسب الكثير من الباحثين (من غير أن يشير الكاتب مجددًا إلى أسماء بعض هؤلاء الباحثين) في أن تكون الفصحى هي لغة المجتمع في الحواضر العربية والإسلامية وخصوصًا في العصر الذهبي خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. وثمة من يذهب من هؤلاء الباحثين الى أبعد من ذلك ليقول بأن العربية المروي بها آنذاك كانت من طبقة لغوية مخالفة للطبقة التي يُكتب بها على الأقل حاليًا في العالم العربي، وأن لغة الشعر الجاهلي أيضًا كانت ضمن طبقة لغوية عالية، وإن كانت مشتركة ومفهومة، إلا أنها لم تكن متقنة من قبل الناس العاديين آنذاك، حتى إنها لم تكن لغة أي من القبائل العربية. وبالتالي فالعرب لم تدرك تلك الازدواجية اللغوية، ولم يعطوا للعاميات قيمة كبيرة، بل اعتبروها لحنًا (20).

وننطلق في نقد الكاتب من فكرته نفسها في أن لغة الشعر كانت من طبقة لغوية عالية وإن لم تكن متقنة من قبل الناس العاديين إلا أنها كانت لغة مشتركة ومفهومة، الأمر الذي ينطبق أيضًا على لغة القرآن، فهل يُعقل أن يَفهم الناس العاديون لغة الشعر ولا يفهموا لغة القرآن؟ وخصوصًا أن إشكالية الفروقات اللغوية التي تحدّث عنها الكاتب سابقًا تنطبق على الشعر كما تنطبق على القرآن؟!

  • أثر الثقافة الشفوية والازدواجية على الكتابة التاريخية العربية

من فكرة ازدواجية اللغة ينطلق شاهين لتوضيح ثنائية الطبقة اللغوية الدنيا L والطبقة اللغوية العليا H، والإشكالية التي لم يُسلَّط عليها الضوء بشكل كاف باعتقاده، والمتعلقة بدور اليد العليا للطبقة العليا في تقييد الطبقة الدنيا، وإحالتها إما الى معان أبعد أو أضيق (21).

يرى شاهين أنه ثمة إشكالية مهمة تتعلق بمسألة الازدواجية وتأثيرها في عملية التدوين، عبّر عنها من قبله فيرستيغ حين تحدّث عن هامش المناورة الكبير لدى من يعمل على تحويل الأصوات الى حروف، حيث يستعين أثناء الشرح بكلمات تنتمي للهجة العليا أو الدنيا، فيتساءل مستنكرًا: “لماذا يستخدم مؤرخ عربي في قصة نُقلت بشكل شفوي عبارة من طبقة لغوية أخرى، هل ليكون قريبًا من الموضوع أو ليقول لنا إنه وباعتباره ينقل من الشفوي فهو فعلًا واقعي وأن ما يقوله هو ما ورد بالضبط؟” (22)، ليجيب نفسه بعد برهة بأن المسألة قد تكون ناجمة عن عقدة نقص الشفوي، لافتقاده الى قوة السند، لذلك يضطر للاستنجاد بالازدواجية من أجل تقوية موقفه، ولذلك فإن الازدواجية حسب شاهين تطرح شرحين: الأول، أن يُستخدم الشعر في الرواية الشفوية من أجل تأكيد الحدث وتقوية الرواية وتدعيمها، واللعب على الذهنية العربية التي تطرب للشعر وتقدّسه باعتباره الدليل القاطع، وخصوصًا أن الشعر ينتمي إلى الطبقة العليا H، ذات الاحترام والهيبة التي قد تلعب دورها في مسألة تأكيد الحدث. والثاني، استخدام الرواية الشفوية الطبقة الدنيا L، فهي تضفي على الحدث بعدا صادقًا وواقعيًا (23).

  • خلاصة القول

في ورقته التي تصلح باعتقادي لأن لتكون مقدمة في كتاب يتناول المواضيع التي تنقّل بينها الكاتب بخفّة وبراعة ولكن من غير أن يشبعها شرحًا وتفصيلًا ومعالجة، واكتفى بملامسة سطحها ومسح الغبار بشكل غير كامل عنها، يختم شاهين باستنتاجات مهمة أولها، أن التاريخ الشفوي العربي لا يمكن أن يتجاوز مسألة الازدواجية اللغوية وليس بمعزل عنها، وأن من وجهة نظر اللسانيات الاجتماعية أن الناقل مهما بشّر بأنه سيكتب ما يتم تداوله على الألسنة فلن تكون صدقيته إلا نسبية، فهو لا يعدو عن كونه مترجمًا، له اليد العليا في تلك الترجمة، وخصوصًا إذا ما وضعنا أمامنا واقعة أن الطبقة اللغوية العليا تمارس هيمنتها على الطبقة الدنيا، فلا تسمح بها، وإن سمحت بها فإنها تحيلها إلى معان أضيق أو أبعد. وبالتالي، فالعلاقة بين الشفوية والكتابة هي علاقة تحكمها عدة أبعاد جلّها تقنية، وإذا أردنا الحديث عن البدايات عند العرب والمسلمين فلا بدّ من التفريق بين الكتاب المكتوب للنشر والآخر المعدّ من أجل استخدامه للتذكير عند تكرار سرد الرواية الشفوية.

ويختم بالسؤال الكبير والمعقّد والتفكيكي الذي قد يحيلنا مرة أخرى لنقطة البداية والذي يخلط فيه شاهين بين اللغة واللهجة ويهدم فكرة اللغة العربية الواحدة ولهجاتها المتنوعة ليقول: “أفلا تقتضي الأمانة أن نكتب الشفوي باللغة نفسها التي قيل بها، وإذا كتبناه بها ألا نكون من الزاعمين بأن لدينا لغة واحدة، لكننا نكتب بغيرها ؟” (24).

لغة القرآن وإن كانت تعكس تشابهًا مع اللهجات الشرقية من الجزيرة العربية أكثر منها مع اللهجات الغربية

لكن ثمة أسئلة أخرى مهمة باعتقادنا؛ فهل نستطيع الحكم على كل مؤرخ عربي قام باستخدام طبقة لغوية أخرى أثناء نقلها الى راوية مكتوبة على أنه يحاول عبثًا إضفاء الواقعية عليها والإيحاء بمصداقيتها؟ ولو افترضنا بأنه سمع الرواية بطبقة لغوية لا يجيدها فبأي طبقة لغوية ينقلها؟ وهل المطلوب دائمًا التشكيك بمصداقية الشفوي وأي رواية تاريخية مكتوبة اعتمدت على الرواية الشفوية؟ وهل ثمة حلّ باعتقاد شاهين وغيره من الباحثين يمكنه تخليص الشفوي من عقدة نقصه تلك؟ ولو كان الحل بكتابة الشفوي باللهجة التي قيل بها، أوليس من الضروري أن نحدد عن أي شفوي نتحدّث وعن نوعه ودرجة خصوصيته وعموميته وأهميته؟ أوليس من الضروري أن نميّز بين الرواية أو الموضوع العام المتعلق بـ”أمة” لديها عدة لهجات وتمتلك لهجة مشتركة مجمع عليها تاريخيًا يستطيع الجميع فهمها، وبين موضوع خاص يتعلق بمجموعة تمتلك لغة ولهجة واحدة؟

عبارة عميقة تحضرنا في ختام هذه المراجعة وهي للمؤرخ الفرنسي الحكيم بول فاين يقول فيها أنه “عندما لا نرى أن التاريخ يشتمل على معيار الصدقية، فإننا لم نفقه شيئًا في المعرفة التاريخية وفي العلم عمومًا… وما دمج التاريخ العلمي بالذكريات القومية الذي ينطلق منها إلا خلط لجوهر الشيء ولأصله في آن؛ إنه العَمَهُ الذي لا يميّز بين الكيمياء والخيمياء، وبين الفلك والتنجيم… فمنذ اليوم الأول… تحدّد تاريخ المؤرخين وكأنه ضد الوظيفة الاجتماعية للذكريات التاريخية وطرح نفسه تابعًا لمثال أعلى للحقيقة وملتزمًا مصحلة خالصة الفضول” (25).


  • الهوامش:
  1. فادي شاهين، الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب، في: التاريخ الشفوي: مقاربات في المفاهيم والمنهج والخبرات، مجموعة مؤلفين، المجلد الأول، الطبعة الأولى (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).
  2. المصدر السابق، ص 89-90.
  3. عبد العزيز الدوري، نشأة علم التاريخ عند العرب (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005)، ص 9.
  4. شاهين، ص 89-90.
  5. شاهين، ص 91-93، 95.
  6. محمد بيومي مهران، التاريخ والتأريخ: دراسة في ماهية التاريخ وكتابته ومذاهب تفسيره ومناهج البحث فيه (الاسكندرية: دار المعرفة الجامعة، 1992)، ص 114-116.
  7. الدوري، ص 17، 51.
  8. وجيه كوثراني، الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل: دراسات في البحث والبحث التاريخي (بيروت: دار الطليعة، 2000)، ص 55.
  9. شاهين، ص 94.
  10. المصدر نفسه، ص 93-94.
  11. المصدر نفسه، ص 95.
  12. المصدر نفسه، ص 97
  13. غريغور شولر، الكتابة والنقل في صدر الإسلام، ترجمة فادي شاهين (دمشق:أبولودور، 2011)، ص 5.
  14. شاهين، ص 97.
  15. شاهين، ص 99.
  16. المصدر نفسه، ص 99-101.
  17. وجيه قانصوه، النص الديني في الإسلام: من التفسير الى التلقي (بيروت: دار الفارابي، 2011)، ص 359
  18. محمد محمد أبو ليلة، القرآن الكريم من المنظور الإستشراقي: دراسة نقدية تحليلية (القاهرة: دار النشر للجامعات، 2002)، ص262.
  19. شاهين، ص 99-101
  20. المصدر نفسه، ص 102-103.
  21. شاهين، ص 103.
  22. المصدر نفسه، ص 105.
  23. المصدر نفسه، ص 106.
  24. المصدر نفسه، ص 107.
  25. Paul Veyne, “Histoire” in: Encyclopaedia Universalis, vol. VIII (Paris: Encyclopaedia universalis France, 1968), p. 423 في: جاك لوغوف، التاريخ والذاكرة، ترجمة جمال شحيّد (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 189.

  • المراجع:
  1. شاهين، فادي. الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب. في: التاريخ الشفوي: مقاربات في المفاهيم والمنهج والخبرات. مجموعة مؤلفين. المجلد الأول. الطبعة الأولى. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015.
  2. الدوري، عبد العزيز. نشأة علم التاريخ عند العرب. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005.
  3. مهران، محمد بيومي. التاريخ والتأريخ: دراسة في ماهية التاريخ وكتابته ومذاهب تفسيره ومناهج البحث فيه. الاسكندرية: دار المعرفة الجامعة، 1992.
  4. كوثراني، وجيه. الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل: دراسات في البحث والبحث التاريخي. بيروت: دار الطليعة، 2000.
  5. شولر، غريغور. الكتابة والنقل في صدر الإسلام. ترجمة فادي شاهين. دمشق:أبولودور، 2011.
  6. قانصوه، وجيه. النص الديني في الإسلام: من التفسير الى التلقي. بيروت: دار الفارابي، 2011.
  7. أبو ليلة، محمد. القرآن الكريم من المنظور الإستشراقي: دراسة نقدية تحليلية. القاهرة: دار النشر للجامعات، 2002.
  8. Veyne, Paul. “Histoire” in: Encyclopaedia Universalis, vol. VIII. Paris: Encyclopaedia.

 

سليمان كريمة

سليمان كريمةباحث من لبنان. حاصل على بكالوريوس العلوم المالية والمصرفية من الجامعة اللبنانية الدولية، وماجستير بحثّي في التمويل من جامعة الأناضول في تركيا، ويدرسُ الماجستير الثاني في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في معهد الدوحة للدراسات العليا، تُلامس اهتماماته البحثية: الاقتصاد السياسي للحركات الإسلامية، وما يُسمى بــ”ما بعد الإسلاموية”، تأثير الأحداث السياسية على الأسواق المالية، وقضايا التنمية، والحقوق والحريات الاقتصادية.

سليمان كريمة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى