هذا عنوان كتاب أ.د. سعد بن سيف المضيّاني، نشره النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية، عام 2020م، ولعنوان الكتاب عنوان شارح هو “قراءة في ردود حمزة المزيني على من وصفهم بالثرثارين في قضية تأثر النحو التوليدي بالنحو العربي”، ويبين هذا العنوان الشارح هدف المؤلف بوضوح تامّ، غير أن العنوان الأساسي ربما يفهم منه القارئ تحيّزًا ظاهرًا نحو القول بتأثر تشومسكي بالنحو العربي، وأمر التأثر ممكن كما أن عدمه ممكن، فالأفكار التي تلقاها سيبويه من أساتذته النحويين وحررها وطورها لا تمنع أن يقع لغيره من المتأخرين نحو ما وقع له من غير أن يكون له صلة به.
جعل الكتاب في تمهيد وأربعة مباحث، وجاء في التمهيد إشارة إلى الهجوم الذي شنه الوصفيون على النحو العربي ثم عودة اللسانيين بعد ظهور النحو التوليدي إلى تقدير النحو العربي قدره، بل راح فريق من الباحثين يشيع أن النحو التوليدي هو أثر من آثار النحو العربي.
وأما المبحث الأول فهو عن (تشومسكي ونظريته) يذكر فيه أن والد تشومسكي متخصص بالنحو العبري الذي هو مستفاد من نحو العربية بل كتب في بداياته بلغة عربية، فهذا طريق لمعرفته النحو العربي إلى جانب ما ذكر في الكتاب من درسه كتاب سيبويه.
وأما نظريته فأهم مرتكزاتها الاكتساب اللغوي الذي هو فطرة عند تشومسكى لا محاكاة ودربة ومران كما هي عند السلوكيين، ولو كان الأمر فطريًّا فقط لنطق الطفل الذي عاش في الغابة مع الحيوانات وقلد أصواتها ولنطق الأصم، ومن مرتكزاتها القدرة الإبداعية أي إنشاء جمل لم يسمعها من قبل، ومنها الكفاية والأداء، ومنها الحدس اللغوي ومنها البنية العميقة والبنية السطحية ومنها الكليات اللغوية والقواعد التوليدية والتحويلية.
والمبحث الثاني (أهم مواطن التشابه بين نظرية تشومسكي والنحو العربي وموقف اللسانيين منها) وعد من مواطن التشابه استقلال نظام القواعد وهو استقلال نظام اللغة عن دلالتها. وهنا إشارة إلى قول سيبويه عن استقامة الكلام وإحالته، فجملة (سآتيك أمس) كلام مستقيم محال، ومنها إبداعيّة اللغة أي قدرة المتكلم على إنشاء جمل لم يسمعها من قبل.
وهنا تُذكر أقوال لنحويين مثل ابن مالك مثل “فلو كان الكلام دالًّا بالوضع وجب فيه ذلك، ولم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نسبق إليه”. ومنها الحدس اللغوي وهو اعتماد صحة الكلام على تقبل المجتمع، وقرنه المؤلف باعتماد سيبويه على من (يوثق بعربيته) و(الموثوق بهم)، وأحسب أن الأمرين مختلفان، فالأمر عند تشومسكي أن الكلام صحيح متى قبله المجتمع الذي يستعمله الآن،
أما عند سيبويه فهو ينظر في النصوص التي يعتمد عليها في التقعيد، ولذلك كان اللحن مردودًا وإن شاع استعماله واشتهر أمره فلا يكفي أن يقبل الناس استعمالًا ليكون محل قبول النحوي له. ومنها الأصالة والفرعية (البنية العميقة والبنية السطحية)،
ولعل الأصل والفرع وهو معتمد في النحو العربي يختلف عن (البنية العميقة والبنية السطحية) لأن من الأصل والفرع ما هو مستعمل في البنية السطحية أي التي يستعملها متكلم اللغة مثل المبني للمعلوم والمبني للمجهول فجملة (ضرب زيد عمرا) و(ضُرب عمرٌو) مستعملتان، ولكن يمكن النظر إلى الجمل المقدرة مما ينص عليه أنه للتمثيل ولا يتكلم به،
مثل نيابة المفعول المطلق عن فعله، ونصب المفعول المشتغل عنه، ورافع الاسم بعد إن وإذا الشرطيتين، ورافع أو ناصب النعت المقطوع فكل ذلك يمكن عدّه من البنية السطحية التي تفسرها بنية عميقة. ومنها العامل والتحويل النحوي. وأما مواقف اللسانيين فجاءت مختلفة، فمنهم من أقر بالتشابه؛ ولكنه لم يتوقف عنده مثل مصطفى غلفان،
ومنهم من أيّد تأثر تشومسكي بالنحو العربي منهم: هاينس غروتسفلد، وفولف ديتريش فيشر، وتمام حسان، وكمال أبوديب، وعبدالرحمن الحاج صالح، ومازن الوعر، ونهاد الموسى، وعبدالسلام المسدي، وصلاح الدين الشريف، ومنهم من رفض تأثر تشومسكي بالنحو العربي، منهم: مرتضى جواد باقر، وحافظ إسماعيلي علوي، ولم يجعل المؤلف حمزة المزيني هنا؛
ولكن قال في مطلع المبحث الثالث “لا شك أن الدكتور المزيني ضمن القسم الثالث الذي يرفض فكرة تأثر تشومسكي بالنحو العربي”.
والمبحث الثالث (ردود المزيني على من يرى تأثر تشومسكي بالنحو العربي) وهي ردود وصفها المؤلف بعد عرض وتفصيل بأنها فيها مغالطات ظاهرة وتنافضات صريحة واستطرادات لا تخدم القضية واستدلالات ضعيفة أو غير صحيحة وانتقائية.
وسرد المؤلف أمثلة لما ذكر. ووقفنا المؤلف على المناقشات التي ركز فيها المزيني على تتبع الهفوات فأولها مناقشة مقابلة مازن الوعر لتشومسكي وفيها تكذيب مازن الوعر مرتين الأولى في مقال (كذبة الآجرومية) والآخرة في مقدمة كتاب (البنية المنطقية للنظرية اللسانية) لتشومسكي، والثانية مناقشة عبدالرحمن الحاج صالح، والثالثة مناقشة عبدالسلام المسدي، والرابعة مناقشة فواز عبدالحق التي ذكر المؤلف في ختامها “أن المزيني له كامل الحق في ألا يعتمد على هذه الرواية، وألا يقبل رأي من اعتمد عليها.
ولكن ليس له الحق قطعيًّا في أن يُكذّب كل هذا التكذيب، ويسخر كل هذه السخرية، وليس لديه أي مستند سوى أن تشومسكي أنكر!”، وهذا قول مبين، فليس من الخير التكذيب والسخرية.
والمبحث الرابع (عرض ومناقشة مراسلات تشومسكي). بدأ بعرض مراسلات المزيني وتشومسكي وهي 11 رسالة ثم ناقشها، ثم عرض المؤلف مراسلاته هو نفسه وتشومسكي ثم ناقشها.
وختم المؤلف عمله مبيّنًا أن تأثر عالم بالنحو العربي لا يضيره وعدم تأثره لا يضير النحو العربي. وأنه يجب ألّا يخرجنا موافقة تشومسكي أو مخالفته عن الموضوعية. وأنه بغض الطرف عن التأثر فعمق النحو العربي وغناه اتفق عليه اللسانيون في الغرب والشرق، وأن انحصار هدف الدارسين في إثبات التأثر أو نفيه غير مجد في الدرس اللساني.
وأن مسألة التأثر والتأثير أوسع من المحاكاة الساذجة والنقل المباشر. وأن د.حمزة المزيني لم يقدم ما يقنع القائلين بالتأثر. وأن مشكلته إجلاله للنحويين الغربيين، وأما النحويون بعد سيبويه فلا يراهم نحويين بل رواة نحو.
وأن أستاذنا د.حمزة بن قبلان المزيني قامة علمية نفخر بها في تخصصه اللسانيات وبخاصة الترجمة ومناقشته أو مخالفته لا يمكن أن تمس هذه المكانة.
بقي أن نتوجه للدكتور سعد بن سيف المضيّاني بالشكر لعمله الجليل المتصف بالاستقصاء ودقة التحليل والتوثيق والموضوعية.