إن المتتبع لأعمال تشومسكي، يجد أن النحو التوليدي التحويلي عرف مجموعة من التطورات منذ سنة 1957م، وهو تاريخ ظهور أول كتاب له بعنوان “نماذج تركيبية”[17]، ويلاحظ أيضا أن تشومسكي كان في كل مرة يصدر فيها كتابا، يضيف عناصر جديدة إلى هذا النحو انطلاقا من الانتقادات التي توجه له من طرف تلامذته وغيرهم.
لذا، كانت هذه التطورات التي خضعت لها نظرية تشومكي اللسانية، بمثابة سد للثغرات التي من شأنها أن تقلل من فعالية هذا النحو في دراسة اللغة وتقنينها، ولا سيما أن المطمح الأكبر الذي كانت اللسانيات التوليدية تروم تحقيقه ولا زالت، ينصب بالأساس على صياغة نحو كلي قادر على استيعاب كل القواعد المشتركة بين كافة اللغات البشرية.
وقد لخص نعمان بوقرة[18] مراحل تطور النحو التوليدي في ثلاث مراحل، وهو ما سنأتي على بيانه فيما يلي:
– المرحلة الأولى: تتمثل في أول كتاب صدر عام 1957م،والموسوم ب”البنيات التركيبية”، بوصفه كتابا يؤرخ لأول ظهور للنظرية التوليدية التحويلية. وتعود جل الأفكار التي طرحها تشومسكي في هذا الكتاب إلى أستاذه زيليك هاريس، مع بعض التغييرات التي وسمت هذا النحو بميسم خاص سنأتي على ذكرها لا حقا.
ويعد هذا الكتاب إطارا نظريا أرسى فيه تشومسكي المبادئ العامة للنحو التوليدي، وكان شغله الشاغل في هذه المرحلة، هو التركيز على الأبعاد البنيوية للجمل دون إعارة المعنى أي اهتمام؛ بدعوى أنه يجب الفصل بين النحو والمعنى، “وأصبح الهدف عند تشومسكي هو اكتشاف البنى التركيبية”[19] للجملة التي صارت المدار الرئيس لأبحاثه ودراساته اللسانية.
لذلك صاغ تشومسكي نظريته وفقا لثلاثة قواعد:
القواعد التوليدية: “عبارة عن جهاز يحتوي على أبجدية رموز هي بمثابة معجمه”، وهذه الأبجدية تخول له إمكانية توليد وتأويل عدد من الجمل دون أن يكون قد سمعها من قبل، وفق سلسلة من الاختيارات؛ بحيث إن كل اختيار يفرض قيودا معينة على الاختيار الذي يليه، كأن نختار في بداية الجملة اسم الإشارة (هذا)، فالذي يعقبه ينبغي أن يكون اسما مفردا لا جمعا، فلا نقول: هذا الأولاد*[21]، و إنما نقول: هذا الولد..
وبما أن النحو التوليدي هو نحو صوري يقوم على مبدأ ترييض الوقائع الملموسة، وتحويلها إلى نماذج ورموز، فإننا نلاحظ أن تشومسكي جاء بما يسمى “قواعد إعادة الكتابة”، وهي قواعد تضطلع بوظيفة “إعادة كتابة الجملة بواسطة رمز يشير إلى عنصر معين من عناصر الكلام”[22]. ومثال ذلك:
الجملة ← مركب اسمي+ مركب فعلي.
المركب الإسمي ← تع + اسم…
القواعد التحويلية: تمكننا هذه القواعد من “تحويل الجملة إلى جملة أخرى تتشابه معها في المعنى”[23]، وذلك عن طريق جملة من التحويلات كالحذف والنقل والإضمار والتقديم…
القواعد الصوتية الصرفية: وهذه القواعد تهتم أساسا بتحويل “المورفيمات إلى سلسلة من الفونيمات، وبمعنى إعادة كتابة العناصر كما تنطق”[24].
إذاً، فهذه هي البنية التي حددها تشومسكي للجملة في نموذجه الأول، ونجد أنه ركز على تحديد المكونات الأساس لأي جملة، مع مراعاة الجانب الداخلي للغة المتمثل في جانب القدرة، وبالضبط في القواعد التوليدية التي تقوم بدور التوليد، وتحديد العناصر الأولية للجملة. سنرى إذا، ما هي المستجدات التي جاء بها تشومسكي في النموذج الثاني لتطوير النموذج الأول؟
– المرحلة الثانية: حاول تشومسكي في هذا النموذج الذي نظر له في كتاب”جوانب من نظرية التركيب”[26]عام1965م، استدراك بعض المكونات التي أهملها في النموذج الأول، نتيجة لمختلف الانتقادات التي تلقاها من طرف بعض تلامذته هم: كاتز وفودر وبوستر، وكان من نتائج هذه الانتقادات، أن أعاد النظر في الفصل الذي كان قد أقامه سابقا بين النحو والمعنى، فأضاف المكون الدلالي، واحتفظ بالمكونات التي قعد لها في نموذج 57، فصارت الجملة تخضع لثلاثة مكونات هي: المكون التركيبي والمكون الدلالي والمكون الصواتي.
ولعل من أهم ما طرحه تشومسكي في هذا النموذج-النموذج المعيار- إلى جانب الإقرار بضرورة خضوع الجملة للمكون الدلالي، مجموعة من الثنائيات، والتي تتحدد في:
– ثنائية البنية العميقة والبنية السطحية.
– ثنائية القدرة والإنجاز[27].
فللغة إذا جانبان أساسيان، لا يمكن أن نفهم اللغة إلا بهما هما:” الأداء اللغوي الفعلي ويمثل ما ينطقه الإنسان فعلا أي البنية السطحية للكلام، والكفاءة التحتية وتمثل البنية العميقة للكلام”[28]. علاوة على ذلك، تحدث تشومسكي عن النحو الكلي؛ وهي فكرة استوحاها من نحاة بول رويال Port royal الذين تحدثوا أيضا عن النحو العام.
– المرحلة الثالثة: حاول تشومسكي في هذه المرحلة أن يعيد للتحويلات وظيفتها الجزئية في تحديد دلالة الجملة، بعدما كان قد أقصاها كل من كاتز وفودر، فوسعت النظرية المعيار انطلاقا من هذا التعديل الطفيف على مستوى التحويلات. لذلك، “ربط تشومسكي التمثيل الدلالي بالبنية العميقة والبنية السطحية على السواء، وذلك من خلال:
• قاعدة تفسيرية دلالية أولى للبنية العميقة.
• قاعدة تفسيرية دلالية ثانية للبنية السطحية”.
فهذه هي أهم التطورات التي مر بها النحو التوليدي التحويلي، انطلاقا من النموذج الأول وصولا إلى النموذج الثالث، ولا زالت نظرية تشومسكي اللغوية تخضع لمجموعة من التعديلات كان آخرها البرنامج الأدنوي، في انتظار ما ستأتي به مستقبلا في هذا المجال، وخاصة أن المطمح الأسمى للسانيات بشكل عام، لا زال يواجه عقبات عدة، تحتاج إلى مزيد من الاجتهاد والمعرفة الواسعة باللغة الإنسانية لتجاوزها.
خاتمة:
إذا كان زيليك هاريس؛ أستاذ تشومسكي، قد سار باللسانيات التوزيعية إلى أبعد مستويات تحليلها، فإن تشومسكي حاول أن يحذو حذو أستاذه، ويتبع خطاه في ترسيخ قواعد ثابتة قادرة على تفسير طبيعة اللغة، مع الانفراد ببعض المميزات التي تسم هذا النحو بميسم خاص؛ ولعل أبرزها يكمن أساسا في الجهاز المفاهيمي الذي جاء به، والذي سميت به هذه اللسانيات أيضا، ونقصد – هنا – مصطلحي التوليد والتحويل؛ باعتبارهما المدار الرئيس لهذا الاتجاه من اللسانيات. هذا وبالإضافة إلى مصطلحات أخرى؛ من قبيل القدرة و الإنجاز، والبنية السطحية والبنية العميقة، إلخ…
غير أنه ما ميز هذا النحو عن غيره من الأنحاء، أنه خضع لمجموعة من التطورات والتعديلات؛ كان يضيف فيها تشومسكي كل مرة عناصر جديدة، نتيجة الأصداء والانتقادات التي يتلقاها من تلامذته أو علماء اللغة بصفة عامة، فيستدرك من خلالها النقائص التي عرفها النموذج الذي قبله. وقد لاحظنا هذا في كتاب تشومكسي الثاني الصادر عام 1965م، عندما أضاف المكون الدلالي إلى نظريته بعدما كانت في النموذج الأول(57)، عبارة عن نحو تركيبي صرف لا يعير لجانب الدلالة أي اهتمام.
وهكذا، نكون قد ألممنا ببعض جوانب هذا النحو، وبينا معالم برنامج تشومسكي العلمي، بما في ذلك؛ المبادئ العامة التي يقوم عليها منهجه في تقعيد اللغة وتحليلها، والتطورات الرئيسة التي خضع لها.
فكان لكل هذه الأسباب، نتائج أسفرت عن بروز أنموذج جديد للتفكير في ماهية اللغة الإنسانية، التي تطرح إشكاليات عدة بكيفية مستمرة، تدعو اللغويين إلى إيجاد حلول لها عن طريق البحث، والوصف ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعميمية والأحكام المعيارية.
إعــداد : صارة اضوالي