يوما بعد آخر يثبت الحكم العسكري في مصر فشله في إدارة العديد من الملفات المهمة وعلى رأسها أزمة سد النهضة والتفريط في حقوق مصر وأراضيها وتوريط الجيش في السياسة والنشاط الاقتصادي، لتقفز الذاكرة سريعا إلى تحذيرات محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية بشكلها الحديث الذي طالب بإبعاد العسكر عن الحكم والسياسة فكان مصيره العزل والتشويه وتقييد حريته.
إن قصة نجيب الذي تحل ذكرى وفاته اليوم 28 أغسطس/آب هي قصة حلم مصري في الحرية والديمقراطية انتهى سريعا بعدما وأده العسكر في مهده لتقع مصر في براثن الدكتاتورية العسكرية.
وتحققت مخاوف نجيب التي أوردها في مذكراته ليصبح حكم العسكريين نقطة تحول في تاريخ حكم مصر، لم تستطع بعده أن تعود للحكم المدني الطبيعي.
- المولد والنشأة
ولد محمد نجيب في العاصمة السودانية الخرطوم في 19 فبراير/شباط 1901، بحسب السجلات العسكرية، وكان والده يوسف نجيب ضابطا بالجيش المصري في السودان برتبة بكباشي (مقدم)، وجده لأمه الأميرالاي المصري (عميد) محمد بك عثمان الذي قتل في إحدى معارك الجيش المصري ضد الثورة المهدية.
عاش نجيب الابن في السودان حتى أتم دراسته الثانوية، ليشرع بعدها في تحقيق حلمه والسير على خطى والده وخاله عبد الوهاب عثمان ليعود إلى مصر وينضم إلى المدرسة الحربية عام 1917، ويتخرج منها بعد أشهر قليلة أظهر فيها تفوقا واضحا، ليعود للسودان مجددا ولكن كضابط بالجيش المصري هناك.
وفي عام 1923 انتقل نجيب إلى الحرس الملكي في القاهرة، ولم يستمر طويلا بسبب علاقاته بالمناضلين السودانيين وتأييده لهم، وفي عام 1934 نُقل إلى سلاح حرس الحدود في العريش، وبعد معاهدة 1936 كان ضمن اللجنة التي أشرفت على تنظيم الجيش المصري في الخرطوم.
- تفوق وشجاعة
كان شغوفا بالبحث العلمي والدراسة إلى جانب عمله العسكري، فحصل على شهادة البكالوريا عام 1923 والتحق بكلية الحقوق وفي عام 1927 أصبح أول ضابط في الجيش المصري يحصل على ليسانس الحقوق.
وواصل نجيب تحصيله العلمي ونال دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1929، ودبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص عام 1931، وحصل على شهادة أركان حرب عام 1939، وقبلها أسس مجلة الجيش المصري عام 1937.
اشترك نجيب في حرب فلسطين عام 1948 وأظهر خلالها شجاعة كبيرة حتى أنه أصيب عدة مرات، بينها ثلاث إصابات خطيرة، ليحصل بعدها على “نجمة فؤاد العسكرية الأولى” ورتبة “البكوية”، ويصبح مديرا لمدرسة الضباط بعد انتهاء الحرب.
- الصدام مع القصر
في عام 1950 رُقي محمد نجيب إلى رتبة لواء وكان مرشحا لمنصب وزير الحربية في وزارة نجيب الهلالي لكن شعبية اللواء نجيب وشخصيته المحبوبة لدى الضباط دفعتا القصر الملكي لمعارضة تعيينه وزيرا.
ويتصاعد الصدام بين القصر ونجيب بعد نجاحه في تولي رئاسة مجلس إدارة نادي الضباط في 1 يناير/كانون الثاني 1952 بأغلبية الأصوات رغم إرادة القصر، ما دفع الملك فاروق إلى حل المجلس.
في هذه الأثناء، كان لنجيب دور أهم لا يعلمه الملك ورجاله يقينا وإن كانت تحوم حوله الشكوك، وهو قيادة تنظيم الضباط الأحرار، الذين رأوا في انضمام نجيب إليهم بمثابة “كنز عظيم” كما وصفه عبد الحكيم عامر لجمال عبد الناصر.
لعبت شعبية نجيب وسمعته الطيبة دورا كبيرا في انضمام كثير من ضباط الجيش إلى التنظيم ولاحقا في تأييد الانقلاب العسكري الذي وقع في 23 يوليو/تموز 1952 وأطاح بالملك فاروق وعرف بحركة الجيش المباركة ثم لاحقا باسم ثورة يوليو 1952.
- الجيش يحكم
مع شعبية نجيب الجارفة وتشكيله أول وزارة عقب حركة الجيش، ثم توليه رئاسة الجمهورية بعد إعلانها في 1953 بدأت بوادر الخلاف مع ضباط مجلس قيادة الثورة تطفو على السطح، فبينما كان نجيب يرى ضرورة عودة الجيش إلى ثكناته وإبعاده عن السلطة وعودة الحياة النيابية المدنية، كان للعسكر رأي آخر انتهى بعزل نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية.
في مذكراته الشهيرة “كنت رئيسا لمصر”، يكشف محمد نجيب كيف بدأت الدكتاتورية العسكرية بقيادة جمال عبد الناصر تتغلغل في البلاد وتضرب كل أحلامه وأحلام المصريين في الحرية والحياة السياسية الديمقراطية.
“لقد خرج الجيش من الثكنات وانتشر في كل المصالح والوزارات المدنية فوقعت الكارثة التي لا نزال نعاني منها إلى الآن في مصر، كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون قويا”، وفق تعبير نجيب في مذكراته.
وبدأ الجيش يُحكم سيطرته على الحياة السياسية في مصر، بمساعدة من رجال قانون لم يجدوا حرجا في تكييف القوانين على هوى ضباط المجلس لينتهي الأمر بالبلاد إلى “هاوية اللاقانون”.
وأصبحت السلطة مركزة في أيدي بعض الضباط بزعامة جمال عبد الناصر، والذين كانوا ينفذون قراراتهم رغم معارضة الرئيس محمد نجيب ونفر قليل من أعضاء المجلس، ما دفع نجيب إلى تقديم استقالته في فبراير/شباط 1954.
- الإطاحة بنجيب
قبِل مجلس قيادة الثورة استقالة نجيب، وشرع في تشويه صورته، ولكن خروج مظاهرات شعبية حاشدة، واحتجاج أسلحة من الجيش وعلى رأسها سلاح الفرسان على تنحية نجيب أجبرت المجلس على التراجع وإعادة نجيب إلى السلطة.
ولم تمر سوى أيام قليلة حتى بدأت “أزمة مارس” الشهيرة بعد الإعلان عن قرارات لتنظيم العمل السياسي والتمهيد لحل مجلس الثورة، ثم تراجع المجلس لاحقا عن هذه القرارات، ونظم مظاهرات مدفوعة للهتاف ضد الحرية والديمقراطية، قبل أن يوجه عبد الناصر ضربته الجديدة لنجيب بتنحيته عن رئاسة الوزراء وتقليص صلاحياته كرئيس للجمهورية.
وخلال أشهر قليلة تمكن عبد الناصر من السيطرة على المجلس وتنحية معارضيه ووجه الضربة القاضية لنجيب والديمقراطية معا في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1954، حيث صدر قرار بعزل نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية في قصر زينب الوكيل بحي المرج بالقاهرة، حتى أصدر الرئيس أنور السادات قرارا بإنهاء إقامته الجبرية عام 1971.
- تزوير التاريخ
لم يتوقف تنكيل عبد الناصر بنجيب عند حد عزله ووضعه قيد الإقامة الجبرية ولكنه عمل على إزالة اسمه من كتب التاريخ والوثائق الرسمية والسجلات، ومنع ظهوره في وسائل الإعلام، أو الإشارة إليه بوصفه الرئيس الأول للجمهورية المصرية، ولعل ذلك ما دفع نجيب إلى اختيار عبارة “كنت رئيسا لمصر” عنوانا لمذكراته التي كتبها في محبسه.
يصف نجيب في مذكراته ما آل إليه حال مصر بعد أن استفرد العسكر بالحكم وانتشار المعتقلات والفساد والأزمات قائلا “عرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة، وعرفت ساعتها أي مستنقع ألقينا فيه الشعب المصري، لقد فقد حريته وفقد كرامته وفقد أرضه وتضاعفت متاعبه، المجاري طفحت، المياه شحت، الأزمات اشتعلت، الأخلاق انعدمت، والإنسان ضاع”.
- نهاية الرحلة
توفي الرئيس محمد نجيب في 28 أغسطس/آب 1984، بعد معاناة مع المرض والوحدة، وأقيمت له جنازة عسكرية ليعود اسمه للظهور مجددا ويطلق على بعض المنشآت أشهرها محطة مترو بوسط القاهرة، وآخرها قاعدة عسكرية أسسها الجيش المصري في مدينة الحمّام شمالي البلاد وافتتحت في عام 2017.
ويصبح تاريخ أول رئيس لمصر بعد الملكية شاهدا على دكتاتورية العسكر وبطشهم بمعارضيهم حتى ولو كانوا بالأمس القريب يجلسون على طاولة واحدة، وتظل مقولته الشهيرة “إذا ما خرج الجيش من ثكناته فإنه حتما سيطيح بكل القوى السياسية المدنية، ليصبح هو القوة الوحيدة في البلد” صالحة حتى يومنا هذا.