في الماضي كانت فكرة الإنسان الآلي رمزا مستقبليا بعيد المنال، أما اليوم فأصبح بيننا واقعا حقيقيا نراه بأم أعيننا في جميع مناحي الحياة المعاصرة، لكن لا تستغرب إذا علمت أن هذه الفكرة ضاربة في القدم، وليست حديثة المنشأ كما نعتقد.
ففي ذروة العصر الذهبي للعلوم -الممتد من القرن التاسع وحتى القرن الرابع عشر الميلادي- شرع المهندسون المسلمون في اختراع العديد من الأدوات الهندسية المبهرة مثل الساعات المائية والأجهزة المنزلية.
في هذا الفيلم يصحبنا بروفيسور الفيزياء النظرية جمال خليلي الذي أجرى بحوثا حول العجائب الميكانيكية التي أفرزها هذا العصر، وقارنها بأحدث الاختراعات في مجال الآلات ولتكنولوجيا التي بين أيدينا.
- تكنولوجيا الروبوت.. يد عاملة أخرى في منازلنا
لسنوات طوال ظل العلماء يعدون البشرية بروبوتات تسهل حياتهم اليومية وتعينهم على القيام بالأعمال المنزلية الروتينية، وعلى الرغم من التقدم العلمي في هذا المجال فإن الأمر لا يزال قيد البحث والتجريب.
هنا في أحد المختبرات، يطلعنا البروفيسور جمال على روبوت مجهز للعمل في المطبخ، وقد زود بأذرع محوسبة معدة للقيام بوظائف محددة سيحضر الروبوت وجبة طعام، وقد لاحظ أن حركات يديه بسيطة وانسيابية، وعن طريق تقنية الالتقاط والتسجيل نسخت حركات طاهي بشري يعد طبقا حقيقيا بمقادير محددة، ووفقا لشهادة الطاهي فإن حركات يدي الروبوت أكثر ثباتا من حركة الإنسان لأنه يستطيع ضبط الأمور مجتمعة.
ولكن يجب وضع المقادير في أماكن محددة لأن الروبوت لا يرى، وهذا هو السبب في عدم انتشاره في البيوت لغاية اليوم، لصعوبة الرؤية ثلاثية الأبعاد، ففي بيئة مضاءة بصورة معقدة يحتوي الروبوت على أحدث التكنولوجيا التي توصلت لها يد الإنسان.
كتاب الحيل هو أحد عجائب كتب الهندسة في التاريخ وصف عمل آلات ميكانيكة بالرسومات والشروحات الوافية
- كتاب “الحيل”.. معجزة بني موسى بن شاكر
السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف كانت الحالة في العصر الذهبي للعلوم في العصر العباسي؟
سنجد الإجابة في كتاب “الحيل” لمؤلفيه الثلاثة أحمد ومحمد وحسن أبناء موسى بن شاكر المشهورين بـ”أبناء موسى بن شاكر”، وقد أُلّف الكتاب عام 850 ميلادية، ويتضمن مجموعة عبقرية من الاختراعات والأدوات غريبة الشكل التي تستخدم في تبسيط الحياة وترفيهها.
كان أبناء موسى متنوعي الاتجاهات، فكان الأول فلكيا والثاني رياضيا والثالث مهندسا، وقد شكلوا محور الحياة العلمية في بغداد، فقد رأى الخليفة المأمون نبوغهم وتفوقهم منذ نعومة أظفارهم، لذا ابتعثهم إلى دار الحكمة ببغداد، وقد أصبحوا أوصياء على المترجمين، وبالإضافة لكونهم مترجمين فقد كانت لهم مؤلفات وإسهامات عظيمة ككتاب “الحيل”، وقد أطلق عليه أيضا “الخدع”، أي الأشياء التي يصعب تفسيرها.
يعد كتاب “الحيل” من أهم المؤلفات العلمية في ذلك العصر، وقد استوحى بنو موسى أعمالهم من الإغريق والصينيين والفرس والهنود، لكن اختراعاتهم فاقت كل ما قدم في هذا المجال. توجد نسخة لكتاب “الحيل” في متحف قطر للفن الإسلامي.
آلة الناي العازفة تلقائيا عن طريق حركة الماء أحدى ابتكارات أبناء موسى بن شاكر
- آلة الناي الذاتي العزف.. عندما يتغنى الماء والهواء
تشبه اختراعات بني موسى الألعاب التعليمية، أما الكتاب فمليء برسومات متقنة تظهر الأدوات بشكل واضح، وقد وظفوا عمليات التفكير المبتكرة التي لم تعتمد إلا بعد قرون، مثل أعمدة التدوير واستخدام أشياء كضغط السوائل وضعط الهواء، لتبدو الأدوات كأنها تتحرك ذاتيا، فبدت كالسحر في ذلك الوقت.
لقد أعادوا ما قرأوه عن الإغريق أمثال “أرخميدس”، لكنهم أعادوا صياغته، ولم تكن ترجمتهم لتلك العلوم مجرد ترجمة بل حركة اجتهاد وتدبر وإعادة تقييم، أما الأدوات فهي ليست بغرض التسلية، لكنها دليل على ما كان يجري في ذاك الزمن.
في بريطانيا يعكف المهندس الميكانيكي “جون سكوت” على صناعة أدوات تاريخية، وهو اليوم بصدد إعادة إحياء آلات بني موسى، وخاصة آلة الناي الذاتي العزف.
يقول المهندس “سكوت”: إن الفكرة الأساسية لهذا الناي تكمن في البكرة المحركة التي تشغل الطبلة الدوارة، ويعتقد أنها كانت تحرك بطاقة الماء وسلسلة من أعمدة نقل الحركة التي بدورها ترفع أذرعا قصيرة تقوم بسدّ فتحات النغمات أو فتحها ليمر الهواء، وهي آلة قابلة للبرمجة، وتعتبر أقدم بكثير من صناديق الموسيقى التي عُرفت في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وهناك احتمالان لتحريك العجلة: أحدهما التوليد عن طريق البخار بصورته الأولى، والثاني استخدام نظام الغرف، حيث تملأ إحداهما بالماء ثم تفرغ، وعند ملئها بالماء تنخفض الأخرى فيزاح الهواء المضغوط بفعل الماء هنا، ثم يفرغ باتجاه الغرفة الثانية حتى تمتلئ بالماء، وبعدها يستمر الهواء بالتدفق، وهكذا يتحرك الدولاب.
الحركة الهيدروليكية هي من اختراع المهندس “الجزري” الذي عمل في البلاط الملكي في قصر أرطوكلو في تركيا
- الماء أصل الميكانيكا.. عبقرية الجزري الفذة
لعب الماء دورا مهما في المشاريع الهندسية منذ العصور القديمة، وقد ورث العالم الإسلامي العديد من أساليب الري وتخزين المياه من الإغريق والفراعنة والرومان، وقد وُجد في القسطنطينية خزان مياه عظيم تحت الأرض بناه الرومان في القرن السادس.
اتبع هذا النمط الروماني مهندسو العصر الذهبي، ثم طوروا أساليب جديدة لجمع الماء من المضخات الهيدروليكية المعقدة، ومنها آلة رفع الماء التي طورت على يد مهندس فذ غزير الإنتاج، وهو بديع الزمان أَبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، المعروف اختصارا بـ”الجزري”، وقد ولد في القرن الثاني عشر، وعمل في البلاط الملكي في قصر أرطوكلو في تركيا.
يحوي متحف إسطنبول لتاريخ العلوم والتكنولوجيا في الإسلام نماذج مشغلة لبعض آلات المياه التي طورها الجزري، وأظهرت عبقريته وتفوقه في هذا المجال.
في الدولة الإسلامية بنيت عدة مستودعات لتخزين المياه والسدود كما ظهرت النواعير في قرطبة وأرض فارس وبلاد الشام، وهو نظام ري يجري عبر السواقي، والنواعير عبارة عن آلة دوارة عملاقة لغرف الماء.
رافعة الماء هي إحدى ابتكارات الجزري والتي تقوم على فكرة ضح الماء برافعة هيدروليكية
- مضخة رفع الماء.. إلهام هندسة الآلات الحديثة
نجح الجزري في تطوير مضخات الري المعقدة، وكان مبدأ عمل بعض المضخات يعتمد على رفع مياه الأنهار المتدفقة ببكرة دوارة تتحرك وتحرك بكرات أخرى بالاتجاه المعاكس، وهي تشبه المضخة ثنائية المكبس.
وهناك نموذج آخر يستطيع ضخ المياه للأعلى بارتفاع 11 مترا، وقد دمج الجزري عددا من الميكانيكيات المعقدة، وتعمل تلك المضخات بصمامات مهمتها خلق فراغ جزئي يكون سببا في شفط المياه من النهر الجاري أسفلها، وهي آلة فريدة ومزدوجة الفعل، حيث يأخذ كل جانب منها دورة كاملة، وهذا الضخ المزدوج يجعلها أكثر فاعلية.
تعمل البكرة الدوارة بفعل اندفاع مياه النهر، فتحرك التروس المتصلة بها، ويشفط الماء عن طريق المكابس المتحركة ذهابا وإيابا بفعل دورات التروس.
لقد قام الجزري بتحويل الحركة الدوارة لحركة خطية، وهو أول وصف لعمود التدوير الانزلاقي، وهذا هو المكون الأساسي للآلات الحديثة بما فيها محرك السيارة.
وصف الجزري أعماله بشكل دقيق، وعندما استقر الحكم للعثمانيين جلبوا آلاف الكتب والمخطوطات إلى إسطنبول، ومنها كتاب الجزري الموجود في مكتبة السليمانية بإسطنبول حاليا بعنوان “الكتاب الجامع في العلم والعمل”، ويمتاز الكتاب بوجود رسومات توضيحة ملونة ورائعة للأدوات والأجهزة والتحف التي ابتكرها، وكلما توغلنا في الكتاب يزداد عبقرية وتعقيدا.
على الرغم من تعقيد فرتها، إلا أن ساعة الفيل كانت تعمل بدقة كبيرة لإعطاء الوقت
- ساعة الفيل.. معجزة الزمان التي جمعت بين الحضارات
ابتكر علماء المسلمين في العصر الذهبي -ومنهم الجزري- العديد من الساعات الرائعة ذات الدقة العالية، ويعتمد بعضها في إدارته على الشمع، ومنها أيضا ما ينظم عمله الماء.
البرفيسور “أتيلا بير” هو أحد المتخصصين في دراسة الهندسة للعصر الذهبي، وقد أبحر في دراسة الشروحات الأصلية، ويقوم “أتيلا” بالشرح لنموذج حقيقي لساعة الفيل التي شيدت بناء على الشروحات والصور في كتاب الجزري، واعتبرت هذه الساعة ذروة التطور الميكانيكي في ذاك الزمان،
وقد أظهرت التعددية الثقافية حيث رمز الفيل للثقافة الهندية ورمز التنين للثقافة الصينية، وزينت الساعة بزخارف عربية، فغدت عملا فنيا يجسد الجمال في أبهى حلله.
يوجد في رأس الساعة مؤشر يحدد الساعات منذ بزوغ الفجر، أما الآلات الميكانيكية فهي مخفية في بطن الفيل حيث يوجد صحن يطفو على سطح المياه المخزنة في بطنه، وكل نصف ساعة يتحرك الصحن محدثا عرضا رائعا.
يمتلئ الصحن تدريجيا من خلال فتحة أسفله، ويغوص ساحبا معه مجموعة من الخيوط المارة عبر البكرات الممتدة حتى نهاية الساعة التي تربط الصحن بأنبوب خفي أعلى الفيل، وتجري فيه العديد من الكرات، ومع سحب الخيوط يميل الأنبوب محررا واحدة من الكرات، لتتدحرج وتجعل الطائر يدور دورة كاملة، فيتقدم مؤشر الساعة وتواصل الكرات رحلتها لتسقط من منقار الصقر لفم التنين، فيتحرك للأسفل، فيجعل راكب الفيل يضربه بعصاه.
عباس بن فرناس الأندلسي أول من حاول الطيران في تاريخ البشرية، فكانت تجربته ملهمة للأجيال
- عباس بن فرناس.. ملهم عالم الطيران منذ أكثر من ألف عام
هناك مخترع آخر لا يمكن إغفاله حين نتحدث عن اختراعات الهندسة في العصور الذهبية، وقد ارتبط اسمه بأحد أهم الادعاءات العلمية في العصر الذهبي، ألا وهو عباس بن فرناس الذي ولد في القرن التاسع وعاش في الأندلس.
قام عباس بن فرناس بدراسة الزجاج، وابتكر طريقة جديدة في تصنيع الزجاج الملون، واخترع أول عدسات لتصحيح النظر، وهو الابتكار التي كان مقدمة لنظارات القراءة.
لقد حلم الإنسان قديما قبل الأخوين “رايت” بالطيران والتحليق في السماء، ففي القرن الخامس عشر وضع “ليوناردو دافنشي” رسومات لنموذج طائرة شراعية، ولكن قبله بـ700 سنة حلق عباس بن فرناس بجناحين من الخشب والريش، وقفز من ربوة عالية وتمكن من التحليق لبضع دقائق على أراضي مسطحة في قرطبة.
يقول الطيار “آندي جرين”: ليتني أستطيع تصديق الأمر، كان أمام ابن فرناس مجموعة من التحديات، فقبل ألف سنة لو نظرنا لتكنولوجيا الهياكل الهندسية لصنع الأجنحة والمواد المستخدمة فيها، فسيؤول بنا المطاف إلى صناعة أجنحة ثقيلة،
ويكون لزاما علينا أن نعدو بسرعة كبيرة جدا تمكننا من التحليق بل أسرع بكثير عند الهبوط بنجاح، فقد استغرق الأمر مئات السنين للخروج بهذه التكنولوجيا التي نراها اليوم في الطائرات، وبدون ذيل لن يتمكن من التحليق ولا التحكم بالارتفاع عند الهبوط.
ويتابع الطيار معترفا له بالفضل والإلهام في عالم الطيران: أود تصديق هذا، لكن عباس بن فرناس هو من الرواد في مجال الطيران، وقد رسخ أنه عالم ومخترع، وهو مصدر إلهام لأجيال تلته، وهو جزء من التاريخ الرائع للطيران.
لقد أتحفنا علماء ذلك العصر باختراعات وأعمال هندسية مذهلة واستحقوا بكل جدار أن يكونوا صناع العصر الذهبي وأجناده.
المصدر: الجزيرة الوثائقية