الدراسات الثقافية

النقوشُ العربية الشعرية والنثرية .. خطوط التُّراث في عين الزَّمن

رغم أن أغراض النقوش العربية في سواقي مواضعها، على مدى الفيافي الممتدة، مثل رسوخ الشجر القديم، لم تكن، ولا مرّة، مقتصرة على توثيق النصوص الشعرية والنثرية الأدبية، ولكن ما يتعلق بهذه منها يحمل قيمة ثانية للخلود، إضافة إلى القيمة المتعلقة بتجذّره، هناك، لم تَفُتُّ من عضدِ حروفِهِ السنوات بِقرونِها وألْفياتِها.

في بحثه الموسوم “النقوش الشعرية الصخرية في المملكة العربية السعودية وقيمتها الأدبية”، يخلُص الباحث السعوديّ، عبد الرحمن بن ناصر السعيد، إلى أن النقوش الشعرية التي تناولها في بحثه مكتفية بذاتها، غير مرتبطة باسم صاحبها،

و”يمكن تفسير هذا أن الناقش مَعْنِيٌّ بمعنى البيت لا بقائله”، ولا بتحديد مكان نقشها إلا في حالات قليلة بعينها، وهي قليلة وقصيرة: “قلّة النقوش الشعرية الصخرية وقصرها”، كما يخلص إلى أن معظم النصوص النقوش الصخرية الشعرية التي وقع عليها بحثه المنشور في مجلة “دارة الملك عبد العزيز”، لم ترد في المصادر الأدبية، فهي.

بالتالي، متفردة، ما يعني تفرد السعيد في الوقوع عليها والوصول إلى صخر حروفها. ويعلّل في خاتمة بحثه سبب اقتصار الفترة الزمنية التي حُفِرت فيها النقوش الشعرية بين نهاية القرن الأول، ونهاية القرن الرابع الهجري، رغم انتشار النقوش الأخرى غير الشعرية، ولا النثرية، بل المتعلقة بإخبار، أو توثيق حادثة، أو الاحتفاء بشخصية، مثل النقوش النبطية والثمودية القديمة المنتشرة بكثرة في الجزيرة العربية.

أقول يُحيل ذلك إلى غلبة البداوة على القبائل العربية في المملكة العربية السعودية، عكس العرب البائدة الذين عرفوا الحضارة. وأما سبب عدم عثوره على نقوش بعد نهاية القرن الهجري الرابع فيرجعه السعيد إلى “انعزال الجزيرة العربية مرّة أخرى عن حواضر العالم الإسلامي، ما أدّى إلى تقلّص الكتابة عودًا إلى بيئةِ الجاهلية”.


  • المنهج التاريخي في النقد

في سياق متصل، يُعدُّ المنهج التاريخي من أقدم المناهج التي أوْلت اهتمامها بدراسة الأدب منذ ولادته وتطوّره عبر الزمن، وفي كل مراحل نموّه، حيث يعمل الناقد الأدبي المعتمِد على هذا المنهج على تحديد العلاقة بين الأديب والمجتمع المحيط به، ومناقشة كل الأفكار والآراء التي تناولت العمل الأدبي.

وأهم ميزات المنهج التاريخي في النقد الأدبي تأكيد صحة الأعمال الأدبية وصحة أصحابها المنسوبة إليهم، فهو حصيلة العلاقة القائمة بين التحليل ووسائل البحث والتدقيق، وذلك لما يطلبه الموضوع، مع إمكانية الاستعانة بعلوم مساعدة بهدف الوصول إلى المعرفة.

طه حسين من أوائل النقاد والأدباء العرب الذين أولوا المنهج التاريخي للنقد الأدبي اهتمامهم وعنايتهم

 

والمعروف أن عميد الأدب العربي طه حسين (1889 ـ 1973) من أوائل النقاد والأدباء العرب الذين أولوا المنهج التاريخي للنقد الأدبي اهتمامهم وعنايتهم، ولكن عوائق كثيرة وقفت في وجه تطويره لنظرية عربية حول هذا الموضوع، منها محاولته مزاوجة منهج غربي، هو نتاج ثقافة مختلفة، مع منهج عربي، بهدف الوصول إلى منهج حديث من دون التخلّي عن القواعد العربية الأساسية، إلا أنه، وبدل أن يحقق تقدمًا في ذلك، خاض صراعًا طويلًا لم يوصله إلى شيء.

كما أن اعتماده، من أجل الوصول إلى نتائج، على المنهج الديكارتي القائم على الشك، جعل كتابته ذات طابع تاريخي أكثر من نقدي، وذلك بسبب عدم مراعاة الخصوصية في المادة الأدبية التي تختلف عن الحوادث والوقائع التاريخية.

والحقيقة أن تطرّقنا لموضوع المنهج التاريخي في النقد الأدبي مردّه أن كثيرًا من النقّاد الذين ينتهجونه يضعون النقوش في قائمة مراجع هذا المنهج النقديّ، ويرون في المكتوب في النقوش، الشعرية والنثرية على وجه الخصوص، مادة للقراءة والنقد، ومعاينة علاقة التاريخ بالنص الخاضع لمباضع نقدهم وأدوات تشريحهم.

في كتابه “تاريخ التأريخ: اتجاهات، مدارس، مناهج”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يعاين الباحث والأكاديميّ اللبنانيّ، وجيه كوثراني، فكرة المعرفة التاريخيّة في ضوء طرائق التّفكير العلميّ، وفي إشكاليّة وصف التّاريخ بـِ”العلم”. في الكتاب، إلى ذلك، رصدٌ تأريخيّ لفكرة التّاريخ والكتابة التاريخيّة عند العرب، وكيف تطوّرت منذ طريقة الإسناد في رواية الحديث ونقل الخبر في السِّير والتّراجم والمغازي، إلى اعتماد مناهج البحث الأكاديميّة الحديثة.

يقول كوثراني في كتابه: “أمرٌ لافتٌ للنّظر في مصادر التدوين التاريخي عند العرب، يطرحه المستشرق فرانز روزنتال (1914 ـ 2003)، هو مدى استفادة المؤرّخين العرب من استخدام الوثائق والآثار والنقوش والنقود في عملية التأريخ” (صفحة 92)، متسائلًا، في سياق متّصل: هل استُخدمت الوثائق والنقوش والنقود كمصدرٍ تاريخيّ؟ وهو السؤال الذي يفرد، للإجابة عنه، مساحة ضافية من مساحات الفصل الرابع لِكتابه الذي يُعد بمحتواه وضفاف بحثه: جديدًا ومتكاملًا وهو يجول في المدارس التاريخيّة الغربيّة، كالمدرسة الوثائقيّة والمنهجيّة التي انبثقت من المدرسة الوضعانيّة، والمدرسة الماركسيّة، ومدرسة الحوليّات الفرنسيّة.

كوثراني يقر، ونحن لا نزال نتحدث عن تاريخ النقوش الشعرية والنثرية، التي أخَذَنا البحث في عوالمها إلى تاريخانية النقد، أن الفضل في استخدام النصوص غير المكتوبة (الرسوم والنقوش والآثار العامة)، كطريقة في البحث التاريخي، يعود “إلى المدارس الحديثة في كتابة التاريخ، وبخاصة بعد فك رموز بعض الكتابات القديمة، وبعد تطوّر العلوم الإنسانية التي تسمح بفكّ الرموز، وتفسير الدلالات في الرسوم والمنحوتات والأساطير” (ص92).

مع ذلك، وجد كوثراني في كتب التاريخ العربي الوسيط “إشارات تراوح بين ترجمة بعض النقوش (في حال معرفة لغة النقش مباشرةً، أو عن طريق مترجم)، وبين التعبير عنها بصورة غامضةٍ وتخيليّةٍ وعدّها طلسمًا أو دعاءً، كما هي حال الرواية المنسوبة إلى وهب بن منبّه، أنّه قرأ “الكتابات الإغريقيّة في جامع دمشق، وفسّرها على أنها أدعية منذ زمن سليمان” (ص93).

من الطبيعي، كما يرى روزنتال، ويورد كوثراني، أن “يقف المسلمون مكتوفي الأيدي أمام النقوش الهيروغليفية والمسمارية”، لعدم معرفتهم، آنذاك، كيف يمكن فك هذه الرموز. كما أنهم لم يكونوا يفهمون النقوش العربية الجنوبية (بعد زوال مملكة اليمن). وحتى النقوش العبرية “لم تكن تُفسّر تفسيرًا صحيحًا” (ص93).

أمّا النقوش الشمالية فهي، بحسب كوثراني، “مما نجد عند المؤرخين العرب، ولا سيّما (مؤرخي البلدان)، استخدامًا لها”. ثم يقول: “يرى روزنتال أن الأزرقي الذي ألّف في تاريخ مكّة، وعاش في القرن الخامس عشر الميلادي، استخدم مصادر تاريخيّة تتمثّل بنقوشٍ على المرمر والخشب والحجارة أيضًا” (ص93).

لعل هذا ما يفسّر استغراقَ معظم باحثي النقوش في اللقى والحجارة الصفوية (الشمالية) منها، وما يفسّر، إلى ذلك، تركيز الباحث السعودي في البحث المشار إليه أعلاه، على نقوش شعرية حُفِرت بعد ظهور الدعوة، وقبل تداخل لغات أخرى مع اللغة العربية المتداولة بين قبائل نجد والحجاز، المنكفئين أيامها على جزيرة رملهم الممتدّة كأنها السّراب.

عمومًا، لا ينفصل التاريخ، كما هو شأن العلوم الإنسانية جميعها، عن محيطه ومؤثراته، وباقي أدوات البحث المتخصصة في الفلسفة والعلوم التطبيقية. وفي اللحظة التي قرّر فيها ناقشٌ تجميدَ بيتٍ شعريٍّ، أو حكايةٍ نثريةٍ فوق صخرة من صخور الزمان البعيد، فهو، إنما، ترك لنا ما سينشغل فيه الباحثون من مختلف التخصصات؛ ليس أوّلهم نقاد الأدب، ولا آخرهم علماء الآثار.


  • نقوشٌ شِعرية

    يتناول الباحث السعودي عبد الرحمن بن ناصر السعيد في بحثه “النقوش الشعرية الصخرية في المملكة العربية السعودية وقيمتها الأدبية”، المشار إليه أعلاه، الهادف إلى كشف خصائص هذه النقوش وقيمتها الأدبية، والمعتمد في جمع النقوش الشعرية الصخرية على المصادر الآثارية، مثل مجلة “أطلال”، و”موسوعة آثار المملكة العربية السعودية”، وكتب المتخصصين في الآثار، مثل كتب الدكتور ناصر الحارثي، والدكتور سعد الراشد، وغيرهما، عشرة نقوش شعرية تتضمن أربعة عشر بيتًا؛ هي:
    1 ـ أفنى الجديدَ تقلّبُ الشمسِ * وطلوعُها من حيثُ لا تُمْسي
    وطلوعُها بيضاءَ صافيةً *    وغروبُها صفراءَ كالوَرْسِ.
    أمّا ناقشه فهو: أبو جعفر بن حسن الهاشمي.
    2 ـ مَنْ يَسْأَلِ النّاسَ يحرموه * وسائلُ اللهِ لا يخيبُ.
    وناقشه مجهول.
    3 ـ قسمتُ الهوى نصفين بيني وبينَها * لها نصفُه هذا لهذا وذا ليا.
    وناقشه أيضًا مجهول.
    4 ـ النقش الرابع، وهو من بيتيْن:
    قضاةٌ لهذا السَدِّ بالفَلْجِ كُلِّه * على كلِّ وادٍ ما جِنَانٌ مِن الأَرْضِ
    رأيتُ الغواني لا يَزَلْنَ يَزُرْنَهُ *  وكلُّ فتًى سَمْحٍ سَجِيَّتُه غَضِّ.
    الناقش: بشير بن مسلم بن بشير.
    5 ـ لعمركَ إنني لأحبُّ سَلْعًا * لرؤيتها ومَن أكنافَ سَلْعِ.
    الناقش: يعقوب بن عطاء بن ربيعة.
    6 ـ أدركتُ ناسًا مضوا كانوا لنا سكنًا * وسوف يلحق بالماضي الذين بقوا.
    النّاقش: عبد الله بن محمد.
    7 ـ  صلى مليكُ الناسِ ربُّ محمدٍ * والصالحينَ على النبي محمدِ.
    النّاقش أيضًا: عبد الله بن محمد.
    8 ـ يَا هاجرَ دَارِهِ لا يطيل الله غيبته* إن الحبيب إذاما غيب مذكور.
    ناقشه مجهول.
    9 ـ من بيتيْن:
    غفر الله ذو المعارج والعرْ* ش لداود ذنبه ما كانا
    وجزى الله كل من قال آميـ * ـن من الناس كلهم غفرانا.
    الناقش: داود (مستفاد من الشطر الثاني في البيت الأول).
    10 ـ من بيتيْن:
    بادر زمانك قبلَ وقتِ رحيلِه * واعملْ ليومكَ يا أخا الإسرافِ
    فكأنّ يومَك قد أتاكَ بغصَّةٍ * فأزالَ عنكَ لذيذَ عَيْشٍ صَافِ.
    النّاقش: محمد بن يعقوب.

السعيد لا يترك، خلال تناوله نقوشه العشرة تلك، لا شاردة ولا واردة تتعلق بها إلا ويتناولها، ومنها تاريخها؛ وفي هذا السياق يورد الروايات جميعها، ويوثق المراجع، وموقع نقشها، وفي هذا السياق يورد الروايات جميعها، ويوثق المراجع؛ والتعريف بمن نقشها، وتفعيلة الشعر فيها، وبحوره وسلامته، ودائمًا يستند إلى مراجع، ويضع الاحتمالات جميعها بين يديّ القارئ، وقيمة النقش التي يترك من أجل التقرير بها علماء آثار يقررون الأمر حولها، فإذا بعلوم إنسانية وتطبيقية كثيرة تبحر معنا لتجعل النقش معلومًا لنا من زواياه جميعها.


  • نقوش نثرية


قليلة هي النقوش النثرية التي تحمل قيمة أدبية، وكما أسلفنا فإن كثيرًا منها تحمل قيمة إخبارية، أو توثيقية، أو تعبّر عن حنق صاحبها بأحد ما، أو فخر بأحد ما، أو فضحه لمعلومة ما.

في مناطق الحرّة الأردنية/ المنطقة الشمالية الشرقية من محافظة المفرق، اكتُشفت قبل عاميْن آلاف النقوش العربية الإسلامية الموجودة فوق صخرها منذ القرن الأول الهجري وحتى بداية القرن الخامس عشر الهجري/ العشرين الميلادي، بعضها يحمل، بحسب العلماء الذين اكتشفوها، ومختلف ما جرى تداوله من أخبار وقت الإعلان عنها، دلالات دينية متنوعة: قرآنية وأحاديث نبوية شريفة. وبعضها يحمل مضامين أدبية شعرية، وحكمًا وأمثالًا عربية متنوّعة.

بعضها وردت فيها أسماء أشهر مقدسة، مثل  الأشهر الحرم الأربعة، وكذلك شهر رمضان المبارك.
من هذه النقوش، ما يقول: “كُتب على مدمن الخمر وعاقّ والديه والزاني ألّا يتوب”، وما يقول: “الله خير معين”.

ويبقى نقش ديرعلا (800 عام قبل الميلاد)، الذي أشرنا إليه في مادة سابقة عن النقوش و”هسيسها”، من أكثر النقوش النثرية تجليات حروف، وبوح نبوءة حول العلاقة الجدلية القائمة على الخوف مرّة، والتنعّم في أخرى، يروي أدق تفاصيل اللحظة.. النأمة القائمة، ويعكس، بحسب الباحث والأكاديميّ الأردنيّ د. سلطان المعاني: “ظلامية النظرة، ووحشية المآل، في سرديةٍ تستحق النظر والدرس في أول نص أدبي أردني يعود إلى قرابة ثلاثة آلاف سنة.

فإذا كان نقش ميشع مسلة تأريخية تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، فإن نقش دير علا رؤيا أحادية الحكاية، مسرودة بنفس القص الأسطوري الشرقي القديم في أوغاريت وبلاد ما بين النهرين وبعض مقاطع النقوش الكنعانية”. (المعاني/ من أدب الشرق القديم في الأردن، جريدة الدستور، 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2009).

المعاني يخلص إلى القول إن “نص عرّاف الآلهة المؤابي بلعام بن بعور، رغم ما انتابه من تلف، ورغم ما اعتور بعض المفردات والجمل من غموض، يبقى: نصًّا أدبيًّا مثيولوجيًّا يستحق التناول والتوظيف في نصوصنا الإبداعية بعثًا لنصٍّ أدبيٍّ أردنيٍّ قديم” (المصدر السابق).

يمرّ النص مرّتين على الخفاش (الوطواط) بوصفه كائنًا بشعًا يتطفّل على نبيذ البلاد، فما أشبه اليوم بالبارحة: “ترتشف الوطاويط خمرا؟ أيرتوي الخفاش من الشراب المخمّر.. وحوش البرية سمعت.. استحالت شياطين نفثت كل احتراقها فوق المدينة.. فانزلي يا بروق وراوغي الأرض باشتعال الحرائق”. (لبنسكي/ الغول/ نقش ديرعلا).

فماذا يمكن أن يكتب إنسان هذه الأيام فوق “وجع البراري وحزن السناسل لو ذابت الحواسيب، واحترقت الأجهزة الذكية، وجفّ الحبر، وتلاشى الورق، وثارت الغابات، واستعصى الصخر، ونسيت البردى أن تعود؟”.
البعر يدل، بحسب الأعراب، على البعير، والأثر على المسير.

السيرورة لا تتوقف، والأسئلة كذلك. جعل العرب في سالف العصر والأوان من الصخر دفاتر لأنّات خوفهم من المجهول. خلّدوا الشعر ولم يخلّدوا الشاعر. قالوا في نقوشهم ما قد يصعب الجهر به في سوق عكاظ، أو عند تدافعِ الأضداد.


ضفة ثالثة

محمد جميل خضر

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى