جدل الفلسفة النسوية والدراسات الثقافية بين الوردي والغذامي
أغلب القراءات التي قُدمت ولا زالت تُقدم من قبل علماء الاجتماع خاصة والمثقفين عامة، لم تتحرر وتتحوّل من دائرة سلطة الأفكار الحرفية إلى دائرة التأويل الفلسفية. ربما يعود ذلك إلى أن علوم القراءة والتأويل للغة السوسيولوجيا/وسوسيولوجيا اللغة لم يتم استحداثهما بعد في خطابنا الاجتماعي والثقافي، الأمر الذي أدّى إلى استمرار منطق الاجترار والتكرار لطروحات الوردي بطرق إنشائية مبسّطة ومجرّدة من أبعادها الثقافية واللسانية،
وهذا ما جعل من طروحات الوردي حول المرأة والفلسفة النسوية تبدو تقليدية جدا، في حين أنها تقع على العكس من ذلك، حيث كانت تمثّل في بنيتها حركة راديكالية ونقدية ضد الموقف والسلوك البطريركي (anti-patriarchal attitude) الذي تحول إلى سوسيولوجيا معتادة ومسيطرة وسائدة في كافة المؤسسات الاجتماعية والعلمية آنذاك.
وعليه لا يمكننا الفصل بين موقف الوردي من نقد النزعة البطريركية في جينالوجيا/وأنتيكا الثقافة العراقية؛ وبين نقد الاستبدادية/والسلطوية (anti-authoritarianism) في مناهج ونظريات العلوم الاجتماعية، خاصة المناهج الإمبريقية/التجريدية والوضعية التي طالما عملت على إنتاج/وإعادة إنتاج أجيال ثقافية توتولوجية بالضرورة.
من هنا يمكننا أن نعتبر قضية المرأة واحدة من أهم الإشكالات السوسيو-نسوية في أدبيات الوردي الاجتماعية، فدعوة الوردي لم تختصر على تحرير المرأة من سيطرة القيم البالية فحسب، بل إنه في الواقع كان يدعو إلى «تفكيك جينالوجيا المتخيل الأنتيكي العثماني القديم»؛ قبل تفكيك الوجود الإيتيقي والتواصلي القيمي التقليدي المسيطر على ذهنية ولغة حياة المرأة، فالمتخيل السردي الأنتيكي القديم عمل على مأسسة معظم أنظمة اللغة والعلامات التي تتحكم في إنتاج/وإعادة إنتاج الوجود الإيتيقي/القيمي للمرأة، حتى أصبح يمثل نظام الأنظمة القبلي الذي يكون شرط شروط الحياة الإيتيقية للمرأة.
فهل الوجود الأنتيكي الرمزي/اللغوي سابق على الوجود الإيتيقي القيمي والأخلاقي في حياة المرأة خاصة والإنسان عامة عند الوردي؟ وهل كانت دعوة الوردي تشير إلى أسبقية الوجود الإيتيقي السيمانتيكي الذي يشكّل المعنى والفعل الإنساني؛ على الوجود الإيتيقي التداولي والتواصلي القيمي في بنية القيم التقليدية النسوية؟ وهل مثّل الوجود الأنتيكي عند الوردي نظاما من الشيفرات الأخلاقية، يُستبطن في بنية لغة الحياة النسوية الميتافورية؟
- الوردي/الغذامي: جدل إبيستمولوجيا الفحولة وتاريخ الأفكار النسوي
قد لا نبالغ في القول إن جينالوجيا فلسفة العلوم الاجتماعية والإنسانية في أدبيات العلامة الوردي الاجتماعية والثقافية، كانت تمثل في واقع الأمر مواجهة عنيفة ضد ما يعرف بـسيطرة برادايم إبيستمولوجيا الفحولة النخبوية/والطبقية المتحكمة بإنتاج سياسات اللغة/وهندسة نظام العلامات وتشكيلها في سياقات المجتمع التراتبية.
وبهذا يكون الوردي قد عمل على تأسيس ممارسة فلسفية تتثمل في تدشينه لحقل نقد الأيديولوجيا/وأيديولوجيا النقد (Criticism of ideology) الذي يعمل على تقويض منطق وسلطة إبيستمولوجيا الفحولة الطبقية الكلية/والمطلقة المسيطرة والمهيمنة على صيرورة وحركة الأفكار في البنية الاجتماعية السائدة.
إذ كان مفهوم نقد الأيديولوجيا مفهوما مزدوجا، فهو من ناحية يمثل نقدا لمناهج ونظريات العلوم الاجتماعية والأكاديمية الوضعية من جهة؛ ويبشّر بولادة ما يعرف بتاريخ الأفكار (history of ideas) في المنطق والفلسفة والعلوم الاجتماعية، فمن خلال هذا التاريخ تخطى الوردي المفاهيم الأفلاطونية في الحقيقة الواحدة والكلية ذات الصلاحية والمعيارية (Validity) الأبدية.
وقد انعكس ذلك على رؤيته للفلسفة النسوية عامة وخطاب الأنوثة خاصة، فلم يعتمد الوردي على نظريات ومبادئ وضعية وصفية في تحليل واقع المرأة اليومي، بل على العكس من ذلك سعى الوردي إلى ربط الخطاب النسوي بتاريخ الأفكار السياسي/والثقافي/والطبقي الذي يشكل هوية وكينونة جسد المرأة ويعمل على إعادة انتاجها أيديولوجيا وسياسيا بطريقة مستمرة وثابتة بثبات المنطق الأكاديمي الوضعي الذي يمثل الإطار الرسمي لاستمرار صناعة وهم الأنوثة في الثقافة العربية.
مشروع الغذامي يهدف إلى إعادة اكتشاف تاريخية الوجود النسوي في أدبيات الثقافة العربية من خلال رصد تحولات المرأة من مرحلة تمثلها بوصفها موضوعاً لغوياً محدداً ضمن فضاء النص المكتوب
وعندما نحاول عقد مقاربة بين طريقة التعاطي مع إشكالية المرأة لكل من: العلّامة الراحل علي الوردي والمفكر الدكتور عبدالله الغذامي.
سنلاحظ كيف أنها ستعكس لنا طبيعة الصراع الدائر بين التناول الأكاديمي الوضعي/الرسمي اللاتاريخي عند الغذامي؛ والتحليل الثقافي التاريخي عند الوردي. فعلى الرغم من اهتمام الغذامي بنقد وتحليل إشكالية العلاقة بين المرأة واللغة، إلا أن ما يؤخذ على هذا النقد أنه لم يتعرض إلى تفكيك أيديولوجيا المنطق الخفيّ المتحكّم في استمرار إبيستمولوجيا الفحولة المسيطرة على خطاب الأنوثة سواء في الجزء الأول من كتابه (المرأة واللغة) الذي اشتغل على المرأة بوصفها منتجة وكاتبة للنص الإبداعي/والأدبي؛ أو في الجزء الثاني من كتابه .
(ثقافة الوهم مقاربات حول المرأة والجسد واللغة) الذي تناول فيه ثيمة المرأة بوصفها موضوعا للنص التراثي/اللغوي/الصوفي. بل إن في هذين النصين يتضح كيف أن معالجة الغذامي لم ترتقِ إلى مستوى التحليل المنهجي وإعادة صياغة/وتأويل النظرية النسوية وبما ينسجم وتحولات النظرية الأدبية والدراسات الثقافية واللسانية المتخصص فيها.
بل على العكس من ذلك سنرى بوضوح كيف سيطرت «إبيستمولوجيا الفحولة الوضعية» التي طالما حاول الغذامي نقدها وتفكيكها في مؤلفاته سابقة الذكر، ذلك لأنه لم يعمل على تشكيل مقاربات نقدية مبتكرة بين كل من: النقد النسوي؛ والنقد الأكاديمي؛ ونقد منطق المناهج والنظريات الأصولية السائدة والمعتمدة في قراءة وتحليل بنية الوجود النسوي في الواقع الثقافي السائد.
وهذا ما جعل من مفهوم «نقد الأيديولوجيا» غائبا ومغيبا في مؤلفاته سابقة الذكر لاعتماده على منطق الوصف والتوصيف وليس النقد والتفكيك، في حين أن هذا يمثل روح وجوهر مشروعه في النقد الثقافي.
لهذا، غَلُبت اللغة الوصفية/الوضعية على معظم مؤلفات الغذامي، لا سيما فيما يتعلق بعلاقة المرأة بكل من: اللغة والوجود والتاريخ. هذه العلاقة التي سيطرت عليها «إبيستمولوجيا الكتابة الفحولية الوضعية»، بمعنى آخر، إن الغذامي اعتمد على سياسة هذه الكتابة في نقده وتفكيكه لواقع المرأة، ولم يعمد إلى نقد سلطة المنطق المسؤولة عن تغييب الأنوثة في التاريخ
. وذلك لأنه وكما يرى أن «كل الذي حدث هو غياب الأنوثة التام عن التاريخ لأنها غابت عن اللغة وعن كتابة الثقافة، وتفرّدت الفحولة باللغة فجاء الزمن مكتوبا ومسجّلا بالقلم المذكر واللفظ الفحل. وظلت الحال على هذا المنوال حتى جاء زمن امتلكت فيه المرأة يد الكتابة، وكتبت..
فهل تراها تملك القدرة على تأنيث اللغة أو أنسنتها لتكون للجنسين معا، أم أن اللغة قد بلغت منها الفحولة مبلغا لا سبيل إلى مدافعته؟ وهذا العمل ليس بحثا في أدب المرأة وليس دراسة فنية جمالية، ولكنه بحث وسؤال عن المنعطفات والتمفصلات الجوهرية في علاقة المرأة مع اللغة وتحوّلها من (موضوع) لغوي إلى (ذات) فاعلة، تعرف كيف تفصح عن نفسها، وكيف تدير سياق اللغة من (فحولة) متحكّمة إلى خطاب بياني يجد فيه الضمير المؤنث فضاء للتحرك والتساوق مع التعبير ووجوه الإفصاح» (د. عبدالله الغذامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، ط 3، 2006، ص 11).
يتضح من النص أعلاه كيف أن اللغة الوصفية قد أحكمت بقبضتها على ناصية مجمل مفاهيمه، فلم يخبرنا الغذامي عن كيفية تحول المرأة من «موضوع لغوي» إلى «ذات فاعلة»؟ ولم يفكك الحلقة المنطقية المفقودة بين جدل الموضوع/الذات/الفعل؟ وكيف يمكن أن تتحوّل المرأة من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة دون البحث في جينالوجيا الذاكرة الاجتماعية والمؤسساتية المتحكّمة في صيرورة إنتاج كتل نسوية لاتاريخية؟ وكيف أمكن للغذامي الفصل بين الأبعاد الإستيطيقية واللغوية والثقافية الضرورية لإعادة اكتشاف بلاغة القول النسوي المكبوت والمسكوت عنه في متخيل الثقافة العربية؟
وإذا كان مشروع الغذامي يهدف إلى إعادة اكتشاف تاريخية الوجود النسوي في أدبيات الثقافة العربية من خلال رصد تحولات المرأة من مرحلة تمثلها بوصفها موضوعاً لغوياً محدداً ضمن فضاء النص المكتوب؛ إلى مرحلة تصيّرها إلى ذات فاعلة ضمن الفضاء التاريخي. فلماذا لم يعمد الغذامي إذن، إلى تحليل ونقد «فلسفة اللسانيات الشكلانية/الوضعية» ومن ثمّة الانتقال إلى تأويل مفهوم الذات النسوية الفاعلة من خلال مفاهيم الشعرية ومناهجها الثقافية والأسلوبية والبلاغية والسردية، بهدف التحرّر من النزعة الحتمية المسيطرة على لسانيات الفعل أحادية التوجه؟
بعبارة أخرى، إن تعاطي الغذامي مع مفهوم المرأة كـ»موضوع لغوي» أدى إلى تثبيت أنموذج متعالٍ للمرأة وتحديدها ضمن فلسفة لغة وضعية/ولسانيات شكلانية؛ وإلى تجريد مفهوم act من وظيفته في الإنجاز/والفعل ليغدو مجرد قانون/ومعيار (normative) قارّ وثابت ومحصور ضمن حدود عمل اللغة وتمفصلها مع الجانب المعجمي أو القاموسي (lexical) والنحوي (grammatical) والسنتاكسي (syntactical). وهذا ما سيجعل بطبيعة الحال، من شكل اللسانيات المسيطر والسائد على طروحات الغذامي هو (linguistic act)، أي اللسانيات التي تتمركز حول التحليل الشكلاني والنظري للتاريخ والثقافة.
لهذا فإن قضية الانتقال بالمرأة من مجرّد كونها «موضوع لغوي وضعي» إلى كونها «ذات فاعلة متكلمة» لا يمكن له أن يتحقق دون تفكيك بنية تاريخ المنطق التي سيطرت على فلسفة اللغة واللسانيات. وبالتالي شكّلت/ووجّهت مسار فلسفة التاريخ المحدد بأطر وغايات وضعية وقطعية تتجاوز المتخيل البلاغي والثقافي لأنطولوجيا الوجود الإنساني في التاريخ.
ولاستعادة هذا المتخيل كان ينبغي على الغذامي أن يحقق قطيعة إبيستمولوجية ومنهجية ونظرية لاكتشاف المرأة الفاعلة، وهذه القطيعة تتمثل في شعرية الفعل التاريخي المتخيل (poetic act) -للتوسع حول مجمل المفاهيم المذكورة أعلاه (ينظر:Hayden White،Metahistory،The historical imagination in nineteenth century Europe،pp.3o-31)-.
وكما يبدو واضحا، أن قضية تحوّل المرأة من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة، هي قضية إشكالية قبل كل شيء، ولا يمكن لنا التعامل معها بواسطة أسلوبيات الـ»كن فيكون» حيث يحصل هذا التحول بمعزل عن السياقات الأيديولوجية والرمزية القارة والثابتة والمؤكدة والمكررة على مدار التاريخ.
ربما كان من باب أولى أن يتمّ حصر هذه الإشكالية ضمن فضاء أسلوبياتها الثقافية (cultural styles) بهدف رصد وتشخيص مجمل الأشكال الهرمية والتراتبية التي تمثل في مجملها عمل التاريخ الشكلاني الذي يعكس نماذج مثالية ومطلقة تتمثّلها المرأة قبل أن تتحول إلى ذات فاعلة.
لهذا لا يكفي ربط حركة تحول المرأة وانتقالها من «موضوع لغوي مكتوب» إلى «ذات فاعلة متكلّمة» بسلطة النص الرسمي المكتوب، وتجاوز بلاغتها الفولكلورية ومنظومة الآراء القيمية والأخلاقية التي تُهيكل ذهنية وكيان المرأة وتشكل أحكامها عن طبيعة وجودها في العالم.
وهنا يتوجب علينا تفعيل منطق البحث والتحري (inquiry) في بنية ونظام الطوبولوجيا الأسلوبية (stylistic topology) ليتسنّى لنا إعادة فهم وتأويل إشكالية تحول المرأة من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة ذلك لأن هذه الذات لا يمكن لها أن تكتشف وجودها في فضاء النص الرسمي/العقلاني المكتوب فقط، بل لا بد أيضا من التركيز على المرأة المتكلّمة المتجسّدة في التاريخ والوجود الواقعي في العالم.
فهي هنا تنتج نصوصا اجتماعية وثقافية لامتناهية في مملكة فضاء الرأي الثقافي العام (public opinion) بمعزل عن شروط النص الإبداعي الشكلانية. واللافت أن الغذامي عندما حاول إعادة قراءة خرائط الجسد النسوي المتمفصلة بين ثنايا الخطاب الديني، لم يتجاوز تمركزه المنهجي حول سلطة التراث من جهة؛ وسلطة اللاهوت المثالي (theological idealism) الرسمي من جهة أخرى، والذي طالما عكس «هيمنة أيديولوجيا دولة البرهان والعقلنة المطلقة» التي تصادر كل لغة لا تجيد التكلم بلغة البرهنة والسستمة المنطقية الدقيقة.
كما يبدو واضحا، أن قضية تحوّل المرأة من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة، هي قضية إشكالية قبل كل شيء، ولا يمكن لنا التعامل معها بواسطة أسلوبيات الـ»كن فيكون»
فليس من الغريب إذن أن يتم تغييب لغة الأديان الفولكلورية/الشفاهية (oral folkloric religions) التي تخترق لغة أديان الفحولة الطبقية المسيطرة في كل عصر. إذن كيف يمكن للمرأة أن تقهر أيديولوجيا الفحولة وهي لا زالت خاضعة تحت سلطة فحولة اللاهوت المثالي/الرسمي، بمعنى آخر، إن مفهوم التحول الذي طرحه الغذامي لم يشكل أيّ قطيعة للانتقال بالمرأة من سيطرة الجماعات الرسمية -الفحولة التي تتعامل مع المرأة بوصفها موضوعا لغويا- إلى جماعات الفضائل والشعائر (ritual groups) -حيث تتحول المرأة إلى ذات فاعلة ومنفعلة باللغة الرمزية الميتافورية ليست البرهانية والعقلانية-.
ربما لأن الغذامي لم يكن معنيا بتفكيك بنية الوجود النسوي بقدر اهتمامه باستمرار استقرار البنية stable structure خاصة البنية التقليدية الشكلية (formal structures). ولهذا السبب لم تحفل حفرياته عن جينالوجيا المرأة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بأدنى اهتمام بالأطر الذهنية والمفاهيمية التي يشكّلها الوجود الأنتيكي/الأثري القديم (antiquarian) المتحول إلى أشكال سردية وشفاهية تشكل صيرورة الخطاب في التاريخ.
وهذا ما أدى إلى سيطرة النزعة الإمبريقية والوضعية في معالجة قضايا المرأة والتراث، في منهجية الغذامي خاصة وبعض المفكرين العرب عامة، حيث يتم فصل النص text عن مجمل أبعاده الثقافية والاجتماعية والسوسيو- ثقافية واللسانية والتي تؤثر جميعها على عملية تكوين وتشكيل النص، وإلى أن يكون السبب كما رأينا سابقا في عدم توجيه الغذامي أيّ اهتمام نحو إعادة النظر بعلاقة اللغة والكلام النسوي بسلطة الطراز البدائي (archetypes) المتمثل بالأشكال الشعائرية والميثية والاعتقادية الراسخة في لغة وبلاغة الوجود اليومي للمرأة.
فكيف أمكن لمختص في فلسفة النقد الثقافي والدراسات الثقافية أن يتخطّى مجمل تلك الأشكال السردية والشعرية التي تأسّست عليها مناهج الدراسات الثقافية في الفلسفة الغربية والدراسات الأدبية والنقدية والنصيّة والأسلوبية وما شابه؟ وكيف أمكن تجريد هذه الدراسات من وظيفتها في الإنجاز/والفعل act وتحديد مواقع اشتغالها ضمن أيديولوجيا النظرية/ والأيديولوجيا، لتتحول في خطابنا الثقافي العربي إلى مجموعة من الأسس والمبادئ المنطقية الوضعية والإمبريقية الشكلانية والمنغلقة على مجموعة من الحقائق والمعايير المطلقة ذات الصلاحية الأبدية، في حين أنها تأسست في الفكر الغربي على فكرة تقويض ميتافيزيقا المنطق في تاريخ الفلسفة والثقافة الغربية؟
ولماذا نجد أن هناك ثمّة تعددا في استعمال مناهج العلوم الإنسانية عند دراسة أيّ ظاهرة ثقافية عامة في الفكر الغربي، في حين أننا نجد حالة من الضيق والانحسار في التعدد المنهجي وفي نقد النظرية المتعالية والفقر في إنتاج المفاهيم والعوز الأبدي في إبداع القراءة والتأويل؟
في مقابل ذلك، سعى العلّامة الوردي ومن خلال تفكيك سلطة المنطق الأفلاطو-أرسطي في تاريخ العلوم الاجتماعية والثقافية التي تحوّلت بفضل هذا المنطق إلى علوم وضعية إستاتيكية راكدة وقارة في أيديولوجيا القوانين الكلية والإمبريقية العامة، إلى إعادة نقد اللغة وتقويض المنطق في سبيل تجاوز تاريخ الحتمية اللسانية والسوسيولوجية المسؤولة عن استمرار سياسة لسانية وأسلوبية واحدية في تاريخ الثقافة عامة وتاريخ المرأة خاصة، والتي لطالما عملت على تهميش ومصادرة الكلام الرمزي (figures of speech) للكائن النسوي.
وهذا ما يجعلنا نعود بصورة مستمرة وضرورية للغاية إلى طروحات العلّامة الوردي. لكن، على الرغم من أهمية هذه الطروحات ومعاصرتها المستمرة لمسلسل الانقلابات الثقافية والتحوّلات السياسية في واقعنا اليوم، إلا أننا نلاحظ حالة من عدم الاهتمام الجدي بأدبيات الوردي الاجتماعية ونظرياته في المنطق والفلسفة والكتابة التاريخية والاجتماعية، وهذا يعود إلى سيطرة إبيستمولوجيا مشاريع الفحولة الوضعية العربية/الإمبريقية ذات الأبعاد الواحدية والتوجهات الأيديولوجية التي لم يندرج ضمن فهرستها الفحولية الميتافيزيقية لتتوجه إليه أنظار المختصين ويجري التعامل معه بوصفه صاحب مشروع ثقافي حاله في ذلك حال المفكرين العرب الآخرين وإن لم يكتب بلغتم ويفكّر بمنطقهم.
فلم يتصف الوردي بخاصية معيارية منغلقة سواء في المنهج أو النقد أو التفكير أو التنظير، بل على العكس من ذلك، كان اول من قوّض سلطة النزعات الوضعية والإمبريقية في الدراسات الاجتماعية والدراسات التاريخية والتراثية في آن واحد، لا سيما في مؤسسات العراق الأكاديمية. ولم يعمد إلى الفصل بين التفاعلية المنهجية/التخصصية(interdisciplinary) والتفاعلية الرمزية والثقافية، لأنه كان يرى أن ذلك سيساهم في تحوّل مناهج العلوم الاجتماعية والفلسفية إلى علوم لتأويل التاريخ الثقافي والاجتماعي للوجود الإنساني.
ولهذا السبب الرئيس جرى إقصاؤه واستبعاده، لأن مثل هذه الطروحات لا تخدم فحول الأكاديمية وتوجهاتها الهيراركية من جهة، وفحول السلطة السياسية من جهة أخرى. وبالفعل تمّت المحاربة من الجانبين، وتم توجيه «ضربة فحولية واحدة» إليه.
فعلى المستوى الأكاديمي والثقافي شهدت أغلب الكتابات والمؤلفات التي كتبت عن طروحات العلّامة حالة من «الجفاف الوضعي» و»التمركز التوتولوجي» على طروحات الوردي الاجتماعية والتعامل معها من داخل العلوم الاجتماعية المنعزِلة عن أيّ تفاعل بين منهجي/وأسلوبي، وهذا أدّى بالضرورة إلى تكريس «أسلوبيات فحولية» وضعية لم تنجح حتى هذه اللحظة في تشكيل ما اصطلحنا عليه بـ»الأسلوبيات الأيكولوجية» التي تعيد تنقية وتأويل مفاهيم ونظريات الوردي من جهة؛
وإلى تقويض النزعات الحرفية والأرثوذكسية التي تحوّلت إلى «معايير ثابتة ومطلقة الصلاحية» لدى أساتذة وعلماء الاجتماع في العراق. وهذا أمر طبيعي في ظل غياب ثقافة تأويل المناهج والتفاعل مع حقول العلوم الإنسانية الأخرى المسيطرة. ويمكننا أن نعتبر موقف الوردي من واقع تحديث وتحويل المرأة في العراق المثال الأقرب إلى مصداقية ما طرحناه أعلاه.
ختاما ألم يُفعّل الوردي منطق الدراسات الثقافية والنقد الثقافي من خلال تقويضه لسلطة المنطق القديم وتأويله لمفاهيم الثقافة والمجتمع والوجود والتاريخ؟ ألم يكن أكثر راديكالية من الغذامي في نقده وتفكيكه «لأيديولوجيا المثالية الدينية الأفلاطونية» التي شكّلت شخصيات مزدوجة ومنشطرة على نفسها بين عالمين: عالم يفترض وجود فضائل منطقية مفارقة ومحايثة في آن؛ وعالم «الوجود الأنتيكي» القديم المتحوّل إلى بنية وأنظمة وشيفرات أخلاقية مستبطنة في شخصيتنا ولاشعورنا وتوجّه مجمل ممارساتنا وسلوكنا؟
ألم يكن الوردي ومن قبله المفكر السعودي عبدالله القصيمي هما الأكثر راديكالية من الغذامي وهشام شرابي الذين مأسسوا قضايا وإشكالات النقد النسوي من خلال لغتهم الفوقية/الوضعية التي تصف وتفترض أكثر ممّا تُفكّك وتُقوّض؟ أليس حريّ بنا أن نعدّ الوردي والقصيمي من المؤسسين الأوائل لفلسفة الدراسات الثقافية؟
** للاطلاع حول تطور واقع وحياة المرأة العراقية، ضمن جغرافية وثقافة محيطها وتاريخها الاجتماعي والثقافي ينظر كتاب علي الوردي «شخصية الفرد العراقي: بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث»، ويمكن القول إن الوردي حاول البحث والتحري في هذا الكتاب على ما اصطلحنا عليه بـ»الاقتصاد الشعبي لبنية الحياة البطريركية للمرأة المتمفصلة مع بنية الحياة الدينية والوعظية/المثالية/الازدواجية.