طاغور الفلسفة: نزعة إسلامية تموج بالموسيقى والشعر
تتمتع الهند بتقاليد ثقافية عريقة وفريدة من نوعها، ولازالت مظاهرها ماثلة للعيان إلى أيامنا هذه، نظرا لتاريخها الحافل، والأدب الهندي، تعود قصته إلى ما قبل 3000 عام. ويشمل الأعمال الكلاسيكية الدينية الهندوسية والبوذية واليانية والسيخية وأدب بلاط ملوك الهند والشعر الشفاهي التقليدي والأغاني والشعر والنثر الحديث الذي يعبر عن الأفكار المعاصرة. وبالرغم من أن كلّ الأجيال المتعاقبة قد أضافت إسهامها الخاص إلى الأدب الهندي، إلا أن النصوص القديمة مازالت ذات نفوذ واضح.
- طاغور والتراث الإنساني
قدم الفيلسوف والشاعر الهندي الحائز على جائزة نوبل في الآداب رابندراناث طاغور للتراث الإنساني أكثر من ألف قصيدة شعرية، وحوالي 25 مسرحية بين طويلة وقصيرة وثماني مجلدات قصصية وثماني روايات، إضافة إلى عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات في الفلسفة والدين والتربية والسياسة والقضايا الاجتماعية، وإلى جانب الأدب اتجهت عبقرية طاغور إلى الرسم، الذي احترفه في سن متأخر نسبيا، حيث أنتج آلاف اللوحات، كما كانت له صولات إبداعية في الموسيقى.
وكان آل طاغور رواد حركة النهضة البنغالية إذ سعوا إلى الربط بين الثقافة الهندية التقليدية والأفكار والمفاهيم الغربية. ولقد أسهم معظم أشقاء طاغور،الذين عرفوا بتفوقهم العلمي والأدبي في إغناء الثقافة والأدب والموسيقى البنغالية بشكل أو بآخر، وإن كان روبندرونات طاغور، هو الذي اكتسب في النهاية شهرة كأديب وإنسان، لكونه الأميز والأكثر غزارة وتنوعا، وإنتاجاً.
- نضج تجربته الشعرية
قرأ طاغور الشعر البنغالي ودرس قصائد كاليداسا، وبدأ ينظم الشعر في الثامنة. وفي السابعة عشر من العمر أرسله والده إلى إنجلترا لاستكمال دراسته في الحقوق، حيث التحق بكلية لندن الجامعية، لكنه مالبث أن انقطع عن الدراسة، بعد أن فتر اهتمامه بها، وعاد إلى كالكوتا دون أن ينال أي شهادة.
ولم ينتظم في أي مدرسة فتلقى معظم تعليمه في البيت على أيدي معلمين خصوصيين، وتحت إشراف مباشر من أسرته، التي كانت تولي التعليم والثقافة أهمية كبرى. واطلع منذ الصغر على العديد من السير ودرس التاريخ والعلوم الحديثة وعلم الفلك واللغة السنسكريتية.
شهدت الثمانينات من القرن التاسع عشر نضج تجربته الشعرية، إذا نشر له عددا من الدواوين الشعرية توّجها في عام 1890 بمجموعته “ماناسي” المثالي، التي شكلت قفزة نوعية، لا في تجربة طاغور فقط وإنما في الشعر البنغالي ككل. في العام 1891انتقل طاغور إلى البنغال الشرقية (بنغلاديش) لإدارة ممتكلكات العائلة، حيث استقر فيها عشر سنوات.
في العام 1901، أسس طاغور مدرسة تجريبية في شانتينكايتان، حيث سعى من خلالها إلى تطبيق نظرياته الجديدة في التربية والتعليم، وذلك عبر مزج التقاليد الهندية العريقة بتلك الغربية الحديثة، واستقر في درسته مبدئيا، التي تحولت في العام 1921 إلى جامعة فيشقا-بهاراتيا أو (الجامعة الهندية للتعليم العالمي).
- الأمل والإيمان والثقة بمستقبل أفضل
لقد أصبح طاغور كما يقول عنه غاندي بحق، منارة الهند، ولعله أن يكون منارة الشرق كله، منارةً تبذل نور المحبة وتعيد إلى الإنسان المشرّد في متاهات المادية والالحاد، إلى الإنسان المضيّع الذي افترست الحروب والطغيان، أحلامه الحلوة وأمنه واستقراره، تعيد إليه الأمل والإيمان والسلام والثقة بمستقبل أفضل.
وقام برحلات عديدة في أوربا والشرق الأقصى والاتحاد السوفييتي واميركا وافريقيا، ينثر أنّى مضى بذور المحبة والطيبة والأمل، وظل دائب الظعن والرحيل، حتى بعد أن تقدمت به السن. كانت عيناه الظامئتان إلى النظر والمعرفة معلقتين بآفاق العالم كله، وكان يقابل حيثما حل بترحاب شعبي حار.
ولم يتوان وهو يرى إلى الاستعمار البغيض يعيث في وطنه فساداً وعسفاً، عن مقاومته بشعره ومقالاته وخطبه فلم يقتصر شعره على تلك الخيوط اللطيفة الناعمة التي ألف أن يغزلها في معاني المحبة، بل كان يتعالى حراً صريحاً مزمجراً ليدكّ صروح الطغيان . كان كالفراشة التي نسجت خيوطها الحريرية في فليجتها واستمرأت العيش فيها أمدا ثم حطمت سجنها وانطلقت حرةً في منفسح الفضاء، فإذا هذا الشعر الصافي المعطاء يحور في شفتيه إلى صيحة مدوية تدعم صيحة زعيم الهند غاندي وتوقظ أبناء وطنه من سبات الاستسلام، مهيبة بهم أن ينزعوا الخوف من نفوسهم حاملة لهم مشعل الحرية الموعودة فيقول:
“ايه يا وطني، اطلب إليك الخلاص من الخوف ،
هذا الشبح الشيطاني الذي يرتدي أحلامك الممسوخة،
الخلاص من وقر العصور، العصور التي تحني رأسك
وتقصم ظهرك.
وتصم أنيك عن نداء المستقبل.”
ولما قامت في الهند عام 1919 ثورة (البنجاب) وقمعتها انكلترا بالدم والنار، احتج طاغور على ذلك بمقالات تتأجج عنفاً، واعاد إلى ملك انكلترا لقب (سر) الذي كان قد منحه إياه تقديراً لعبقريته.
- الإسلام في منظور طاغور
إن الشاعر والفيلسوف الهندي رابندرانت طاغور (1857-1941) الذي تربى في كنف أسرة ميسورة الحال من الجانب البنغالي في كلكتا، كان يقول عن نفسه: “سأحطم الحجر وأنفذ خلال الصخور وأفيض على الأرض وأملأها نغما، سأنتقل من قمة إلى قمة، ومن تل إلى تل، وأغوص في واد وواد. وسأضحك بملء صدري وأجعل الزمن يسير في ركابي”. إنه الشاعر الذي وصف نفسه بأنه “كالبخور لا ينتشر عطره ما لم يحرق وبأنه كالقنديل لا يشع ضوءه ما لم يشعل”، كما يعد طاغور شاعر الطبيعة والروحانيات والجمال الصوفي.
اهتم طاغور بدراسة الاديان وكتابه “دين الإنسان” من أهم الكتب التي صاغها من فكره وقراءاته وفلسفته، يقول طاغور “إن كل طفل يولد في عالمنا هذا هو آية حية تقول لنا إن الله لا ييأس من بني الإنسان”.
دعا رابندرانات طاغور الأستاذ الدكتور عبد الكريم جرمانيوس، أستاذ جامعة بودابست والذي عمل أستاذا للّغات العربيّة والتركيّة والفارسيّة، وتاريخ الإسلام وثقافته في مختلف الجامعات إلى الهند، فبدأ عبد الكريم جرمانيوس رحلته الشهيرة للهند في عام 1929، وذلك لإنشاء قسم الدراسات الإسلامية في جامعة سانتينيكيتان بكلكتا، و أمضى ثلاث سنوات في البنغال. وخلال وجوده بالهند حاضر في العديد من جامعاتها والتقى بالزعيم المهاتما غاندي وقادة آخرين. وفي عام 1934 زار العاصمة الهندية نيودلهي بدعوة من عميد جامعة دلهي الإسلامية زاكر حسين الذي أصبح رئيسا للهند لاحقا عام 1967. يقول جرمانوس إنه كان يشعر بفراغ روحي قبل زيارته لنيودلهي، وما لبث أن أشهر إسلامه في جامعها المعروف باسم “شاه جيهان”. بعدها ألقى خطبة في المسجد ذاته عن ازدهار الإسلام، وقد لاقت صدى واسعا في الهند والعالم الإسلامي وتناقلتها الصحف.
وبعد اعتناقه الإسلام اختار جرمانوس لنفسه اسم (عبد الكريم)، وأصبح يعرف في العالمين العربي والإسلامي بهذا الاسم، كما اعتنقت زوجته الإسلام وأديا لاحقا فريضة الحج. واستطاع أن يدعو للإسلام والرسالة المحمدية وسط مجال عمله حيث كان يعمل أستاذًا في جامعة (لورانت أنوفيش). وتبع عبد الكريم جرمانيوس كثرةٌ هائلةٌ من داخل الجامعة وخارجها، حتى إن الجامعة خصصت كرسيًّا للتاريخ العربي والإسلامي، باسم عبد الكريم جرمانيوس.
ألف طاغور النشيد الوطني الهندي جانا غانا مانا (تلفظ: جانا گانا مانا) ، وأُنشد أول مرّة في مدينة كالكوتا في 27 كانون الأول عام 1911 في إحدى جلسات الجمعيّة الوطنيّة الهنديّة، وفي 24 كانون الثاني عام 1950 اعتمدت أجزاء من قصيدة جانا غانا مانا من قبل الجمعيّة التأسيسيّة الهنديّة وجعلتها النشيد الوطني للهند. والنشيد الوطني يشير إلى ثقافة الهند التي تتسم بدرجة عالية من التوفيق بين الأديان، والتعددية الثقافية. ولقد نجحت الهند في الحفاظ على التقاليد القديمة مع استيعاب العادات والتقاليد والأفكار من الغزاة والمهاجرين، ونشر أعمال تأثرها الثقافي على أجزاء أخرى من آسيا، لا سيما في جنوب شرق وشرق آسيا.
ويؤكد طاغور أن الإسلام “هو الدين الذي جعل للاديان التي سبقته قيمة، فهو الدين الذي لم ينكر دينا قبله، بل تحدث في كتابه الشامل عن الأديان، ومستقبل البشر، لم يكن محمد صاحب شهوة أو نزوة ولم يؤلف القرآن بل كان الوفاء والإخلاص، لذا لم ينكر قصص الأنبياء قبله، وتركها كما املاه الوحي، لتظل شاهداً على صدقه وامانته ووفائه وإخلاصه. لهذا كان الإسلام قوياً وسيظل قوياًن ما بقى القرآن يحفظه الله”.
ويعبر طاغور عن عشقه للحب والجمال والحياة بهذه الكلمات الصوفية. “أبـدأ رحلـتـي صـِفـر الـيـدين، ولكـن بقـلب مـُفـعـم بـالـرّجـاء، فأنا عـلـى يقِيـن أنـّي سأحـبّ الـموت كـمـا أحببت الـحـيـاة”.
- الإسلام سيظل رافعاً راياته
يقول طاغور: “الإسلام دين عظيم، استطاع أن يشد إليه الناس في كل مكان، لذا فاعداؤه كثيرون، لكنه لبساطته القوية، سيظل رافعاً راياته”.
كما قال في قصيدة له : “سأحطم الحجر وأنفذ خلال الصخور وأفيض على الأرض وأملأها نغما، سأنتقل من قمة إلى قمة، ومن تل إلى تل، وأغوص في واد وواد. وسأضحك بملء صدري وأجعل الزمن يسير في ركابي”، وتشير هذه الكلمات لحياة طاغور بالفعل حيث تمكن من الوصول لكل بلاد العالم بشعره وأفكاره، وإيمانه القوي بالإنسان والطبيعة، ووصف نفسه من قبل بأنه “كالبخور لا ينتشر عطره ما لم يحرق”.
ونال بسبب ديوانه “جيتنجالي” جائزة نوبل للآداب وكان أول شاعر شرقي يفوز بها حتى قال الكاتب الفرنسي أندريه جيد “ليس في الشعر العالمي كله ما يداني طاغور عمقاً وروعة”.
في عام 1909 انشأ طاغور في إحدى ضواحي “كلكتا” مدرسة سماها “شانتينيكيتان” والتي تعني “مرفأ السلام” حرص فيها أن يتلقى الطلبة دروسهم إلى جانب التمتع بالطبيعة والمساهمة في المحافظة عليها والزيادة في تجميلها، وقد ألقى طاغور في هذه المدرسة العديد من المحاضرات التي جمعها في كتابه الشهير “سادهانا”.
جاء إنتاجه غزيرا ما بين فلسفة وشعر ورواية وقصة ومسرح، نشر أولى محاولاته الشعرية في إحدى المجلات الأدبية الصادرة بكلكتا، وقد لقبه الزعيم الهندي المهاتما غاندي بـ “منارة الهند”، وجاء ديوانه الأول بعنوان “أغاني المساء” ونال تشجيع الأوساط الأدبية وثناء النقاد، وأعقب ديوانه هذا بديوان “أغاني الصباح”.
- الإعجاب برعاية الأزهر للإسلام
زار طاغور العديد من دول العالم كان أولها عندما أرسله والده إلى انجلترا لدراسة القانون ولكنه لم يوفق في ذلك، وبالرغم من أنه لم يعود إلى بلاده بالشهادة التي كان يتمناها والده إلى أنه تمكن من جمع حصيلة وافرة من المعلومات والتجارب التي أضافت لاهتماماته في مجالات الأدب والموسيقى، ثم قام برحلة ثانية إلى أوروبا زار فيها انجلترا مارا بفرنسا وايطاليا، كذلك قام برحلات أخرى حول العالم حققت له الكثير من الشهرة العالمية، حيث اتخذ منها جسراً يصله بكبار أدباء العالم، كما ساهمت في التعريف بأدبه ورسالته إلى أن رحل عام 1941 في الثمانين من عمره .
وفي عام 1936 زار جمهورية مصر العربية ووقف على أهمية الأزهر في نشر الدعوة الإسلامية وأبدى إعجابه برعايته للإسلام وبالعلماء الذين درسوا الإسلام، وقال أن الأزهر قيمة عالمية يجب تقليدها في كل مكان، متمنياً أن يكون بالهند أزهر كأزهر مصر.
- الخاتمة
إن طاغور يؤسس مشروعا مهما لكرامة الإنسان، وحريته في شعره كله ونثره وكتابته الفكرية، حين يجعل منه الجوهر الأصلي لتظاهرات الكون. يحتضن الكون، ويصهره في داخله ويعيد صياغته وفق مشيئة هذا الجوهر الإنساني. فقد نذر حياته وتفكيره وشعره ومواقفه لتطوير حال الإنسان وإيمانه بأنه طاقة محركة للكون.
ومن المهمّ أيضًا أننا حين نقرأ تركيز طاغور على الذات، فإننا لا نرى عنده البتة أي أثر للأنانية، فهو يطرح الذات على أنها الكون في تجلِّيه المهم. وهذه هي ديانةُ الشاعر التي من المنتظر أن يعتنقها في حياته ويترك مفاهيمها تتسلَّل في أفكار قرائه ومُحبيه. طاغور لا ينشغل إذن بأناهُ، فليس هناك وقتٌ لهذه الأنا بمعزلٍ عن نهر الحياة، وفيضان الأشياء، وتيار حياة الكون.
لقد كان أحد رموز التجديد في الادب الهندي وكانت لغته الرمزية في الشعر تتفوق علي نتاج كثير من شعراءالصوفية ممن يغرقون في رموزهم وإيماءاتهم وإيحاءاتهم المكثفة، كما أن أشعار طاغورذات سمات رقيقة ونسيج لاتخترقه النظرة البليدة.