الدراسات الثقافيةدراسات إسلامية

عيد المولد النبوي بين المغرب والمشرق

الأسباب التي كانت وراء إنشائه في الغرب الإسلامي

لقد أمسى المسلمون في الأندلس يقلدون جيرانهم المسيحيين في الاحتفال بأعيادهم وفي صنعهم “الماكيطات” من الحلوى.


هنا فكر العلماء في الشبيه الذي لم يكن غير سن الاحتفال بعيد المولد النبوي حيث صدر المرسوم الملكي (691=1291) أيام العاهل المريني يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بجعل المولد النبوي من الأعياد الرسمية للدولة المغربية إلى جانب عيد الفطر وعيد الأضحى…


في تأليف لي صغير بعنوان: “الإلمام بمن وافق حكمه للمغرب استهلال المائة عام” أشرت إلى أن الذين تنبهوا في ديار المغرب إلى الاحتفال بعيد المولد النبوي هم بنو العزفي أصحاب سبتة أواخر القرن السادس على نحو ما ظهر في المنطقة الكردية بالعراق كما يحكيه لنا الحافظ ابن دحية الأندلسي البلنسي عندما زار إربل وهو في طريقه إلى خراسان عام 604=1208.


ولم تلبث الدولة المغربية أن تبنت السنة العزفية اقتناعا منها بضرورة شد الجماهير إلى التمسك بالبيئة الإسلامية والتعلق بالنبي الكريم، وهكذا ظهر- كما أسلفنا- (مرسوم ملكي) شتاء عام 691=1292 في أعقاب جواز العاهل المريني إلى الأندلس لرد عدوان المغيرين على الثغور التابعة للمغرب.


ووجدنا العاهل يشرع الاحتفال بعيد المولد في سائر جهات المغرب، ويعتبره يوما رسميا للدولة تتبادل فيه التهاني بين سائر طبقات البلاد وهو الأمر المحمود الذي استمر عليه التقليد إلى اليوم في بلاد المغرب.


وإذا كانت مجالس الاحتفال بهذه المناسبة قد أصبحت عادية عند ملوك بني مرين بالمغرب… فإنها عند إخوانهم بني عبد الواد في تلمسان أثارت انتباه يحيى ابن خلدون الذي تحدث عن المشاعل التي كانت تحكي الأسطوانات القائمة، كما يحكى عن المباخر الضخمة، ويحكي عن السماع الذي يسترسل إلى آخر الليل والذي ينتهي بنصب الموائد…


وبالإضافة إلى ما قرأناه عن المغرب الأقصى والمغرب الأوسط نجد أن كتب بعض المؤرخين للأندلس لا ينسون تفصيل الحديث عن الاحتفال بالمولد النبوي الذي كان يقترن في بعض المناسبات بفعاليات بالغة في المتعة والإطراف على ما نقرأه مثلا بمناسبة الحديث عن اختراع “ساعة الشمعة” التي تحدث عنها لسان الدين ابن الخطيب في كتابه ” نفاضة الجراب في غلالة الاغتراب”.


“… وأما احتفالات مظفر الدين (صاحب إربل) بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به، لكن نذكر طرفا منه” – يقول ابن خلكان.


وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، (أي في الاحتفال بعيد المولد) حيث كان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل، مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي – خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء،


ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر، منها قبة له أكبر، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة.


فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد في كل قبة جوق من المغاني وجوق من أرباب الخيال، ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق في كل قبة حتى رتبوا فيها جوقا، وتبطل معايش الناس في تلك المدة، ولا يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم.


وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب “الخانقاه” المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف على كل قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب، ويبيت في “الخانقاه” ويعمل السماع.


ويكرب عقب صلاة الصبح يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر… هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، وسنة في الثاني عشر لأجل الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرا زائدا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان.


ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور ويطبخون الألوان، المختلفة فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع – أشك في ذلك – من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه.


فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على يدي االصوفية، على يد كل شخص منهم بقجة، وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه وتجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ.

وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس والكرسي، وشبابيك أخر للبرج أيضا إلى الميدان.


وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس الوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطا ثانيا في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي.


وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحد واحدا من الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد منهم ثم يعود إلى مكانه، فإذا تكامل ذلك كله حضر السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك.


ويعمل السماعات إلى بكرة، هكذا يعمل في كل سنة، وقد لخصت صورة الحال فإن الاستقصاء يطول، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلده، فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة، وقد ذكرت في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية وصوله إلى إربل وعمله لكتاب “التنوير في مولد السراج المنير” لما رأى من اهتمام مظفر الدين به، وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته من الإقامات الوافرة.


ولا بد أن نلاحظ – بعد كل هذا – أن الدواعي التي كانت وراء إنشاء مثل هذا الاحتفال بعيد المولد لم تكن فقط التنكيت على الشيعة الذين اعتادوا الاحتفال بمولد الإمام علي والحسين، ولكن الأمر يتعلق بتعقب العادة التي جرى عليها المسيحيون في احتفالهم بعيد المسيح، أو بالحرى بجعل شبيه لما أخذ بعض المسلمين يقومون به في الأندلس على ما قلناه.


إن الظاهرة التي لفتت أنظار العلماء وأهل الغيرة في الدين هي التي تجلت في أن بعض المسلمين في الأندلس أخذوا يشاركون المسيحيين في احتفالاتهم بعيد السيد المسيح!! ألسنا نؤمن أيضا بالسيد المسيح؟ بل أن الشهور الشمسية – بما يتبعها من أعياد ومناسبات – أخذت تطغى على الشهور القمرية، وبذلك لا حظوا أن “اندماج” المجموعة الإسلامية في المجموعة المسيحية أخذ في الطريق!!


لقد كان في جملة ما يقوم به المسيحيون في تلك الاحتفالات أنهم يصنعون رسوما مجسمة (ماكيت) بالعجين والحلوى… رسوما تختلف حجما وتركيبا حسب المركز الاجتماعي للأسرة… التي يجتمع أفرادها للاحتفال قبل أن يتوزعوا أطراف تلك الماكيتات!


مختصر لمقال الدكتور عبد الهادي التازي حول عيد المولد النبوي.

عبد الهادي التازي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى