“غزو العراق” من منظور “المهدي المنجرة”
ما علاقة متحف بغداد أو المكتبة الوطنية العراقية بأسلحة الدمار الشامل؟ أو الإطاحة برئيس الجمهورية؟ إنه فعل مقصود لإهانة شعب ومحو (قتل في النص الأصلي) ذاكرته.
الصراع الحقيقي بين الدول قائم أساسا على القيم وليس على الدفاع عن مصالح اقتصادية وهو ما يسمى بالاستعمار الحقيقي الجديد.. الناس لا تذهب إلى الحروب من أجل مصالح اقتصادية وإنما من أجل القيم التي يريدونها أن تهمين على العالم.
وفي هذا الصدد فإن الحرب التي خاضتها مثلا الولايات المتحدة الأمريكية على العراق هي دفاع عن القيم الأمريكية التي يريدونها أن تسيطر على العالم.. الجنوب له قيمه والشمال له قيمه أيضا، وهذه الهيمنة على القيم هي الاستعمار الحقيقي الجديد.
والشعوب تعيش فجوة لما تشعر أن قيمها لم تُحترم، وأن العلاقة العاطفية بين مجتمعاتها وحضاراتها تنفصل مما يضطرها إلى أن ترتمي في أحضان قيم أخرى.. هذا هو الاستلاب.. والحوار شمال جنوب غير ممكن لأن الشمال لا يمكن أن يقبل بقيم أخرى غير قيمه.. وجورج بوش الأب عندما أعلن الحرب على العراق سنة 1991 قال لا أقبل أن يكون هناك أحد يغير حياتنا وقيمنا.
الذي وقع هو أن حوالي 200 ألف قطعة أثرية كانت موجودة بالمتاحف ضاعت إما عبر سرقتها أو تدميرها.. هناك مكتبة مشهورة ببغداد هي المكتبة الوطنية العراقية احترقت بداخلها الكتب.. وهناك نسخة من القرآن مكتوبة بخط سيدنا علي أُحْرِقَتْ.. هذه وحشية مورست من طرف الجيش الأمريكي ومن طرف الحكومة الأمريكية.
إنها ذاكرة للإنسانية جمعاء تضيع.. وحين كنت مسؤولا باليونيسكو كنت أُشْرِفُ على عدد من المنشآت الثقافية عبر العالم ومن ضمنها هذا المتحف وهذه المكتبة.
وأنا أعرف بِأَيِّ حب كان العراقيون يهتمون بتراثهم.. فالأنظمة السياسية تتغير لكن التراث الثقافي يبقى هُوَ هُوَ دائما، لكن الحكومة الأمريكية مع الأسف تصرفت بطريقة وحشية ومقصودة.
حين يصبح اللاَّنِظَام هو المهيمن بالأمم المتحدة، وتقوم دولة كالولايات المتحدة بدون اتفاق دولي بالهجوم على دولة أخرى وتقتل منها عشرات الآلاف، ولا تحترم الاتفاقات الدولية مثل اتفاقية لاهاي، وتكسر 200 ألف قطعة جمعت خلال 7 آلاف سنة، وتحرق الكتب.. أي أمل يبقى في دولة مثل هذه؟
هذا جزء من البشاعة والوحشية الجديدة.. فما علاقة متحف بغداد أو المكتبة الوطنية العراقية بأسلحة الدمار الشامل؟ أو الإطاحة برئيس الجمهورية؟ إنه فعل مقصود لإهانة شعب ومحو (قتل في النص الأصلي) ذاكرته.
أمريكا تقول إذا لم تخفكم أسلحتنا وطائراتنا، فلدينا وسائل أخرى منها أننا سندمر تراثكم الثقافي، وهذا سلاح لم يُستخدم من قبل.. نعم هجموا على بغداد عام 1258 ودمروها (حطموها في النص الأصلي)، لكنهم احترموا بعض الأشياء وهي لا زالت موجودة.. وحتى في الحروب الصليبية لم يمسوا التراث الثقافي.
إن ممارسة الثقافة والحضارة شيء عضوي، والولايات المتحدة الأمريكية نظرا لتاريخها المعاصر القصير ليس لديها هذا الارتباط العضوي بالفن باستثناء بعض الأساتذة والنقاد والمختصين وبعض الهواة.
هنا تنعدم العلاقة العضوية بين القطعة الفنية والفرد، لأن هذا الأخير يراها من الخارج ولا يشعر بها في دواخله.. أما العراقي حين يستمع مثلا إلى عزفٍ على آلة العود فهو لا يرى فيه العود فقط، وإنما يعيش حضارة بأكملها (بأسرها في النص الأصلي) في داخله.
أمريكا تهتم بالفن في جامعاتها ومراكزها، ولكنها تجهل ما هو فن الآخر وتاريخ الآخر، إن 90 % من ال 400 ألف جندي أمريكي الذين كانوا متواجدين بالعراق أنهوا دراستهم في مرحلة الثانوي.
فالجهل حين يتزوج بالعجرفة والقوة العسكرية القاتلة العمياء تحدث أشياء مثل هذه.. أمريكا تظن أننا سنصبح نستهلك ثقافة سريعة كما تأكل هي الماكدونالدز، ثم تأتي وتبني لك متحفا بسرعة.
وفقا للقانون الذي يعاقب من لا يقدم المساعدة لشخص في خطر، يجب أن تُعَاقَبَ اليونيسسكو على عدم تقديم المساعدة للتراث العراقي الذي داهمه الخطر الأمريكي وأتى بالفعل على جزء كبير منه.
السرعة التي وقع بها صدام كانت متوقعة، رغم أنني لا أحب التحدث عن الأشخاص، أنا كتبت مئات ومئات المواضيع حول بغداد والعراق ولم أستعمل في أي واحد منها إسم صدام حسين، هذا الاختزال الذي فرضه علينا الغرب، حيث عوض أن نتحدث عن عراق العراق نتحدث عن عراق صدام حسين ومصر مبارك وسوريا الأسد.
صدام حسين أحضره الغرب لغرض معين: لمحاربة المسلمين في إيران، وما فعله الأمريكان مع صدام هو نفس ما فعلوه مع ابن لادن، الذي أتوا به لغرض معين من أجل إشعال الحرب في أفغانستان، ولما انتهت مهمته انتهى.
المفاجأة في سقوط النظام العراقي هي في السرعة، فمن الناحية الاستراتيجية استعملت أمريكا الطائرات بدون طيار التي ضَحَّتْ بعدد كبير منها، والدفاع العراقي أطلق النار عليها ظنا أنها تحمل طيارين حقيقيين.
وبهذا الشكل كان يكشف عن أماكن دفاعه للعدو، من جهة أخرى الجيش العراقي اتخذ المطار رمزا للدفاع فبقيت بغداد مكشوفة (فارغة في النص الأصلي) تقريبا مما سهل الدخول الأمريكي إليها، أُضِيفُ شيئا آخر فمن سلبيات الديكتاتوريات هو عندما يكون الحكم مركزا كلية بيد رجل أو إثنين أو ثلاثة ولا تجد التفويض للآخرين.
فهذه المركزية القصوى التي هي جزء من الديكتاتورية، فإن كانت تنفع عسكريا أحيانا، فإنها لا تنفع عندما تأتي ظروف تُحَتِّمُ توزيع الأدوار وتفويض السلطة، وهذا ما لم يقم به صدام، وهو ما ترك فراغا في السلطة.
وليس هناك أي توزيع أدوار في أي دولة عربية أخرى.. ننظر إلى العكس في أمريكا، فالجيش الأمريكي كان مسيرا من البانتاغون من جهة ومن البيت الأبيض ومن القاعدة في قطر وغيرها، وما يُتِيحُهُ هذا من تبادل للمعلومات، شأنه في ذلك شأن فريق لكرة القدم، كل واحد يفهم دوره جيدا.
طبعا الناس لا تعرف الدور الأساسي الذي لعبه الجيش الإسرائيلي لأنه كان دائما يتدرب في غزة وفي جنين على الحرب بين الجدران، ويقال إن أول دبابة دخلت إلى بغداد كانت إسرائيلية.
ما رأيناه في القنوات ما هو إلا رواية.. العراقي لا يمكن أن يمس تراثه.. لقد أمضيت سنوات في اليونيسكو وأعرف أن العراقيين لا يمكنهم فعل ذلك، أولئك الذين رأيناهم في التلفزات هم مُسَخَّرُونَ وَمُرْتَشُونَ وَمُرْتَزِقَةٌ للقيام بذلك.
لكن الجيش الأمريكي هو الذي ضرب وهاجم قلب المتحف، وَانْتَقَى بعض النفائس والأشياء الثمينة من المتحف وهَرَّبَهَا، وحين قال جاك شيراك إنها جريمة ضد الإنسانية كانت الجملة الشجاعة الوحيدة.
لقد أمضيت 20 سنة في اليونيسكو وخمس سنوات في قطاع خاص بالثقافة، وأقول إنها جريمة ضد الإنسانية شاركت فيها اليونيسكو نفسها، ولم أكن أتصور أن يكون موقف هذه المنظمة غائبا لهذه الدرجة التي تتذرع بأنها لا يمكن أن تفعل شيئا،